مئذنة ودبابة
مئذنة ودبابة
(10 /13 )
د.خالد الأحمد *
مئذنة ودبابة رواية تاريخية إسلامية ، حاول الكاتب أن يؤرخ لحادثة هامة جداً في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة ، كان له أثر كبير جداً على العالم العربي كله في النصف الأخير من القرن العشرين ، هذا الحدث الهام والخطير هو هـدم النظام السوري الحاكم لمسجد السلطان بالدبابات في حماة عام (1964م) بعدما اعتصم فيه الأخ مروان حديد يرحمه الله ومعه مجموعة من الطلاب ...
ولما صار الأمر الخطي في جيب قائد اللواء (45) الذي رقص طرباً ، سيدمر المسجد بأمر من الرئيس ، وستنتصر الدبابة على المئذنة ، يعود إلى بلدته وعشيرته مرفوع الرأس والجبين ، يقول لهم : دمرت أعز مساجد حماة وأغلاها عندهم ، ثم هتف بجهاز اللاسلكي :
ـ آلو (11) أنا (1) كيف تسمعني أجب . ـ فأجاب قائد السرية : أنا (11) أسمعك جيداً أجب . ـ يا (11) طوق المسجد حالاً ، ثم دمر المئذنة والقبة ، واعتقل أو اقتل من يوجد فيه ، واعلمني حالاً . ـ حاضر سيدي العقيد .
تكاثرت الدبابات حول مسجد السلطان ، ترافقها المصفحات ودبابة قائد السرية التي كتب عليها بخط عريض أبيض ( يسقط الدين ، ويحيا الحزب ) ثم أمر قائد السرية بعض جنوده بدخول المسجد . لكن الرصاصات القليلة المنطلقة من المئذنة كانت تقتنصهم قبل ذخول المسجد ، عندئذ هتف الملازم أول قائد السرية بجهاز اللاسلكي : ـ آلو (112) هل تسمعني أجب . ـ أنا 0112 اسمعك جيداً أجب . ـ يا (112) ارم المئذنة بقذيفة خارقة في أسفلها ـ حاضر سيدي الملازم أول . وكشر الرقيب قائد الدبابة عن أنيابه القذرة ، ثم بصق في جهة المئذنة ، وجلس مكان الرامي وبعد أن قال الملقم : ـ خارقة جاهز . وأمسك قبضته في جدار برج الدبابة ، سدد الرقيب بهدوء على أسفل المئذنة ثم تحسس الزناد الكهربائي وصاح : يحيا البعث ، وارتجت الأرض واهتزت الدبابة كحصان يجمح ، وتململت المئذنة.
ـ آلو يا (112) كرر أحسنت كرر بنفس المعطيات ، فزمجرت الدبابة ثانية وثالثة ورابعة ، بينما كانت المئذنة تميل في كل مرة بلطف وهي متماسكة الحجارة ، حتى لامست أرض المسجد فانفرطت حجارتها ، وخرج منه الأخ المختبئ فيها سالماً ، وفـر من ساحة المعركة ، وعاش بعدها عشرات السنين . ومازال حياً حتى كتابة هذه الرواية ...
ـ آلو (1) سيدي وقعت المئذنة . ـ هيا اقتحم المسجد ، مادام القنص انقطع من المئذنة .ـ حاضر سيدي العقيد . وتقدم عدد من الجنود مع طرفي الشارع لاقتحام المسجد ، وقد شـد كل منهم يـده جيداً على الزناد .
تحسس محمود بلطلته جيداً ونظر إلى منقذ وقال : ـ جاء دوري ، أوصيك بتقوى الله ، وقفز محمود إلى قرب الباب الرئيسي الشرقي ، ووقف كالنمر منتظراً دخول أول جندي كي يقطع رأسـه ، فيأخذ سـلاحه ويواجه الأنذال . وعندما رأى رأس البندقية دخلت رفع بلطته جيداً ثم هوى بها على رأس العسكري فقطعها ، وخطف بندقية (كلاشن ) وفيها ثلاثون طلقة صحيحة ، وبلمح البصر قفز محمود إلى الشارع يفرغ الطلقات الثلاثين في صدور الجنود المتحفزين لدخول المسجد الذين تساقطوا كالعصافير ، بينما ثبت رامي رشاش المصفحة نيرانه على محمود ورماه بأكثر من مائة طلقة مزقت جسده الطاهر رحمه الله تعالى عند الباب الشرقي لمسجد السلطان ، بعد أن قتل أكثر من عشرة من جنود النظام سقط محمود وهو يردد( أشهد أن لاإله إلا الله ، وأشهد أن محمداُ رسول الله ، الحمد لله لم يدخلوا المسجد وأنا على قيد الحياة ) .
كاد يجن قائد السرية فراح يهذي في اللاسلكي : ـ آلو (1) ياسيدي ، شيطان أو جني ، لا أدري ... ارتعدت أوصال العقيد من هذه الألفاظ ، فتكلم في جهاز اللاسلكي ، لكن قائد السرية لايسمعه لأن يـده جمدت على مفتاح الإرسال ، ومازال يهذي : ملك ، جني ، شيطان ، لا أدري قتل لنا نصف جنود الفصيلة . كرر العقيد النداء عدة مرات : ـ آلو يا (11) ماذا جرى ؟ ومازال قائد السرية جامداً على مفتاح الإرسال ، لذلك دخل العقيد على تردد السرية وقال : ـ آلو يا (112) هل تسمعني أجب ، أنا (1) ـ احترامي سيدي ، أنا (112) أسمعك جيداً ـ يا( 112) قل لي ماذا جرى ؟ هل فطس قائد السرية ؟ ـ لاياسيدي ، قائد السرية حي ، وإنما خرج من المسجد واحد عجيب قطع رأ س العسكري ( ابو عرب ) بالبلطة وأخذ بندقيته وقتل أكثر من عشرين من عناصرنا ، وأحبط أول هجوم على المسجد . ـ وهل قتلمتوه ؟ ـ نعم سيدي قتلناه برشاش المصفحة ، وذاك جسده ممزقاً عند باب المسجد . عندئذ قال العقيد : ـ اسحبوا الجنود من الشوارع المحيطة بالمسجد بسرعة ، وأدخلوهم في الدروع ، وبعد أن هدأت أعصاب الملازم الأول (قائد السرية) ترك مفتاح الإرسال ، فتحول الجهاز إلى الاستقبال وسمع أوامر العقيد وهو يتحدث مع الرقيب . فقال : ـ أنا (11) ياسيدي ، خرج علينا واحد من المسجد قتل أكثر من عشرين عسكرياً منهم الملازم قائد الفصيلة الذي قاد الاقتحام على المسجد ، والرقيب أول قائد الأربجي ، ـ وهل قتلتموه ؟ ـ نعم قتلناه .ـ هل أنت متأكد أنه قتل ؟ ـ نعم سيدي ذاك هو مـمدد عند باب المسجد . قال العقيد : يا ( 11) اسحبوا الجنود من الشوارع المحيطة بالمسجد ، ولاتخرجهم من الدروع ، ثم دمـر قبـة المسجد ، واستمر بالقصف حتى يخرجوا مستسلمين أو يموتوا كلهم . ـ حاضر سيدي العقيد .
