نفحات طاغوتية (2)
م. محمد حسن فقيه
وما هي إلا أيام قليلة ، انكب فيها الباحثون من السادة العلماء بعمل بحوثهم وتجاربهم بدأب ونشاط ، حتى لاحت بشائر بحوثهم مطمئنة واعدة لاختراع (الإكسير) المزعوم ، وبعد زفاف الخبر إلى سيادة الوالي ، صدرت التعليمات والقرارات إلى إدارة السجون بإعداد القوائم للسجناء السياسيين المزمع الإفراج عنهم ، كما صدرت التعليمات لوزارة الإعلام ووكالات الأنباء لتغطية الحدث على مستوى عال ، حتى تتحدث به الصحف العالمية ومنظمات حقوق الإنسان ناهيك عن الصحف المحلية ، وبالفعل فقد تصدرت الصحف المحلية منها والعالمية عناوين بخط عريض على الصفحات الأولى منها :
سيادة الوالي يوقع مرسوما جمهوريا بالعفوعن جميع المعتقلين السياسيين ويصدر امرا بالإفراج عنهم.
وفي صحف اليوم التالي :
)جماعات السجناء السياسيين من كافة التوجهات والأحزاب تعود إلى بيوتها أفواجا أفواجا ، سالمة غانمة بأوفر صحة وأحسن حال ! وهي تدعو لسيادة الوالي بطول العمر ودوام حكمه العادل ) .
وبالطبع لم تخل صفحات الصحف مع هذا المهرجان الكبير من تقديم آيات الشكر والولاء من قادة الأحزاب ، والشخصيات المعروفة ، ووجهاء الأمة وأعيانها وأصحاب الشركات ورجال الأعمال لسيادة الوالي وحكومته المجيدة وسياسته الرشيدة .
كما أن نفس المواضيع طرحت في جميع الصحف بأساليب وأشكال متعددة ، ولكنها طرحت جميعا بهدف واحد ، وتدندن حول نفس المعنى
- الحرية : ( الحرية مطلب الجماهير الكادحة )
- الديموقراطية : (الديموقراطية اساس الدولة المتين )
- التعددية : ( التعددية الحزبية والسياسية أمر بدهي لاحترام آراء الآخرين في ظل دولتنا المجيدة)
- حرية الصحافة : ( حرية الرأي والرأي الآخر من أهم مقومات سياسة دولتنا الحكيمة (
- حرية الكلمة : (حرية الكلمة ورفاهية المواطن هما الأساسان المادي والمعنوي لمعنى المواطنة الحقيقية (
كما طرحت مواضيع أخرى من نفس السلسلة.
لقد كان حدثا استثنائيا غريبا وفريدا من نوعه ليس على جمهورية الوالي فحسب بل على المنطقة بأسرها ، وقد حظي هذا الحدث الهام بتحليل وتمحيص دقيقين من الدول المجاورة ، والتي كان وقع الحدث عليها كالصاعقة ، لأن شعوبها والمعارضة ، وكذلك منظمات حقوق الانسان ، ستطالبها أن تحذو حذو دولة سيادة الوالي .
إذ أنها بدت في موقف محرج أمام شعوبها ، والرأي العام الخارجي ، ومنظمات حقوق الانسان، فهي غير قادرة على العفو عن سجنائها مما قد يعرض حكومتها للسقوط والإنهيار ، وبنفس الوقت هي أيضا غير قادرة على تجاهل الحدث وما يدورحولها ، ولن تصمد طويلا أمام الضغوط الخارجية ، والغليان الداخلي والذي قد ينذر بثورة ، ومع إ يفادها لجنة أمنية لدولة سيادة الوالي للوقوف على خفايا هذا الأمر ، والإستفادة من تجربة مخابرات سيادة الوالي ، إلا أنها عادت خائبة بخفي حنين .
لم يمض على أعياد النصر ، وذكرى التصحيح التاريخي إلا أسابيع معدودة- قبل أن تكتمل فرحة المحررين السياسيين وذويهم بدت تظهر عليهم أعراضا جديدة ، وتصرفات غريبة ، ما عهدها فيهم ذووهم من قبل ، وطباعا لم يألفوها بهم في سابق عهدهم ، بل كان الأكثر إلفاتا للنظر ، هو اشتراك الجميع بهذه الأعراض من اللامبالاة وبلادة التفكير، والكسل والخمول ..... والإهمال ، وعدم الإكتراث بكل ما حولهم وبما يكتنف العالم من تطورات وتغيرات ، بعد ما كانوا شعلة متقدة من النشاط و" دينمو" من الحركة في سابق عهدهم ، قبل زجهم في السجون .
