لكم دينكم ولي دين
عبد الودود يوسف*
حكايات من القرآن الكريم
للفتيان والفتيات
- 7 -
"حكايات عن القرآن الكريم للفتيان والفتيات.
* هي سلسلة من القصص الشائق تعمل على توضيح معاني القرآن الكريم بلغة مبسطة وصور معبّرة تجتذب إليها القارئ.
* وهي باب طريف في الأدب الإسلامي ولون جديد من التفسير العريق.
* وهي ثمرة خيرة طويلة وتجارب سابقة في مخاطبة الجيل الناشئ والتجاوب مع ذوقه، جزى الله مؤلفها أعظم الأجر.
* يحتاج إليها الجدّ الكبير والطفل الصغير، فالكل يستطيعون قراءتها وفهمها.
* تتناول تفسير سور القرآن بالترتيب ابتداء من نهاية الجزء الثلاثين".
لكم دينكم ولي دين
بسم الله الرحمن الرحيم
عبد اللات سادن الأصنام
كان تعب عبد اللات سادن الكعبة شديداً، فاليوم انتهى موسم الحج. أغلق عبد اللات باب الكعبة وجلس يجمع أرباحه، كان بريق الذهب والفضة يملأ عيونه، وكانت أكوام الهدايا التي قدمتها قبائل العرب للآلهة تملأ نواحي الكعبة كلها، أثواب اليمن، وسيوف الشام وحليها، وفضة فارسٍ، ودنانير الروم، وعقود اللؤلؤ والمرجان وهدايا الدنيا من كل مكانٍ.. قال في نفسه: سأشتري هذا العام ألف ناقةٍ.
كان يتلمس كل شيءٍ بيديه كأنه لا يصدق أن كل هذا الخير سيكون له.
سمع ضجةً عاليةً، ترك كل شيءٍ وهرول خارجاً، رأى بني ذبيان حول صنمهم اللات خاشعين، أخذ يتمتم ويغمغم: اعبدوها اعبدوه..ربكم لا تتركوه..
اقترب منهم وصار يمسح رؤوسهم وظهورهم ويملأ الجو بالبخور ويتمتم: اعبدوها اعبدوه.. ربكم لا تخذلوه.. منه كل العافية.. اعبدوها اعبدوه.. خير رب اجعلوه..
طاف الجميع بالكعبة، والتفتوا يريدون الرجوع.. نظر عبد اللات فرأى حملاً من تمر عند الصنم صاح بأعلى صوته: يا بني ذبيان نسيتم هذا الكيس..
عاد إليه شيخهم وهمس له: إنه هديتنا لربتنا يا سيدي..
نظر إليه عبد اللات بغضب وصاح به: وهل تقبل ربتكم أن تطعموها تمراً؟ أين الذهب والفضة؟ وأين الإبل والأغنام؟ لا بد أن تغضب ربتكم عليكم.. لن تقبل منكم عباداتكم أبداً.
عاد الجماعة كلهم حين سمعوا صراخ عبد اللات.. ارتجفت قلوبهم، وامتلأت نفوسهم بالغضب على شيخهم البخيل صاح أحدهم: لربتنا اللات مني جملان..
وصاح آخر: ومني خروفان.
واقتربت امرأة وقالت: وهذا عقدي لربتنا الغالية، يا عبد اللات اطلب لنا رضاها..
هدأت نفس عبد اللات وهمس: سأسهر طوال الليل وأذبح الأغنام والجمال.. أطلب بركة الأرباب والربات..
بكى وتأوه: يا ويلي.. ستغضب أصنام الكعبة كلها علي.. إنها ثلاث مئةٍ وستون صنماً، فمن أرضي, ومن أكرم؟!
غادر بنو ذبيان الكعبة وعبد اللات يمسح دموعه. فلما ابتعدوا ضحك بخبثٍ وقال: غنيمة غالية ربحناها..
غلبه النعاس.. فقام إلى أصنامه يعدها.. وجدها غير ناقصةٍ.. فتح باب الكعبة ووضع رأسه على وسادته ونام..
والكاهن ماذا فعل؟
لم يطل نومه، سمع بكاءً وصراخاً، قفز إلى باب الكعبة، رأى امرأة تبكي، ومعها ثلاثة رجالٍ، أخذ يدمدم: اعبدوها اعبدوه.. ربكم لا تتركوه..