انهالت القذائف المتفجرة من عدة دبابات على قبة المسجد ، فتساقطت بينما التصق الطلاب عند الزوايا يحتمون من شظايا القذائف الضخمة عيار (100) ملم ، وعندها نظر منقذ في وجـه توفيق وقال : ـ وماذا بـعد ؟ هل نموت هكذا !! لقد سبقنا محمود ، والآن جاء دورنا ، أين زجاجات المولوتوف ؟ ـ هاهي ، ـ سنجعل الفتيل قصيراً جداً ، ولنرمها على خزانات الوقود في الدبابة ، فإذا انفجرت اشتعلت النيران في الدبابة ، ثم تنفجر الدبابة بذخيرتها ، ثم تناول منقذ زجاجتي مولوتوف ، ونظر إلى كوة جديدة فتحتها القذائف قبل قليل ، وأحس بقوة تدب في أوصاله يشعر بها كل من يعانق السلاح ، فأشعل الفتيلين ، ورمى الزجاجتين على دبابتين معاً قبل أن يمزقـه الرصاص ، وعندما كان يتضرج في دمـه سـمع انفجارين متتاليين دوت لهما أرجاء حماة كلها ، وارتفع اللهب من الدبابتين ، وتحولتا إلى كومة من الخردة والفحم والدخان ، بينما ذهل الجنود لهول المفاجأة ، قفز توفيق إلى الجانب الغربي وفجر دبابتين أخريين ، وسقط هو الآخر شهيداً عند الباب الغربي .
ـ آلو سيدي (1) دباباتنا تحترق ، خسرنا أربع دبابات في لحظات ، وما عرفنا نوع السلاح الذي دمرها . أجاب العقيد : ـ يا ( 11 ) ياحمار ، ِلم َ لم ْ تدمر المسجد حتى الآن ؟؟ ـ ياسيدي رميت القبة وتهدمت ، لكن واجهنا سلاح عجيب متطور جداً ، أقوى من دباباتنا فماذا أفعل ؟
دخل الرعب قلب العقيد فاتصل مع الرفيق القائد : ـ ياسيدي عندهم سلاح عجيب ، أكيد زودتهم به الامبريالية الأمريكية ، إنه من أحدث أسلحة الترسانة الأمريكية ، صواريخ عجيبـة ، وموقفنا صعب للغايـة ، فأجال الرفيق القائد :
ـ ماهذه الانفجارات التي هزت حماة كلها !!!؟ ـ أربع دبابات لنا احترقت بهذه الصواريخ الأمريكية العجيبة . ـ عيب يارفيق !!! ماذا تريد !!! هل نطلب الطيران !!! والله عيب ، نادوا عليهم بمكبرات الصوت ، قولوا لهم سوف نحفظ لكم أرواحكم ، اقسموا لهم بالشرف العسكري ، والقبض عليهم أحياء أفضل من قتلهم ، يجب أن يحاكموا ، وتبين عمالتهم للإمبريالية ، لكن احذروا من غدرهم بكم . ـ حاضر سيدي اللواء .
عندما سمع مروان مكبرات الصوت تنادي المعتصمين ، وتطلب منهم الاستسلام ، وقد اختلط الغبار بالدخان مع رائحة البارود ، ودماء الشهداء ، وجثث الجنود في الشارع ، نظر حوله فآلمه منظر أطفال في المدرسة المتوسطة والثانوية ، بعضهم مازال متحمساً للموت في سبيل الله ، وبعض آخر أصابه الذهول لما سمع ورأى ما لم يخطر في بـاله أبداً ... وبعضهم يصرخ خوفاً وهلعاً ...
وكانت الساعات التي عاشها مروان في المعركة كافية لتبين لـه أنـه أمام عـدو شـرس ، أشـد كفراً وحقداً من الفرنسيين والانجليز ، وتبين له أن هؤلاء الأعداء لايجدي معهم الجهاد السياسي ، فقد قابلوا جهاده السياسي بالدبابات والمصفحات منذ اللحظة الأولى ، وقتلوا طالباً في المظاهرة لأنه يهتف ، يتكلم ، فهؤلاء لايسمحون للشعب بالكلام ، ومن يتكلم يقتل فوراً بلا محاكمة ، وعرف مروان أن مواجهة هذا العدو تحتاج إلى إعداد طويل لتكون مواجهة عسكرية منذ البداية ، لامواجهـة سياسية ، لقد تغيرت قناعته من هذا الحدث ، كان يريد من اعتصامه في المسجد أن يقود أهل حماة في إضراب ، واعتصامات مدنية ، ومظاهرات ، وغيرها من الأعمال السياسية ، حتى يسقط الحكم العسكري ، وقرر الاعتصام في المسجد لأن الجميع يعرفون أن المسجد لاتدخله القوات المسلحة ، لايدخله الجيش ، كما لاتدخله الشرطة . ولكن هذا العدو حاول دخول المسجد مذ وصوله ، لم ينتظر لحظة واحدة ، ولولا مسدس (نمرة سبعة ) في المئذنة لدخل الجنود المسجد حال وصول القوات إلى المسجد ، ثم لولا أن أعان الله محمود ، وقطع رأس العسكري بالبلطة ، لدخل الجنود بعد أن دكوا المئذنة ، ولما تعذر عليهم دخول المسجد هدموه فوق رؤوس أطفال في المرحلة المتوسطة .
تبين لمروان أن هذا العدو لايفهم السياسة ، ولا العمل السياسي ، وأنه أشـد بطشاً بالمواطنين من الفرنسيين والانجليز ، وتبين له كذلك أن عشرات مثل محمود ومنقذ وتوفيق يرحمهم الله تعالى ، سيرغمون هذا العدو على الانهيار ، وسيدمرون جبروته ، وهكذا نبتت فكرة الطليعة المقاتلة في ذهن مروان في تلك الساعة ، عندئذ صف الأولاد والشباب في صفين وخرجوا من المسجد رافعي الأيدي ، ثابتي الجأش والخطى ، وقد آمنوا أنه لن يصيبهم إلا ماكتب لهم .
ـ آلو ، سيدي العقيد ، خرج من المسجد شيخ شاب طويل القامة جداً ، خلفه مجموعة من الأولاد ، فأجاب العقيد : ـ هذا هو المجرم الرجعي ، اعتقلوهم وحافظوا على حياتهم لمصلحة التحقيق ، سوف نفضح أمرهم أمام الشعب كله .
تكاثر الجنود حول الأطفال الصغار يصوبون بنادقهم نحو صدورهم الصغيرة المؤمنة، ثم فتشوهم واحداً واحداً ، وحملوهم في السيارات العسكرية .