لقد فعل (إكسير الوطنية ) فعله المنشود ، وتحول رجال التمرد وأصحاب الأفكار الناشزة إلى قطط أليفة ، ناعمة الملمس ، لا يهمها من هذه الحياة ، إلا أن تقدم لها قطعة اللحم وتمسح على ظهرها ، لتجلس بين قدميك ، وهي تهرّ مذعنة ، تتمسح برجليك وتهز بذيلها ، وتبربر معلنة عن الطاعة والتسليم المطلق ، وهي تعيش أقصى لحظات سعادتها ! .
وبمنتهى الدقة والسرية ، تم عرضهم على إخصائيين نفسيين من قبل البقية الباقية من رجال أحزابهم ، الذين بقوا خارج الأسوار، وبعد عمل التحاليل والإختبارات اللازمة ، انكشف السر ، وبان السحر ، وخرج الجميع بنتيجة واحدة تدور حول مركب نفسي أعطي للجميع بلا استثناء ،هو السبب في هذه الأعراض والسلوكيات التي عمت جميع المحررين .
ودب اللغط هنا وهناك ، وانتشر الحديث بين الناس ، وتناقلته الألسن من شخص لآخر ، ومن حي لثان، ومن بلدة إلى أخرى نائية ، كانتقال النار في الهشيم حتى وصل الخبر إلى البلدان المجاورة ، والتي كانت في موقف محرج لا تحسد عليه ، رأت في هذه الأسرار متنفسا لها ، بل تبجحت في وسائل إعلامها ملمحة تغمز من مخابرات دولة سيادة الوالي وانجازه العظيم ، فكتبت في صحفها :
- (عاقل يفكر بين أربعة جدران ، خير من آلة دجل ونفاق خارج الأسوار)
- (البعض يحافظ على العقول ويقيدالأجساد لكن الآخرين يسلبون العقول ويرمون بأجساد أصحابها في الغابة( .
- (عبد مقيد يفكرخير من ملك حر بليد ).
بدأت خيوط التنسيق والإئتلاف تنسج بين الأحزاب المعارضة ، حتى التي اتخذت من بعضها البعض موقفاعدائيا في الفترات السلبقة ، واستطاعوا تنظيم تظاهرات ليلا وهم في حالة تمويه وأقنعة بقيادة بعض رجال الأحزاب الذي كانوا خارج القضبان ، وذوي المعتقلين الذين أفرج عنهم ، وقاموا بتوزيع منشورات على المواطنين ، تكشف السرالخفي وراء الإفراج ، وتفضح لعبة الوالي ومكيدته.
ووصل الأمر بحذافيره إلى سيادة الوالي فدعا إلى اجتماع طارئ.
رمق سيادة الوالي العالم صاحب الإختراع العظيم بنظرة ملؤها الصغار والسخرية ، ثم توجه إليه مخاطبا : هل أعجبك ما حصل يا سيادة العالم الجهبذ والعبقري ، يا صاحب الرأي السديد والفكر الرشيد ، أم لعلك تنتظر استلام المكافأة ، فنرجو المعذرة إن كنا قد تأخرنا في تسليمك إياها ! .
أجاب العالم بصوت لا يكاد يسمع ، وبذل ظاهر ونفس منكسرة : يا سيادة الوالي إني أقدم إعتذاري الشديد لما حصل ، والجميع يعلم أن هدفي لم يكن سوى إرضاء سيادتكم ، لأجل الوطن ومصلحته العليا ، كما أن الجميع وافقوا على الفكرة يا سيادة الوالي .
أجاب الوالي : الجميع مخطئون ، لم تفكروا بالأمر بروية ، وتدرسوا الفكرة جيدا .... لكن دعكم الآن من تضييع الوقت في اللوم والقيل والقال ، وابحثوا عن حل ناجع ، يخرجنا من هذه الورطة بل الكارثة ، وقلبوا الفكرة جيدا على جميع وجوهها ، وإلا لن يكون لكم شفيع .
رفع أحد المستشارين يده يستأذن بالحديث ، وبعد أن بدأ حديثه بتقديم آيات الشكر والثناء ، قاطعه الوالي صارخا : إدخل في نص الموضوع مباشرة ، ارتبك المستشار قليلا وتلعثم صوته ، وبعد أن استعاد رباطة جأشه اسأنف حديثه : سيدي الوالي إن الفكرة السابقة كانت سديدة ووجيهة ، لكن الخلل فيها هو انكشاف سر ( الإكسير) على ذوي المساجين ورجال أحزابهم ، وتشابه الأعراض بين الجميع.