صاحت المرأة: كنت نائمة في خيمتي فلما أفقت رأيت جمالي وأحمالي ضائعةً..
همس عبد اللات: كم عددها؟!..
أجابت: أربعة يا سيدي..
سألها: وهل دفعت لربتنا مناة حقها يا عفراء؟!
صرخت: أقسم باللات ومناة لقد دفعت للأرباب جملاً محملاً بثياب اليمن...
انتفض السادن وهمس: حسناً.. هيا إلى الكاهن الأعظم، ليسأل الجن.. ويستنطق الأصنام والأرباب..
ساروا جميعاً.. فسألها: وماذا في الأحمال يا عفراء؟
أجابت بلوعة: اشتريت من مكة ثياباً وعطوراً، وأحذية شامية، ومرايا... وا حسرتاه.. ومع الجميع صنم ربتنا مناة..
صاح السادن: يا حسرتاه... ويا كرباه..
بكت المرأة وولولت.. التفت إلى أولادها وصاح بهم: هيا إلى الكاهن فوراً.. ذنبٌ كبير، وعملٌ خطير.. هيا إلى الكاهن القدير..
دخل السادن إلى الكاهن وهو يبكي، قال:
- مولاي العظيم.. امرأة خاطئة.. أضاعت صنم مناة..
صاح الكاهن: هيهات هيهات أن تنجح بعد اليوم هيهات.. تعاسة وشقاء.. وحياة كلها أخطاء..
صاح السادن: ستفتدي ستفتدي..
همس الكاهن: ستفتدي نفسها من غضب مناة..؟!... كم ستدفع حتى ترضى الآلهة والربات..؟!.
أجابه: اسأل لنا الربة مناة يا مولانا.. ستدفع عفراء ما تريد مناة..
همس الكاهن: هل أنت غنية أم فقيرة؟!!
صاح الشباب: نحن أغنياء.. أغنياء..
صاح الكاهن: لا بأس لا بأس.. سترضى عنكم الربة العظيمة مناة..
فرح الجميع.. همس السادن:
- أيكفيها يا سيدي جملان محملان بأحمال الخير؟..
رفع الكاهن حاجبيه ونكش لحيته وهمس: قليل.. قليل..
بكى السادن.. وهمس: إذن أربعة.. أربعة..
أطرق الكاهن رأسه بحزنٍ وتمتم: سنسألها.. سنسألها.. عساها أن ترضى وتقنع..
همس السادن متوسلاً: بالله عليك يا مولانا.. اسأل لنا مناة أين سنجد صنمها؟.. والأربعة جمال؟.. إنها كلها حمراء.. جمال حمراء..
مشى الكاهن متمهلاً وهو يقول: افتح الباب يا عبد اللات.. ولندخل معاً إلى مناة...
دخلا غرفةً مظلمة.. همس الكاهن: سرقها شركاؤنا من بني فزارة هي في خيامهم الآن... سأرسل لهم من يخبرهم أننا سنأتي لأخذها منهم..
همس السادن: كم ستعطيهم منها؟..
أجابه بسرعةٍ: لهم منها جملانٍ.. ولنا الأحمال كلها مع جملين..
أمسك السادن بكتف الكاهن وهزه وقال: قطع الله عنقك ما أطمعك.. لو أرجعت للمرأة أحد جمالها على الأقل..
همس الكاهن: حسناً.. حسناً.. كما تريد..
صاح عبد اللات وهو يفتح الباب ويخرج: اعبدوها.. اعبدوه.. ربكم لا تتركوه.. كاهن كاهن.. كاهن عظيم.. أطيعوا أمره.. نفذوه نفذوه..
كان يضحك.. ضحكت المرأة لضحكه صاحت: أين سنجد صنم ربتنا مناة يا سيدي..؟!!
همس السادن: قالت ربتنا مناة وهي غاضبة: إنها عند بني فزارة... وقالت أيضاُ: لا تأخذوا إلا ثلاثة جمالٍ.. أكرموا ضيفكم...
صاح الأولاد الثلاثة: ما أكرمها ربتنا مناة..
عادت المرأة مسرورةً بصنم مناة... وعاد السادن والكاهن بأحمال البضائع مع الثلاثة جمالٍ... ما أربحها من تجارةٍ لا تخسر؟!!..
والقادة كيف يعملون...؟!