قبل أن يصل التفتيش إلى عبدالله قرر أن يخطف البندقية من العسكري ، ويفعل كما فعل محمود الذي سبقه إلى الجنة ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، وطمأنه صعود أكبر عدد من إخوانه إلى السيارات ، ولم يبق سوى القليل منهم ، ولن تصيبهم رصاصات المعركة المنتظرة ، وفي لمح البصر ضرب العسكري بقبضة يديـه معاً خلف أذنه فخر صريعاً ، بينما أخذ عبدالله بندقيته ، وعندها خرقت جسده الطاهر رصاصات قائد الفصيلة ، وجثى عبدالله على الأرض واستفاد من البندقية وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وقتل بضع جنود العدو قبل أن يموت ، عندما صوب العدو رشاتهم على دماغه يرحمه الله .
وسقط على الأرض التي سقط عليها محمود ومنقذ وتوفيق ، فقد ولدوا في عام واحد ، عندما جلا الفرنسيون عن سوريا ، وترعرعوا في بلد واحد ، وتعلموا في مدرسة واحدة ، واستشهدوا في مكان واحد ، ويوم واحد ، وسار موكب الأربع تزفهم الملائكة وحور العين إلى جنة الرضوان برحمة ربهم وإذنه إن شاء الله تعالى .
وفي دار الحكومة ( السرايا) فرز الأسـرى حسب أعمارهم إلى ثلاث فئات : مروان والجامعيين ، ثم طلاب الثانوية ، ثم طلاب المتوسطة والابتدائية، وأحضر الجيش كميات من الأسلحة وضعت أمام الأولاد والتقطت لهم الصور التي نشرت في صحف اليوم التالي ، وكتب تحت الصور العناوين التالية :
جيشنا العقائدي يعتقل مجموعة من الرجعيين
استلم الرجعيون أسلحة من إسرائيل والإمبريالية
المواطنون في حماة يتظاهرون تأييداً للحزب الثوري
مئذنة ودبابـة
(11/13)
مئذنة ودبابة رواية تاريخية إسلامية ، حاول الكاتب أن يؤرخ لحادثة هامة جداً في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة ، كان له أثر كبير جداً على العالم العربي كله في النصف الأخير من القرن العشرين ، هذا الحدث الهام والخطير هو هـدم النظام السوري الحاكم لمسجد السلطان بالدبابات في حماة عام (1964م) بعدما اعتصم فيه الأخ مروان حديد يرحمه الله ومعه مجموعة من الطلاب ...
تشكلت المحكمة العسكرية في حمص ، بقيادة الرفيق الرائد مصطفى طلاس قائد اللواء الخامس ، ومثل أمامها عدد من الأخوة منهم مروان حديد الذي دخل قاعة المحكمة بقامته المديدة ، ولحيته الكثـة ، باسم الثغر ، يشع النور من وجهه ، نور يبهر من يراه فينسيه الزمن ، ويعود به إلى العصور الإسلامية ، قال رئيس المحكمة :
ـ مااسمك ؟ ـ مروان خالد حديد ، مسلم عربي سوري ، من مدينة حماة ، تخرجت من جامعة عين شمس مهندساُ زراعياً منذ سنتين ، وسأعمل فلاحاً .
ـ ألم تحصل على وظيفة ؟ وأنت مهندس زراعي والبلد بحاجة ماسة إليك !؟ ـ لا أريدها ، كي لا أصبح عبداً للدولة ، فتمن عليّ براتبي منها ، عندئذ ضحك أحد الضباط الحاضرين ، واقترب من الشيخ مروان ، ومـد يـده يريـد شـعرة من لحيتـه ، ومع أن يـديه كانتا في القيـد ، لكنه رفعهما معاً بقوتـه العجيبة وهوى بهما على رأس الضابط فرمـاه أرضاً .
هاجت المحكمة وماجت ، وحمل الضابط مغمياً عليه ، وتناول بعض الضباط مسدساتهم للدفاع عن أنفسهم ، إن لزم الأمر ، وتحولت المحكمة إلى معركة ، فدق طلاس بيده على الطاولة بقـوة وصاح بأعلى صوتـه : ـ محكمة ، أخرجوا الضابط إلى المستشفى ، وليلزم كل واحد مكانه ، فهدأت الحال وتابع رئيس المحكمة .
ـ لماذا حاربت الدولة ؟ ـ أنا لم أحارب الدولة ، بل أردت أن أفعل مايفعله المواطنون في الدول التي تحترم شعبها ، أردت أن أعلن عن عدم موافقتي على سياسة هذه الدولة ، وأردت أن أشجع المواطنين على الاضراب ، والمظاهرات ، والعصيان المدني ، كما تفعل الشعوب المتحضرة ، حتى تسقط الحكومة ، وتجرى انتخابات نيابية في سوريا ، ويعود لها الحكم الديموقراطي . ـ لماذا لاتعجبك سياسة هذه الدولة ؟ ـ لاتعجبني لأنها تحارب الله ورسوله . ـ كيف تقول ذلك ، نحن مسلمون .
ـ مسلمون بالبطاقة الشخصية ، وتحاربون الله ورسوله . ألم تسمع قول الله عزوجل ] ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ . ـ كيف نحكم بالقرآن اليوم ؟ ـ لقد جعله الله صالحاً لكل زمان ومكان . ـ لكن الانسانية تقدمت يامروان . ـ ربها أعلم بها منك يامصطفى . ـ قل ياسيدي الرئيس . ـ لست سيداً لي . ـ أنا سيدك غصباً عنك . ـ كذبت .
اصفر وجه الرائد مصطفى طلاس ، وتفقد الطير فوجده مازال على كتفيه ، وأمعن النظر في عملاق لو فكت قيوده لقطعهم كما يقطع الرجل الجائع رغيف الخبز . وخاف الرائد مصطفى من ضربة مزدوجة مثل رفيقه الضابط الذي وصل المستشفى لذلك عدّل نوع الأسئة وقال :
ـ لماذا اعتصمت بالمسجد ؟ ـ لأنني ظننت أنكم على الأقل مثل الفرنسيين ، تحترمون بيوت الله .
ـ من يترك عدوه يامروان ؟ حتى لو دخل المسجد ـ هكذا كان الفرنسيون ، لايدخلون المساجد ، وكان الثوار إذا تضايقوا دخلوا المسجد فيعود الجنود الفرنسيون ويكفون عن مطاردتهم . ـ إذن أنت تفضل الفرنسيين على الحكم الوطني !! ـ أقول الحقيقة مع أنها مرة كالعلقم ، كان الفرنسيون يحترمون ديننا أكثر منكم بمئات المرات . ـ نحن حكماً وطنياً يامروان . ـ من قال ذلك !! أنتم وصلتم إلى الحكم بانقلاب عسكري ، ووصل الفرنسيون إلى الحكم بدخول جيشهم من بيروت إلى دمشق ، هل جاء بكم الشعب !! هل انتخبكم أحد !!