قاطعه سيادة الوالي مرة أخرى قائلا: وفسر الماء بعد الجهد بالماء ، إن جميعنا نعرف هذا ..... لكن ماذا بعده .
- لذا فإني أرى أن حل المشكلة بسيط يا سيادة الوالي ! .
أجاب الوالوالي بعصبية وقد أوشك صبره على النفاذ: الحل بسيطًٍَ ! وماذا تنتظر يا سيادة الجهبذ العبقري حتى تتحفنا به.
- أمرك يا سيدي : نطبع منشورات ندعو فيها جميع الأحزاب ، وأصحاب الأفكار والمبادئ الهدامة ، وذوي المساجين ، لتنظيم تظاهرات ضخمة ، احتجاحا على وضع السجناء المفرج عنهم ، ثم نوزعها سرا وتحت جنح الليل .... ونحدد موعد التظاهرات وأمكنتها ، وكل شيء عنها ، ونجعل موعدها ليلا.
صرخ الوالي بعصبية وصوت مرتفع وقد نفذ صبره : هل جننت يا سيادة المستشار .... هل تريدنا أن نحفر قبورنا بأيدينا .. هل تريد إساءة سمعتنا أكثر أمام الرأي العام العالمي ... إن عهدي بك رجلا عاقلا متزنا .... فماذا دهاك .. أمس من جنون أم لعلك تهذي يا هذا ؟ .
عفوك يا مولاي ، ما اعتراني هذا ولا ذاك ، ولن يخيب ظنك بي ، ولكني استسمح من سيادتكم ، وأرجو أن تأذن لي بإتمام الحديث لكشف بقية الخطة ، وإن لم تنل رضاكم فإني أقدم إعتذاري مسبقا عن ذلك .
- تفضل وأكمل خطتك يا سيادة الجهبذ العبقري.
- إن فكرتي تقتضي بأن العلاج يكون يحسب الحكمة القائلة ( وداوني بالتي كانت هي الداء ( ، نكون بهذا قد علمنا بموعد التظاهرات ، وخط سيرها وأماكن تجمعاتها ، وحشدنا فيها جميع الناس من المعارضين وأنصارهم وذويهم ، من جميع الكتل والأحزاب ، أصحاب الأراء والأفكارالمناوئة لنا ، في أماكن وأوقات محددة ، ثم يقوم جنودنا من رجال الأمن بالتغلغل داخل الحشد ، ويقودون التظاهرات ويرفعون الشعارات ، ويرددون الهتافات .
وبعد لحظة وجوم قصيرة ، وسيادة الوالي ينظر إليه بغضب شديد ، يهم أن ينفجر في وجهه ويصب جام غضبه عليه ويطرده خارج القاعة إلا أنه كظم غيظه ، وضبط أعصابه ، حتى يرى نهاية الخطة .
استانف المستشار إكمال خطته : ثم نقوم بسد جميع المنافذ ، وضرب طوق حصارحول الجميع ، ثم نطلق قنابل مضيئة فوق منطقة التظاهرات ، ونطلق معها قنابل تحوي غازا له نفس تأثير الحقن من (إكسير الوطنية ( وبالتالي فإن المشكلة تعمم على الجميع ، ومن شابه زميله فما ظلم ! .
هز الوالي برأسه هزات خفيفة تنم عن نوع من الرضا عن الخطة بعد أن سمع تلك النهاية ، إلا أنه إبتدر العالم متسائلا: وماذا سيكون مصير جنودنا ورجالنا الذين سيسدون المنافذ ويتغلغلون بين المتظاهرين ؟ .
- وماذا سيصيبهم يا سيدي ... سيتحولون إلى قطط أكثر إلفة وأنعم ملمسا .
- وماذا لو كشفت الأحزاب خطتنا وابتعدوا عن التظاهرات وقاطعوها ؟ .
- سنفكر عندها بحل آخر ، ولكني أظنهم سيبتلعون الطعم يا سيادة الوالي ، خاصة إذا تمت أمورنا بكامل السرية ، ونفذت خطتنا بدقة تامة وأعتقد أن ترتيبات كهذه من اختصاص إخواننا في الأمن .
التفت سيادة الوالي إلي يمينه يسال صاحب الإختصاص : وما رأي مسئولينا للأمن القومي والقطري والسياسي والوطني والإقليمي والجوي والعسكري والمدني و... في هذه الفكرة والخطة الجديدة ، وكيف يتم حبك خطتها لضمان تنفيذها ؟ .