بدأت وفود الحجاج تنزل من "مِنَى" وبدأت الخيام تنتشر في نواحيها. كان قادة قريشٍ يأتون إليها وفداً.. وفداً.. هذا أبو طالب وحوله أبناؤه وإخوانه.. وكذلك أبو سفيان وعتبة بن ربيعة. لكن أبا جهلٍ لما دخل فضاء منى ضجت الساحات بأصوات عبيده وعماله..
تصدر هؤلاء السادة من قريش مجلسهم الكبير مساء ذلك اليوم. تكلم أبو سفيان وقال:
- إن قبائل العرب تطلب أن نعطيها ديوناً كثيرةً هذا العام.. ما رأيكم أن نأخذ بكل مئة درهم ثلاث مئة..
تنحنح أبو جهلٍ وقال: هذا حقٌ.. أنا موافق..
صاح أمية بن خلف: كان يجب أن تخبروني قبل هذا اليوم لقد أعطيت العرب جميع أموالي.. كل مئة بمئة وخمسين..
صفق الجميع وصاحوا: خسارتك كبيرة في هذا العام..
دخل عبدٌ إلى الخيمة.. فقفز الجميع دفعة واحدة وبأيديهم الخناجر.. صاحوا: كيف تدخل إلينا أيها الكلب دون إذنٍ..؟!!..
طعنوه بالخناجر فارتمى على الأرض ودماؤه تسيل.. وأخيراً انتفض عدة انتفاضاتٍ ومات.. بينما رجع سادة قريشٍ إلى مجلسهم يتحادثون.. ضجت جنبات مِنَى بالمنادين يصرخون: أيها الناس.. الربا مئة بثلاث مئةٍ..
تأوه الفقراء.. لكنهم لا حيلة لهم.. من أين يأخذون إن لم يأخذوه من سادة قريشٍ.. لا بد من طاعتهم وإلا فقد تهلك تجارتهم، وتموت أغنامهم... وأولادهم..
الإسلام يريد الخير والعدل..
اصفرت وجوه سادة قريشٍ واحمرت عيونهم غضباً حين سمعوا رجلين يتحادثان قرب خيمتهم.. قال الأول: ما ذنب هذا العبد حتى يقتلوه؟!...
ولماذا يموت المحرمون جوعاً.. وفراعنة قريش يكدسون الأموال في خزائنهم؟..
أجابه الثاني: محمد يقول: علينا أن نعطي الفقير مالاً هدية.. حتى يذهب فقره.. وفراعنة قريش يزيدون فقره.
قال الأول: ما أعظم هذا.. إن كان محمدٌ يقوله فأنا على دين محمد..
فوجئوا بما زاد رعبهم حين دخل سادن الكعبة وكاهنها وأتباعه، وجوههم مملوءة بالألم، يرتجفون من الخوف.. صرخ السادن:
- أيها السادة أدركوا آلهتكم قبل أن يدوسها العبيد.. يا ويلي إذا نجح محمد في نشر دينه.. لن يكون في الكعبة صنم واحد..
كان عندما يتصور أن الأموال المكدسة ستذهب منه يفور عقله بالجنون..
صاح السادة كلهم: هذا خطير، كلنا مهددون...
عادوا إلى مكة جميعاً وهم مهمومون..
ربٌّ يعذب عبده!!!
صفع صفوان بن أمية عبده أبا فكيهة وهو يصرخ به: تريد أن تصبح مثلنا أيها الكلب؟!!..
نظر إليه أبو فكيهة وهمس: أصبحت مثلك وانتهى الأمر.. كفرت بك وبأصنامك.. لن أعبدكم بعد اليوم.. آمنت بالله وبالقرآن..
ركله برجله وألقاه على الأرض.. ثم ربطه بحبلٍ وأخذ يجره في الصحراء ويضربه حتى كاد يموت..
زُنَّيْرَة ما ذنبها..؟!
تشقق ظهر المسكينة زنيرة بضربات سوط عمر بن الخطاب.. مل من ضربها.. قالت له: لقد كرمني القرآن فلماذا تظلمني؟.. أثا مثلك.. والناس كلهم مثل بعضهم..
أخرسها بالسوط.. وملأ وجهها بالدماء..
الطاغي يعذب ابنه
صرخ سهيل بن عمرو بابنه أبي جندلٍٍ: سأقتلك أيها الفاجر.. تؤمن بدين محمدٍ وتكفر بدين سادة قريشٍ..تجارتنا ستخسر.. وأموالنا ستذهب.. وزعامتنا ستزول..
صاح أبو جندل في وجه أبيه: لو آمنت مثلنا لأصبحت عظيماً.. ورحيماً.. إنكم يا فراعنة قريش تستعبدون الضعفاء.. ويعينكم الكهان والسدان.. لن نطيعكم بعد اليوم أبداً..
فضربه أبوه بالحديد حتى كاد يقتله.
ضجت جنبات مكة بالمعذبين.. وأصبح الناس لا يتحدثون إلا عن محمدٍ ودينه.. نساءًً ورجالاً... كانوا يقولون: يا ويله يريد أن يجعل الناس يعبدون الله وحده.. ويكفرون بالكهان وبفراعنة قريش المتسلطين عليها.. وبالأصنام..
كانت نفس الفقير تمتلئ بالحب لهذا الدين.. لأنه سيخلصه من كل أنواع المظالم.. وكان الأرباب يشعرون بالخطر لأن زعامتهم ستزول..
الفراعنة يتشاورون
جلس الكهنة والسدنة والفراعنة يتشاورون.. كان الحزن يملأ نفوسهم قال الكاهن: إن أمر محمدٍ أصبح خطيراً.. إن العبيد والفقراء يرفعون رؤوسهم..!!..
همس أبو جهل: وكذلك النساء.. إنهم يريدون أن يكونوا مثلنا..
همس عتبة بن ربيعة: أقول لكم حلاً..إما أن تقتلوا محمداً.. أو تجعلونه معكم زعيماً متسلطاً.
صاح أبو جهل: أما قتله فغير ممكن.. فأبو طالب يحميه.. تعالوا نجعله ملكاً علينا.. ربما يسكت عن ديننا ودين آبائنا.. ويعترف بزعامتنا..
صاح الكاهن: أقول لكم الحق.. قولوا له: نحن نعبد إلهك يوماً، وأنت تعبد آلهتنا يوماً.. نحن نطيع بعض ما يريده الله... وأنت تطيع بعض ما نحن عليه.. ما رأيكم؟!!.
صفق الجميع وصاحوا: هذا والله هو الحل.. هيا فلنذهب إليه..
محمد صلى الله عليه وسلم يستمع
طمع أرباب قريش في محمدٍ عندما جلسوا يتحدثون إليه.. كان يستمع إليهم كأنه صديقٌ قديم.. قال عتبة: لقد تجرأ العبيد والنساء والفقراء على السادة.. إنهم لا يريدون أن يطيعوهم.. كفروا بديننا ودين آبائهم.. ما رأيك أن نجعل بينك وبيننا أمراً وسطاً؟
همس محمد: وما هو؟..
قال الكاهن: نطيع ربك ونعبده... وأنت تعبد آلهتنا مع إلهك..
دمدم أبو جهلٍ: ونطيع بعض دينك.. وأنت لا ترفض ديننا كله.. ما رأيك؟..
صمت محمد صلى الله عليه وسلم ثم امتلأ وجهه بالعرق.. وأغمض عينيه.. ثم فتح عينيه ومسح عرقه وقال: اسمعوا ما أمرني به ربي: - قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون.
همس الكاهن: رفض ربه أن يعبد محمد أصنامنا.
أكمل محمد: ولا أنتم عابدون ما أعبد..
تمتم عتبة: نعم.. لن نطيع كل ما جاء من عند الله..
تابع محمد: ولا أنا عابدٌ ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد.
أطرق الجميع وقالوا: إن رب محمد لا يهادننا..
ابتسم محمد وقال: لكم دينكم ولي دين..
صرخ أبو جهلٍ بغضبٍ: ديننا خير من دينك.. لن نترك ديننا ونتبع دينك.. وأنتم يا سادة قريشٍ.. ليس بينكم وبين محمد إلا السيف..
واشتعلت موجات التعذيب من جديد ضد المؤمنين.. رفض محمد صلى الله عليه وسلم دين السدنة والكهنة والفراعين ورفض هؤلاء دين محمد لأنه يلغي زعامتهم الظالمة.. ويساويهم بالعبيد والفقراء والنساء.. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور على المعذبين يقول لهم: اصبروا وستصبحون ملوك الأرض.. ولا بد.
* أديب سوري، وكاتب باحث ومفسر معتقل في دمشق منذ عام 1980.