كانت المساجد مراكز الثورات ضد الفرنسيين ، ولم يهدم الفرنسيون مسجداً واحداً ، وكان العلماء قادة الثورات ، ولكن الجيش الفرنسي لم يدخل مسجداً واحداً ، ولم يعتقل عالماً ، ولم يدمر مئذنة ولامسجداً بالدبابات ، هذه الدبابات يامصطفى اشتراها الشعب بقوت أولاده كي يحرر بها فلسطين ، ولم يشتريها ليهدم بها المساجد .
عندئذ ارتفع صوت المؤذن في مدينة حمص لصلاة الظهر ، ( الله أكبر ، الله أكبر ، ......) تردد الأذان من مسجد خالدبن الوليد ، والمسجد الكبير ، ومسجد جورة الشياح ، وغيرها كثير ، وتجاوبت أصداء كلمة التوحيد في أرجاء حمص كلها ، المدينة الوادعـة ، فيصمت مروان ليردد مع المؤذن كما أمر سول الله ، بينما تابع رئيس المحكمة: - أنتم عملاء ، وكل المشايخ عملاء للغرب والامبريالية والصهيونية ، ولكن مروان ظل ساكتاً ولم يـرد ، لأنه غارق في كلمات الأذان وشعوره بلذتها ، ويتابع رئيس المحكمة : ـ من الذي دفعك إلى مافعلت ؟ ولايرد مروان ، فغضب الرائد مصطفى طلاس وقال رافعاً صوته : ـ تكلم ، أجبني ، ولكن لايـرد مروان ، فيضرب رئيس المحكمة الطاولة بيـده ثم بالمطرقة بعنف يفزع منه رفاقه الضباط ويقول : ـ نحن في محكمة عسكرية ، ولسنا في زاوية ، لكن مروان كان في عالم آخر ، عالم الذكر يردد مع المؤذن بلسانه وقلبه وعقله ، يردد النداء الخالد ( الله أكبر .... اشهد أن لا إله إلا الله ....... ) ، ولما انتهى المؤذن قال مروان بصوت عال يسمعه الحاضرون : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آت محمداً · الوسيلة والفضيلة ، وابعثه اللهم مقاماً محموداً الذي وعدته ، واحشرنا معه ، وارزقنا شفاعته ، واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لانظمأ بعدها يارب العالمين . ثم تكلم مروان موجهاً خطابه للرائد طلاس : ـ أريد مـاء للوضوء . فرد الرائد : ـ ويمكن ستقول سجادة أيضاً !!! فقال مروان : ـ وسجادة أيضاً وهيا قم نصلي ( يخاطب طلاس ) ، ألم تسمع المؤذن نادى للصلاة ، لقد نادى المسلمين للصلاة ، قبل قليل أكدت أنك مسلم أيها الرائد ، هيا نصلي معاً ، غضب مصطفى طلاس وقال : ـ وهل الإسلام بالصلاة ، وطول اللحية !!! الإسلام بالقلب وليس بالصلاة والصوم وطول اللحية ... فقال مروان : ـ كذبت يارئيس المحكمة ، قال رسول الله[ الصلاة عماد الدين ، من أقامها أقام الدين ، ومن هدمها هدم الدين ] أو كما قال ، عندئذ تكلم ضابط وقال : ـ من قال لك أن رسول الله قال هذا الحديث !!!؟ . ـ هذا حديث صحيح ـ وكيف عرفت أنه صحيح !!؟ ( وهو يضحك ) ستقول رواه أبو هريرة ، أليس كذلك !!!؟ ويتابع الضحك ...ها ...ها كلهم كذابون عملاء للبرجوازية والإقطاع ، غضب مروان أيما غضب ، ومشى نحو ذلك الضابط وقال : ـ اسكت ياعدو الله ، يامرتد يازنديق ، وتابع المشي نحوه يريد أن يبطش بـه ، ولكن الجنود أحاطوا بمروان ومنعوه من الوصول إلى ذلك الضابط ، ـ أنت تناقش أم تقاتل !!؟ قال ذلك الضابط . فأجاب مروان : ـ مثلك لايناقش أيها المرتد . ثم يتجـه مروان إلى الرائد رئيس المحكمة ويقول : ـ قلت أريد ماء للوضوء . فيجيب الرائد : نحن في محكمة عسكرية ولسنا في مسجد السلطان ( سابقاً ) قبل أن يهدم . فأجاب مروان : الأرض كلها مسجد لنا ، فكوا وثاقي كي أصلي . الأرض لله ، ونحن عباد الله ، فأجاب الضابط بسرعة : ـ سيدي رئيس المحكمة أرجو أن لايفك وثاقه ( وهو يرتجف خوفاً ) ، والله يأكلنا هذا الوحش !!!ـ أنا لست وحشاً أيها الجبان ، أنا عبدلله ، استمد قوتي من قوتـه ، فأجاب رئيس المحكمة : ـ أنت أسير عندنا ولانفك يديك ، ولايوجد ماء للوضوء عندنا ، نحن في محكمة عسكرية .
عندئذ مسح مروان يديه بالجدار المغبر للتيمم ، ثم اتجه نحو القبلة وكبر للصلاة ، كأنه تمثال لايتحرك .
غضب طلاس وصرخ : ـ امنعوه من الصلاة ، فتقدم عدد من الجنود ينظر كل منهم إلى الآخر ، وكأنه يقول : كيف نمنع مسلماً من الصلاة !!! وكانوا يرتجفون خوفاً ، وحاولوا شـد مروان من كتفيـه ، أو يحولوه عن القبلة ، ولكن عبثاً حاولوا ، كان كالجبل ، ثابتاً بين يدي ربـه ،وأسقط في يـد الجميع ، فسكتوا وكأن على رئوسهم الطير ، وانتظروا مكرهين حتى صلى مروان الفريضة ، ثم الراتبة ، ثم أتم الأذكار حتى أتم صلاته ، ونظر إليهم وقال : ـ هات ماعندك يارئيس المحكمة .
ـ قال طلاس : ـ ماهي صلتك بالإقطاع !!؟ يامروان ؟ ـ نحن مسلمون ، لا إقطاع ولا برجوازية ، هذه اصطلاحات الكفار ، مثلها مثل الشيوعية والاشتراكية ، كلها جاهلية ، ونحن مسلمون ، والإسلام ضد الجاهلية ، يعني ضد الإقطاع والرأسمالية والبرجوازية والشيوعية والاشتراكية ..
قال طلاس : ـ سنقطع رأسك إن شاء الله يامروان ( وهو يضحك ) .ـ الله هو المحيي والمميت ، ولن يصيبنا إلا ماكتب لنا ، وموتي على يديكم أكبر شهادة أنالها ، فسيد الشهداء حمـزة ، ورجل قام على حاكم ظالم فقتله .