أجاب وزير الداخلبة : بالإضافة إلى موضوع السرية والدقة التي ذكرت ياسيدي ، فإني أقترح أن تصدر المنشورات باسم حزب لا وجود حقيقي له على أرض الواقع وليكن مثلا : ( الوطنيون الأحرار( يظن البعض أنه حزب جديد أفرزته الأحداث الأخيرة ، أو اسم وهمي لا وجود له وذلك ضمانا للسريّة ، واحتياطا من عدم كشف الحزب الحقيقي، صاحب الفكرة الرائدة .
سأل الوالي قادته ومستشاريه : ألا تتوقعون أن يبرز لنا إشكال أكبر مما حصل معنا في الخطة السابقة ، و لونجحت الخطة في بدايتها ونفذت بدقة متناهية بحذافيرها كما رسم لها .
أجاب مسؤول الأمن القومي : لو نفذت الأمور بدقة وسرية تامة ، بحيث لا يعلم أحد خارج هذه القاعة بالخطة بما في ذلك جنودنا الأشاوس الذين سيشاركون ، أو الذين سيتغلغلون بين المتظاهرين أو الذين سيسدون المنافذ ، فإن النتيجة ستكون في صالحنا ، وننقذ البلاد من الشغب والفوضى إلى الأبد ، وحتى لا يكون هذا رأيي فقط فأرجو أن يتقدم اي شخص في القاعة من السادة الحضور بالإستفسار أو التوضيح أو الاعتراض على الفكرة قبل أن يتم التصويت على القرار.
اعتمدت الخطة بالموافقة بعد التصويت عليها ، وختم سيادة الوالي الاجتماع بالتأكيد على السريّة التامة للخطة ، ودقة تنفيذها .
ابتلعت المعارضة الطعم ، وتم تنفيذ الخطة بدقة متناهية بحسب ما خطط لها ، وفي اليوم التالي للتظاهرة برزت عناوين الصحف بخطوط عريضة وملونة.
(الحكومة تطلق القنابل المضيئة والعيارات الخطاطة الملونة ابتهاجا بمطالب الشعب وتأييدا له )
( الدولة تكبر أصحاب المبادئ والرأي الحر) .
( ستكمل الدولة مشوار الديموقراطية إلى نهاية الطريق ) .
( لا تراجع مهما كانت التضحيات في سبيل مصلحة الشعب ) .
وقعت أجهزة أمن الجوار في حيرة مربكة مرة أخرى ، فهي في الوقت الذي ظنت أنها قد كشفت اللعبة السابقة وتوقعت أن تقوم الدولة بحملة اعتقالات جديدة ، مما يعيدها إلى عهدها السابق من سياسة القمع والإعتقال لكل معارض ، فتخف حملة التديد بسياستها ، والنقد لنهجها الإستبدادي وأسلوبها القمعي، فإذ بها تمضي - وأن كان في ظاهر الأمر- خطوة أخرى أبعد من السابقة في طريق ما يسمى الإصلاح والديموقراطية الجديدة ، مما جعلها في موقف أصعب من السابق .
عادت أسهم دولة الوالي بالإرتفاع بعد تلك النكسة المروّعة التي أصابتها ، وعادت البهجة والزهو إلى دولة الوالي ، ووسائل إعلامه ، التي أشادت بسياسة الدولة ، وما منحته للمواطنين من حرية ، وتبنيها نهج الإصلاح والديموقراطية ، في نفس الوقت الذي فضحت سياسة الإستبداد ، ونهج القمع ، في دول الجوار ، بل تطورت البهجة والزهو إلى شعور بالنصر والغرور، وظهر ذلك جليا في وسائل الإعلام ، التي بدات تتكلم حتى بالرسوم الكاريكتورية عن استبداد أنظمة الجوار، وزج الأحرار بالسجون واعتماد ميزانية جديدة لتوسعتها وبناء الكثير منها ، عن كم الأفواه ، وخنق الحرية ، والحزب الحاكم الوحيد الشمولي ، وتقديس الوالي الوحيد الأوحد ، والتسبيح بحمده صباح مساء في جمبع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة ، وتكلمت عن الفقر والجهل والمرض والعاهات لأبناء الشعب المقهورين في الجوار ، كل هذا بالمقارنة مع نهج الإصلاح في دولة الوالي ، وسياسة الديموقراطية ، حرية الرأي والكلمة ، تعددية الأحزاب ، هدم السجون ، بناء المدارس والمستشفيات .... وغيرها الكثير الكثير ..