رفعت الجلسة وأعيد مروان إلى الزنزانـة ، وفي خلوته مع نفسه استعرض أحداث الأيام الماضية واستنتج منها ومن خلال ماقدمه الشهداء الأربعـة الأبطال ( محمود ، ومنقذ ، وتوفيق ، وعبدالله ) يرحمهم الله تعالى ، استخلص من ذلك مروان أنه لابد من تربية الصغار في المدرسة المتوسطة تربية إسلامية مكثفة ، يركز فيها على الجانب الروحي ، ثم العسكري ، وذلك بالإكثار من الصلة بكتاب الله عزوجل ، ثم تقوى أجسادهم بالسباحة والتمرينات الرياضية ، كما تقوى نفوسهم لتكون صلبة تتحمل أعباء الجهاد في سبيل الله ، وذلك بالإكثار من التمرينات الرياضية والتدريبات العسكرية كالقفز والمشي الطويل ، ثم تدريبهم على الأسلحة الفردية بأنواعها، ضمن إطار تنظيمي متين ودقيق وفي غاية السرية والكتمان الذي يحيط التدريب والإعداد ، ثم الانقضاض على أزلام النظام بحرب عصابات داخل المدن ، حتى تشتعل الثورة الشعبية ، فيقوم الجيش والشعب معاً ضد هذه السلطة الحاقدة ، ولابد من :
1 ـ جمع البراعم المسلمة وغرس حب الشهادة والجهاد في قلوبهم منذ الصغر .
2 ـ تدريبهم تدريباً عالياً على الأسلحة الفردية ، وثبات الجأش ، وبرود الأعصاب عند التنفيذ ..
ويهمس مروان لنفسه : عندئذ سوف يقتنع الإخوان المسلمون بتعجيل الجهاد ضد الطغاة ، وسينضمون كلهم جنوداً وقادة ، تحت لواء الحركة الجهادية لأن السلطة ستعلن الحرب على الإسلاميين كلهم ، بعد أن يقوم شباب الطليعة بعملياتهم ضد النظام الحاقد ، وسيضطر الإسلاميون إلى حمل السلاح للدفاع عن أرواحهم وأعراضهم ، ثم قام مروان إلى الصلاة ودعا ربه ( اللهم يامقلب القلوب اشرح قلوب الإخوان إلى ماشرحت قلبي له ، يامقلب القلوب ، أخرجهم عما هم فيه من الدعـة والطمأنينة ، والتسويف ، إلى ساحة الجهاد وميدانـه ، اللهم ثبتنا على دينك ، واتباع كتابك وسنة نبيك ، وامدد اللهم في عمري حتى أرى الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين تقض مضاجع الطغاة وتخيفهم ، إنك على كل شيء قدير ) .
يدخل السجان وينادي على مروان فيقوده إلى ساحة المحكمة حيث دخل رئيسها وأعضاؤها ومازال الجميع واقفين ورئيس المحكمة يقرأ الحكم :
ـ بناء على قرار مجلس الرئاسة القاضي بمحاكمة المتهم مروان خالد حديد ومن معه ، وبعد اعترافات المتهم بكل مانسب إليه ، وبناء على قناعة المحكمة ومصلحة الحزب والثورة فقد حكمت المحكمة على المتهم مروان خالد حديد بالاعدام شنقاً ، وينفذ الحكم بعد تصديقه من رئيس مجلس الرئاسة .
ابتسم مروان وقال بهدوء : ـ كذبت ياطلاس ... أنا لست مجرماً .. الله يحكم بالموت ولست أنت .. . والأعمار بيد الله وليست بيدك ، والمعركة مستمرة بيننا وبينكم ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
مئذنـة ودبابـة – (12/13)
مئذنة ودبابة رواية تاريخية إسلامية ، حاول الكاتب أن يؤرخ لحادثة هامة جداً في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة ، كان له أثر كبير جداً على العالم العربي كله في النصف الأخير من القرن العشرين ، هذا الحدث الهام والخطير هو هـدم النظام السوري الحاكم لمسجد السلطان بالدبابات في حماة عام (1964م) بعدما اعتصم فيه الأخ مروان حديد يرحمه الله ومعه مجموعة من الطلاب ...
ـ تعالي بثوبك الأبيض ... آخر جملة سمعتها صفاء من محمود قبل رحيله عن الدنيا ، سمعتها كالهمس ، كما سمعها منقذ ، ثم رحل محمود ومنقذ إلى الجنـة ، وتسابقت حور العين إليهما ، إلى محمود ومنقذ ، محمود رائد الشهداء في العصر الحديث ، الذي فتح باباً تسابقت إليه براعم الشباب ، وهزت كراسي الطغاة في العالم العربي والإسلامي ، وتناقل الناس أخبارهم كالأساطير ، لكن ماذا يريد محمود من صفاء !!؟؟وماذا يقصد بالثوب الأبيض !!؟؟ ذاك الذي فهمته صفاء وحدها . فالأرواح جنود مجندة ، لذلك أعدت صفاء ثوب عرس أبيض ، مع بعض التعديلات الخاصة فصار ثوب زفاف إلى الجنـة ، ثم لبسته ونظرت إلى نفسها في المرآة ، وقالت لنفسها : ـ أين أنت من حور العين اللاتي سبقنك إلى محمود !!؟ ثم تذكرت أن المؤمنة سيدة الحـور في الجنة ، وحور العين وصيفات عندها ، يفوق جمالها جمالهن ، وتفوق ثيابها ثيابهن وحليهن ، ثم بدا لها جمالها بهذا الثوب الأخروي ، فاغرورقت عيناها بالدموع ، فهربت إلى محرابها ، ودعت في صلاتها ( اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك ، وألحقني بمحمود ، إنك كريم ورحيم ، وعلى كل شيء قدير ) ، وبعد أن أتمت صلاتها استأذنت والدها وذهبت إلى دار محمود ، ولما فتحت أخته لها الباب ؛ سبقت دموعها كلامها ، فضمتها صفاء إلى صدرها بحنان وقالت :
ـ لا ... لايا أختاه ، محمود شهيد ، بل هو من سادة الشهداء ، لايبكى عليه ، بل نفرح لهذه المنزلة التي أكرمه الله بها ، ونهنأ أنفسنا بالفوز الذي نالـه محمود .
ـ كنت أحلم بعرسكما ياصفاء . ـ ادع الله أن يلحقني بـه ، وسيكون عرسنا رائعاً في الجنـة ، ما أجمل العرس هناك ، كأني أرى الولدان المخلدون يحملون كؤوس الشراب وأطباق الفاكهة كأنهم لؤلؤ منثور ، وحور العين عن يميني وعن شمالي تزفنـي إلى محمود ، كل ذلك سيتحقق إذا أهدى الله لي الشهادة ، وليس ذلك على الله بعجيب .
ـ ألا توجد حاجات خاصة لمحمود أرثها عنـه ؟ ـ نعم ، صندوق خشبي يهتم بقفله ، ولما حاولت صفاء رفعـه وجدته ثقيلاً ، لذلك أصرت على فتحه فوجدت فيه فتيلاً صاعقاً وكمية من المتفجرات [ وقد عرفت ذلك من دروس الفتوة ] ، ووجدت حزاماً عريضاً أحاطت به خصرها النحيل ، وتذكرت ما سمعته من مدرس التربية الإسلامية عن الشهداء الأربعين الذين أوقفوا هجوم الهنود ( عباد البقر ) على المسلمين الباكستايين ، عندما رأى القائد الباكستاني كثرة القوات الهندية المدعومة من روسيا وأمريكا وعملائها ( ..... ) وتفوق هذه القوات بالعتاد والعدة ، وكانت ظروف المعركة كلها لصالح الهنود ، ورأى ذلك القائد المسلم أن حب الشهادة هو الشيء الوحيد الذي يملكه الباكستانيون ولايوجد عند الهنود ، عندئذ طلب أربعين فدائياً استشهادياً يبيعون أرواحهم لله ، طمعاً في دخول الجنـة ، فتقدم لـه المئات يتزاحمون ويتنافسون حتى انتقى منهم أربعين من الشباب ، وألبسهم هذه الأحزمة الناسفة وطلب منهم أن يكمنوا على طريق الدبابات الهندية ، حتى إذا صاروا وسط الرتـل ( قرابة مائة دبابة ) قفز كل منهم على دبابة وفجر نفسـه على الدبابة ، فاحترقت أربعون دبابة في ثوان ، وتطايرت الشظايا فأحرقت عشرات الدبابات والآليات الأخرى ، وقتل مئات الهنود في دقيقتين أو ثلاث ، وتعطل مسير الرتل الهندي مما ساعد القوات الباكستانية على النيل منه ، وحصر الرتل المدرع الهندي ولم يكن أمامـه سوى الفـرار .
استرد أمين الفرع وقائد الحرس القومي أنفاسهما ، بعد أن رفع الأهالي الرايات البيض فوق دورهم ؛ علامة على استسلام المدينة ، وبعد أن تمكن الجيش العقائدي من بث الرعب في قلوب أبنائها ، ونمت ثقـة الحزب بالجيش العقائدي ، وزادت آمالهما بمزيد من الجولات على الرفيقات ، لولا حديث الناس عن محمود الذي صار اسطورة ينغص على الحزبيين البعثيين ورجال السلطة لذة نصرهم على الشعب الأعزل ، محمود الذي قطع رأس العسكري بالبلطة ، وقتل أكثر من خمسة وعشرين جندياً من الجيش العقائدي ، وصارت قصته تبث الرعب والهلع في قلوب الكفرة والمرتدين ، وزاد فيها خيال المتحدثين والناقلين ، لذلك صار اسم محمود كافياً لاصفرار وجه كل من أمين الفرع وقائد الحرس القومي والعقيد قائد اللواء (45) يرتعدون خوفاً كلما ذكر لهم اسم محمود صاحب البلطة .
ومازالت الآنسة مديرة السيدة عائشة يأكل الحقد والحسد قلبها ، تنفث دخان سيجارة (الكانت ) كلما تذكرت صفاء التي تحدتها باستعلائها عليها ، وقد واتت الفرصة لتنتقم منها ، كلمة واحدة ( لصاحبها ) قائد الحرس القومي تقول له أن صفاء خطيبة محمود (صاحب البلطة ) ، الذي يرعبهم اسمه ، ويتمنون لو أحرقوا كل أرض مشى عليها محمود ، وترددت بين الغيرة والحقد من جهة ، والرحمة من جهة أخرى ، ثم حزمت أمرها عندما وسوس لها الوسواس الخناس ( صفاء رجعية من بقايا العصور الوسطى ، تعيق تقدم المجتمع نحو التحرر من قيود الماضي ، ويجب أن تزول من طريقه ) ، وأخيراً كزت على أسنانها النجسة القذرة ، ذات الرائحة المنتنتة ، وفركت أصابعها ، ثم أدارت قرص الهاتف :
ـ آلو ، أعطوني الملازم أول ـ اسعد الله صباحك ، كيف وقتك ؟ ـ مازلنا في حالة التأهب القصوى ، وأنتم في عطلة تهنأون بتعبنا . ـ لاعليكم مادمتم تنظفون البلد من أدران الماضي العفن ، أنا الآن في البيت وحدي ، وعندي الطعـام والشـراب ، و(الكانت ) ... ـ وأنا في الطريق إليك حالاً .
ـ أهلاً بالرفيق ، طالت لحيتك ، وصار منظرك رجعياً .
ـ لاتذكريني بالرجعية ، فإنهم مرعبون حقاً ، وكلما سمعت اسماً لهم ينخلع فؤادي .
ـ لقنتموهم درساً لن ينسوه ياعزيزي . ـ ( يضحك ) الحقيقة أرعبونا وأرهبونا أيتها الساذجة ، أنت لاتفهمين في الحرب . ـ لمَ لا أفهم !!؟ ( ومسحة الغضب على وجهها ) . ـ ألم تسمعي بمحمود !!؟ الذي قطع رأ س العسكري بالبلطة !! ثم أخذ بندقيته وقتل أكثر من عشرين جندياً من خيرة جنودنا العقائديين ، وأوقف الهجوم على المسجد ، وعطل تقدم مجموعة الاقتحام من المشاة ، مما أجبرنا على تهديم المسجد بالدبابات .
لما سمعت الآنسة اسم محمود ارتفعت دقات قلبها ، واحمر وجهها وقالت : ـ أعرف محمود وأعرف خطيبته أيضاً !! ـ خطيبة محمود !!! ـ نعم !! من هي !!؟ وما اسمها ؟ ـ صفاء ... طالبة في الثالث ثانوي ، إنها شريكة أفكاره ، تحدتنا في الثانوية ، ونشرت الجلباب بين الطالبات ، غصباً عنا ، تكره الحزب والثورة ، لكنها قوية الشخصية ، عندئذ هب الملازم أول واقفاً ,قال : ـ أين بيتها ؟ يجب أن اسبق الجميع بهذا النصر ـ بيتها في الدباغة ... شارع ... جانب دكان ... ووالدها ( ...) كتب الملازم أول هذه المعلومات ثم استأذن بالانصراف ، فوقفت في وجهه : ـ كيف تنصرف ولم تأكل شيئاً وأنت جائع بالتأكيد !! ألست جائعاً !!!؟ ـ سوف نأكل ونمرح بعد إيصال هذه المعلومة إلى مدير الأمن السياسي ، ويجب أن أكسب هذا السبق العقائدي قبل المخبرين ، ولك جائزة أيتها المناضلة الجميلة .
وصل قائد الحرس إلى مدير الأمن السياسي وفور وصوله قال :
ـ هل عرفت الفتاة ؟ أجاب : أي فتاة ؟ ـ التي دخلت دار محمود قبل موته وبعده ؟ ـ هل عرفتها أنت ؟ ـ نعم ، إنها صفاء ( ....) خطيبته ، رجعية كبيرة جداً ، وهي شريكة أفكاره ونشاطه ، عنوانها : الدباغـة ، ..... ـ وكيف عرفت ذلك ؟ ـ معلومات موثوقة من مصادري الشخصية .....
بعد يومين كان التقرير كاملاً عن صفاء وعملها ووالدها وبيتها وصلتها بمحمود ، ونشاطها في الثانوية ، وتحريضها الطالبات على لبس الحجاب ، ومحاربة السفور والتبرج بين الطالبات ، واتخـذ القرار النهائي بشأنها ، يجب أن تعتقل ولأنها فتاة سوف تخاف وتعترف بكل شيء ، وستكون ورقـة رابحـة عند المحقق والمدعـي العام .
مئذنة ودبابة
(13 /13 )
مئذنة ودبابة رواية تاريخية إسلامية ، حاول الكاتب أن يؤرخ لحادثة هامة جداً في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة ، كان له أثر كبير جداً على العالم العربي كله في النصف الأخير من القرن العشرين ، هذا الحدث الهام والخطير هو هـدم النظام السوري الحاكم لمسجد السلطان بالدبابات في حماة عام (1964م) بعدما اعتصم فيه الأخ مروان حديد يرحمه الله ومعه مجموعة من الطلاب ...
شعرت صفاء بموجات من الغبطة والفرح تغمرها ، حتى بدا ذلك جلياً في وجهها ، فنظرت إلى والدها بأدب جـم وقلب متين وقالت :
ـ أبي ، إني أشـعر بقدوم حدث عجيب ، نادر في نوعـه ، أرجوك يا والدي أن تنقل أهلي من هذا البيت ، إلى أحد أقاربنا !!؟ ـ لِـمَ ياصفـاء !!؟ خير إن شاء الله !! ـ لا أريد أن ينالهم أذى ، مازالوا صغاراً ، أريد أن يكبروا وينالوا أكبر شهادة في هذا الوجود . ـ هيا نرحل كلنا عن هذا البيت ياصفاء . ونسكن عند خالك حتى تهدأ العاصفة . ـ أرجوك ياوالدي ، خذ أهلي كلهم ماعداي ، ربما كنت مطلوبة ، وإن لم يجدوني هنا ، سيببحثون عند خالي ، وسيلحق الضرر عدداً كبيراً منكم ومن أخوالي ، وأرجوك ياوالدي أن تربي إخوتـي كما ربيتني ، وكأنني أراهم أبطالاً مثل محمود ، ولاتنساني من الدعاء يا أبي ، وسوف نلتقي بإذن الله ...
كان لكلامها وقع سحري وغير عادي في ذهن أبيها ، وبتقدير الله ، جعله يعمل بنصائحها وكأنه مريد عندها ، فجمع الأسرة وهيأهم لمغادرة البيت ، ثم دخل غرفة صفاء فوجدها ممسكة بالمصحف ، تحبس دموعاً حارة في عينيها ، ثم تجلدت صفاء وتجلد والدها بقدرة قادر ، وكانت لحظات أكبر من طاقة البشر العاديين ، عندما نظرت صفاء إلى والدها نظرة الوداع ، وما أصعب نظرة الوداع ، ومن يتحملها دون دموع ونحيب سوى الأبطال الذين هيأهم الله بطاقة ربانية ، وانسابت دموعها بصمت بينما جمد وجهها كالصخر ، فضم الأب ابنتـه إلى صدره بحنان الأب وهطلت دموعه وقال : لا تخافي ياصفاء ، سوف أودع أهلك عند خالك وأعود لك يا بنتي ، لن أتركك وحدك ، مادمت تصرين على البقاء في البيت ، سأعود لأبقى معك ، وقلبه يرجف من المصير المجهول الذي ينتظر ابنته الغالية التي رباها منذ الصغر على القرآن وسيرة المصطفى ، وشهداء الاسلام في عهد النبوة ، حتى نقش في قلبها حب الشهادة في سبيل الله ، ولكنه يخاف مما هو أكبر من الموت ، وبمرارة وصعوبة تهد الجبال الراسيات هدأ من روعـه وقال بصوت متقطع : لا أخاف عليك من الموت يا ابنتي !!.. فأدركت صفاء مرماه ، لذا أسرعت إلى خزانتها وفتحتها أمامه فرأى عدداً من القنابل اليدوية ، ورأى الحزام الناسف ، وقالت أمامه بصوت الرجال : ـ سأقتلهم قبل أن تلمسني أيديهم النجسـة ، وأعاهد الله وأدعوه أن لاتلمسني أيديهم القذرة وأنا على قيد الحياة ، ولابعد الممات .
وللسلاح رهبة وشجاعة يبثها في الإنسان ، ويجعل نفسه شفافة ترنو إلى السماء وتتغلب على ثقلة الأرض ، لذلك هدأ روع الأب وقال : ـ متى فطنت إلى ذلك !!؟ أجابت : ـ أنا ابنتك ، ألم تربينا على الجهاد في سبيل الله !! ألم تعلمنا أن المسلمين ذلوا وهانوا عندما تركوا الجهاد ؟ هذه من تركـة محمود ، عندئذ ضـمها إلى صدره ثانيـة ، ثم أغمض عينيه واتجـه نحو الباب وهو يقول : ـ أودعتك في خزائن الله الذي لاتضيع ودائعه ) ، وأسرع الخطى على أمل العودة بعد ساعات قليلة ، في حين دعت صفاء ربها أن يحول دون عودة أبيها إلى البيت ، تريده يربي إخوانها الصغار كما رباها ...
استحمت صفاء ، ولبست ثوبها الأبيض فوق الحزام الناسف ، ثم تعطرت وتزينت كما تتزين العروس، وجلست تتلو كتاب الله عزوجل ، بصوت ملائكي مطمئن ، وصورة محمود ترتسم بين الفينة والأخرى على الصفحات أمامها ، ثم أرهفت سمعها فسمعت صوت محمود يناديها :
ـ لاتنـس الصواعق .... ركبي الصواعق ... فهبت مسرعة مذعورة وقد نست تركيبها، وركبت الصواعق في الرمانات ، وفي الحزام الناسف ، كما سبق وعلمها محمود على ذلك ، ثم عادت إلى المصحف ، وما أن جلست حتى سمعت هدير المصفحات تدور حول البيت، بعد أن عزل حي الدباغة ، ومنع فيه التجوال ، وبصعوبة بالغة خرج والدها من الحي ، وهو يلتفت وراءه والدموع تنسكب من عينيـه ، فلن يسمح له بالعودة إلا بعد أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وسمعت مكبر الصوت ، ( يمنع التجول في حي الدباغة كله ، سنقتل كل من يمشي في الشوارع ، أغلقوا أبواب بيوتكم ونوافذها ) ... ثم وقف رتل من السيارات العسكرية المصفحة أمام بيت صفاء ، وهبط منها ضابط مع عدد من الجنود ، يحرسونه من كل الجهات ، ودق على الباب ، واستمر يدق دقيقة كاملة ولم يرد عليه أحد ..
نظرت صفاء من النافذة فرأت سيارة مملوءة بالجنود ، جاءوا ليهدموا بيتها ، ويقتلوا كل من فيه ، وبعد ثوان ألقت القنبلة الأولى عليهم وهي تتلو { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } فوقعت القنبلة في وسط سيارة الجنود، فتطايرت أشلاؤهم بعيداً عن السيارة ، وفتح آخرون النار هلعاً وخوفاً من المفاجأة فقتلوا بعض رفاقهم بينما دارت صفاء إلى الجهة الثانية ورمت القنبلة الثانية وهي تكرر { ومارميت إذ رميت ولكن الله رمى } فأصابت الأخرى ودب الهلع والذعر في جنود الجيش العقائدي . ...
ـ آلو (1) أنا (12) ياسيدي في البيت عدد كبير من المقاتلين الشرسين ، قتلوا منا حتى الآن أكثر من خمسة عشر جندياً ، بينهم الرقيب والمساعد ، وسيطر الرعب على الباقين ، سيدي نحتاج فصيلة دبابات لابد منها ...
ـ من أجل فتاة ياجبان ، تريد دبابات !!!؟ وصار العقيد يشتم ويعربد ثم صاح دمر البيت بالآربجي ..
اقتربت إحدى المصفحات وفتحت الباب بصدمه عدة مرات ، واندفع الجنود داخل البيت فرمتهم صفاء بالقنبلة الثالثة ، وامتلأت الدار بالنار والدخان والأشلاء ، ورائحة البارود والدم ، عندئذ أمر قائد السرية جنوده بالابتعاد عن البيت ، وتدميره بالاربجي ...
لجأت صفاء إلى تحت الدرج حيث عضائد الاسمنت القوية ، ولم يبق عندها سوى الحزام ، وبعد دقائق دوى انفجار عنيف غطى كل صوت في المدينة ، ثم صعدت سحابة دخان كثيفة فوق بيت صفاء ، شاهدها والدها ، فلجأ بالدعاء إلى الله أن يرزق ابنـته الشهادة ، وأن لاتقع أسيرة بأيدي الأنذال ، ثم هدأ كل شيء ، وسمع صوت الناعورة يتردد صداه في شواطئ العاصي ، ومازالت صفاء حية ، ولما انقشع الدخان ولم يبق في البيت مايخفيها عنهم ، خرجت ترفع يديها وتعلن الاستسلام ..
ومشت ببطء تتخطى الركام ، كتبها ودفاترها ، وأقلام أخواتها وإخوانها ، ركام بيتها الذي نشأت وترعرعت فيه . وقد تناثر أثاث البيت والكتب ، ولعب الأطفال ، وتطايرت أوراق المصاحف فداسها الجنود ، وقد صمت كل شيء ، وعيون الجنود مندهشة ترقب صفاء .. وقد أكد لهم قائد السرية أنهم جاءوا لأسرها وليس قتلها ، للاستفادة من المعلومات التي تعرفها عن محمود وجماعته .. ولأنها تمتلك معلوما ت ثمينة عنهم .
أما قائد السرية فقد لجم لسانه ، بالأمس واجه محمود الموت علناً يتحداه ، وتبعه منقذ وتوفيق وعبدالله ، والآن هذه خطيبة محمود ، تخرج من الركام كأنها جنيـة ، إنها جميلة جداً كما تحكي له جدته عن الجنيات ، وكان جهاز اللاسلكي يردد :
ـ آلو يا (12) ياملازم أول ... ياقائد السرية ..آلو .. آلو .. أنا العقيد ...هل تسمعني ؟ ثم يكرر : آلو .. يا .. يا .. فسمعه ضابط آخر فتناول الجهاز وقال : أنا (12 ) اسمعك جيداً سيدي ....
ـ أين (12) فطـس إن شاء الله !!؟ ـ لاياسيدي ، كأنه أصيب بالصمم ...
فقال العقيد : ـ قل لي ماذا جرى ؟
ـ ياسيدي العقيد ..خرجت علينا من ركام البيت بعد تدميره بالآربجي عروس بثوبها الأبيض ، ترفع يديها ، تمشي ببطء ، تتقدم نحونا ، ....
قال العقيد : ـ ابحثوا بين الركام عن الرجال أحياء وأموات ، واحذروا ، هذه العروس لك يا (121) إن أســرتها حيـة ..
تقدم بعض الجنود وأمسكوا صفاء من يدها وقادوها إلى إحدى السيارات وهي صامتة مستسلمة لاتتكلم ، ثم بحثوا بين الركام فلم يجدوا أحداً ، لذلك اجتمع الضباط الثلاثة حولها ومعهم (121) وعدد من ضباط الصف والجنود ،اقتربوا بدافع من حب الاطلاع ، وقد ذهب روعهم عندما نطقت وقالت : قتلتم زوجي .
ـ إنها إنسانة إذن وليست جنيـة ، عروس حقيقية ، وثوب عرس حقيقي ، ألا تـرون !!! ، هكذا قال قائد السرية ومـد يـده إلى ثوبها ، وحالما لامست أظافره النجسـة ثوبها قالت :
ـ أنا عروس محمو د ... ودوى انفجـار بعد كلمة ( الله أكبر ) انطلقت قوية من فـم (صفاء ) عالية مجلجلة ... غطى عليها الانفجار ، انفجار الحزام الناسف الذي قطعها أشلاء طاهرة وقطع معها عشرة من الضباط والجنود حولها ...
ولما تطاير الجسد الطاهر أسرعت إليه الملائكة تلفـه بشا ش الجنة ، وتطيبه بعطر الخلود ، وتدوس الملائكة على أشلاء عشرة من الأنجاس المجرمين ، قدمتهم صفاء عربوناً للجنة ، وهرب الباقون من الجنود في كل اتجاه وهم يصرخون : جنيـة .. جنيـة .. وليست عروساًُ حقيقة .
ورددت شواطئ العاصي صدى الانفجار ، وطارت أسراب الحمام جماعات جماعات فوق حي الدباغة ، وازدحمت سماء حماة بالملائكة وأرواح الصديقين والشهداء يشهدون زفا ف ( صفاء) إلى ( محمود ) ، وتمايلت حور العين طرباً تملأ الأفق ، ومئات الوصيفات أسرعن لاستقبال سيدتهن ( صفاء ) وهي تزف إلى سيدهن ( محمود ) ... ثم علا صوت النواعير يردد نغمات قدسية أشبه بألحان عرس تزف صفاء بثوبها الأبيض إلى محمود .
* كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية