أشواك
سيد قطب رحمه الله
دار النشر : دار سعد
* لم تُطبع إلا مرة واحده فقط عام 1947 .. تحوي 148 صفحة .. مقسمة إلى ثلاثة عشر فصلا .. وذات حجم متوسّط .
إهداء :
إلى التي سارت معي في الأشواك ، فدميت ودميَت ،
وشقيتُ وشقيَت . ثمّ سارت في طريق وسرتُ في طريق :
جريحين بعد المعركة . لا نفسها إلى قرار . ولا نفسي إلى
استقرار . . .
...................................... سيد قطب .........
.. أشواك ..
حينما أمسك بيدها ليلبسها خاتم الخطوبة ، في حفل من الأهل والأصدقاء ، وفي ضوء الأنوار الساطعة ، وعلى أنغام الموسيقى في الحجرة المجاورة ... أحس بيدها ترتعش متقلّصة في يده ، ونظر فإذا دمعة تند من عينيها .
شعرَ بشوكة حادة تنغرز في فؤاده ، وغامت الدنيا في عينيه ، وتوقّع شراً غامضاً يوشك أن ينقضّ ، بل شعر بالكارثة تظلله ، وتغشى حياته . ولكنه تماسك ، وأسرع يدعوها إلى المقصف المعد في مكان آخر ، غير ملتفت لدعوة المدعوين !
وهناك – قبل أن يحضر أحد – نظرَ في عينيها المغرورقتين ، فإذا هي تحاول بشدّة أن تبتسم ، وتحاول أن تبدو خفيفة رشيقة كعهدها في غالب الأحيان .
أمسك بيديها بين يديه ، وحدق في وجهها ، وهو يقول :
= ماذا ؟
قالت :
= لا شيء !
قال :
= بل هناك أشياء .. ويجب أن أعلم هذه الأشياء .
قالت :
= أوه ! قلت لا شيء . ثم اسكت لقد بدأوا يحضرون !
قال :
= أسكت .. على أن تعديني بكل شيء بعد انصرافهم
قالت :
= وهو كذلك !
وكانوا قد أقبلوا يتغامزون ، فسحبت يدها من يده ، متظاهرة بالدلال والخفة ، كأنما كانا يتناجيان ويتعابثان في غفلة من عيون الرقباء .
***
قالت في لهجة مناورة :
= ولماذا تصر على أن هناك شيئاً ؟ ألا تتأثر الفتاة ، وهي تقف في مفترق الطريق بين عهدين ؟
قال في لهجة جادة :
= اسمعي يا سميرة ، إنني أعرفك جيداً ، ولم تعد خافية منك تخفى عليّ ، ولقد لاحظت تلك النوبات التي تفجؤك وأنت معي في أبهج اللحظات ، وهي علامة لا تخطيء على أن هناك شيئاً . ثم إنني أحبك ذلك الحب الذي تعرفينه ، وإن بين قلبي وقلبك تلك " الشيفرة " الخفية ، التي تجعل لكل دقة في فؤادك صداها القوي في فؤادي ، فلا تحاولي أن تغالطيني أو تغالطي نفسك ،بعد اليوم .
فارقتها ابتسامتها ، وخذلها تماسكها ، وغامت على وجهها سحابة من الأسى ، وقالت في صوتٍ غائر كأنما ينبعثُ من أعماق هاوية :
= أعلم أنك تحبني فوق مقدور الإنسان ، وهذا ما يعذب ضميري .
ثم سكتت سكته رهيبة فتناول يدها في صمت ، وهو يحس هول العاصفة تجتاح نفسها فتحطمها وتوشك أن تجتاح حياتهما جميعاً ، وحدّق بشدة في عينيها ونظر إليها مستزيداً !
قالت :
= اغفر لي أن أقول لك كل شيء . إنني أثق بك ثقة عميقة ، وأشعر بمقدار حبك لي ، ولو فتشت في قلبي لوجدت لك مثل هذا الشعور فيه . ولكن هنالك في ضميري أشواكاً سأضع عليها يدك ، وأترك لك التصرف فيها كما تريد ...
قال :
= قولي كل شيء ولا تخافي !
قالت :
= لقد عزمت أن أقول ....................
***
....... في نهاية قصتها كانت تقول ، وهي تهتز وتختلج : (( وهذه الدمعة التي رأيتها لم يكن منها بد . كنتُ أشيّع بها عهداً عزيزاً . كان اللحن الموسيقي من حولي هو لحن الجنازة ، أشيع به نعشه للمرة الأخيرة ..... والآن لقد انتهى ............. )) !
وحينما بلغت القصة إلى هذا الحد كان قد اعتزم في نفسه أمراً ، لا يدري كيف اعتزمه ، ولا بأي شعور اتجه إليه . كان الفارق بينه وبين فتاته عشر سنوات ، ولكنه أحس في هذه اللحظات القصار أنه يشيخ . وكان يحبها حبا عنيفاً مجنونا ، ولكنه أحس في هذه اللحظات القصار أنه يحبها حبا سماويا شفيفاً . وكان شديد الغيرة متوفز الإحساس . ولكنه أحس في هذه اللحظات القصار أنه فوق العواطف البشرية ، وفوق غرائز الإنسان .
قال في صوت خفيض رتيب رهيب :
= يا بنيتي . إنني أعطف عليكما ، فاعتمدي علي وسأساعدكما !
قالت في دهشة :
= تساعدنا ؟ وكيف ؟
قال في توكيد :
= ستكونين له !
قالت في ذعر :
= وأنت ؟
قال :
= سأكون لك منذ اليوم أخا وصديقاً !
قالت :
= وتضحي حبك لي كله ، وماضيك معي كله ، وجهدك من أجلي كله ؟
قال :
= نعم أضحيه . ولا زلت على استعداد لغيره من التضحيات . أضحيه وأنا أعلم أنني ضحيت بالحياة !
قالت مبهورة :
= يا الله : إنك نبيل . بل أنت أنبل من إنسان .....
وحينما آوى إلى فراشه ! انجلى عنه هذا الخُمار المريح ، وتنبّهت أعصابه ، وواجه كأنما هوّة تنفتح بين قدميه ، وفجوة تفصل شطري حياته ، ومدى من العمر لا يقاس بالآباد !
لقد بنى في أحلامه عشهما المنتظر ، ولقد مضى بخياله يطوي الأيام ، ولقد عاش هذه الأحلام عيشة الواقع ، واستغرق في هذا الخيال ، حتى لم يعد يفرق بينه وبين الحقيقة !
فأين هو الآن من هذه الأحلام ؟
لقد أحسّ بالطعنة ، وعرف انه فقد الحلم القديم : حلم الحورية الهاربة التي سيقودها مغمضة العينين إلى العش المسحور . بعد أن عاش في هذا الحلم عامين كاملين ، وبعد أن سحر بها منذ اللقاء الأول ، وأعدّ نفسه وأحاسيسه كلها لارتقاب اليوم الموعود .
وجد نفسهُ يبكي ..
ثم أدركته رحمة الله فنام .
.
.
.. وكان الصباح ..
وصل إلى مكتبهِ في الصباح – ولا يدري كيف وصل – ، لم يلق باله في هذا اليوم إلى شيء في الطريق . تم كل شيء كما تتم الحركة الآلية .
وكان يبدو على مظهره السكون والاستسلام والانقياد ، لم يكن له رأي ولا هدف ولا اتجاه . صحا فذهب إلى مرافق المياه ، ولبس ملابسه في صمت ، وانطلق إلى الطريق فركب القطار ، وجلس في مقعده ، ووصل إلى الديوان ..!
وقال أحد زملائه في المكتب :
= خير إن شاء الله . مالك يا فلان ؟
فافترت شفتاه عن ابتسامة مغتصبة ذابلة وقال :
= خير ! لاشيء ! أترى شيئاً ؟
قال زميله :
= ألمح عليك الإجهاد . لا بد أنك كنت سهران !
قال :
= أي والله ! كنتُ سهران !
ثم انصرف الزملاء إلى أحاديثهم اليومية التافهة ، وانصرف هو إلى نفسه ، لا يحاول حتى أن يتكلف فيتجمل أمام الزملاء .
كان لا يحس بأي أحد ، بل لم يكن يحس بالمكان !
ودق جرس التليفون . فإذا بالموظف القريب يناديه . وصحا فجأة فاختل توازنه ، وهو يلبي النداء وأمسك بالسماعة ، وفي يده بقية من اضطراب .
قال : آلو ...!
قالت :
= آلو . أنت سامي ؟
قال ولم يدرك بعد شيئاً :
= نعم يا سيدتي !
قالت في لهجة مرحة مستخفّة :
= أتعرف من التي تكلمك ؟
ولم يكن يدري صوتها في التليفون ، ولكنه وجد في نفسه بعض الانتعاش على كل حال .
قال :
= لا . من أنت ؟
قالت :
= سميرة !
نسي أنه في الحجرة بين زملائه . وأحس بالوحدة والانفراد ، بل غابت عنه معالم المكان والزمان ! وارتجفت كل ذرة في كيانه وحاول أن يقول أشياء كثيرة لا يدريها ، فاضطربت في دمه الكلمات . وأخيراً فتح الله عليه بجملة تافهة بعد مضي لحظات :
= صحيح ؟ أنت سميرة !
قالت وقد جلجل صوتها بضحكة عذبة ، نفذت إلى ذرات جسمه وحناياه :
= والله أنا ! ألا تصدق ؟
قال وقد استردّ شيئاً من إرادته ونفسه :
= إن صوتك رائع في التليفون !
قالت مشرقة مبتهجة :
= صحيح ؟
قال :
= والله !
وخاف ألا يجد ألفاظاً ، وألا يهتدي إلى موضوع يطيل به الحديث ، فقال :
= وأين أنتِ الآن ؟
قالت :
= أتكلم من صيدلية في العتبة .
فاستمر في هذا الحديث التافه الذي هو أبعد ما يكون عما يريد أن يقول :
= وإلى متى ستمكثين هناك ؟!
قالت :
= إنني عائدة إلى البيت الآن .
وأغلق عليه الحديث . فصمت لحظة . وبحث عن موضوع جديد ، أو عن طريقة لإنهاء المحادثة ، فلم يفتح الله عليه بشيء . فما أنقذه إلا صوتها هي ، تراجع الحديث :
= .... وستأتي الليلة ؟!
قال في توكيد ظاهر :
= طبعاً ! متى يحسن أن أجيء ؟
قالت :
= في أي وقت . ولكن حذار ألا تأتي !
قال في نشوة وخفة :
= لا آتي ؟ وكيف ؟ سأكون عندكم في الساعة الخامسة .
وفي هذه اللحظة تنبه إلى أنه بين زملائه . فأراد في محاولة ساذجة أن يبعد عن نفسه الريب ، وعنها هي أولا! وإن لم يعلم أحد من تكون ! قال :
= أخبري (( بابا )) أنني سأحضر في هذه الساعة !
قالت :
= هو بطبيعته يكون موجوداً ... سعيدة !
قال :
= سعيدة .. إلى اللقاء .
***
ووضع السماعة ، وهو في نشوة حقيقية كالتي يحدثها الشراب . كان يحس أن وجهه يلتهب وأنفاسه تفور ! وكان يحس أن كيانه يختلج ، وأنه لو سار لتلجلجت خطاه .
وقال زميله الذي لقيه في الصباح :
= يبدو أنها محادثة سارة . لقد أشرق محياك !
قال وهو يتلعثم ويضحك ويضبط شفتيه في آن :
= نعم ( وبلا سابق إنذار ) .... إنها خطيبتي !
وأثار هذا التصريح عاصفة بين الزملاء : قال أحدهم : مبروك ! . وقال الآخر : لم تدعنا إلى الحفلة ! . وقال الثالث : ولا أخذنا (( الملبس )) ! وقال أحدهم : والله وقعت يا أخانا في النهاية ، وجاءت رجلك ! . فرد عليه زميله : اسكت .. المهم أن لا تفوتنا الحفلة الثانية ولا (( الملبّس )) !
ووجد نفسه يقول في دعابة وبشر وانطلاق :
= اطمئنوا .. فلن يفوتكم شيء إن شاء الله .
وكانت هذه الفترة وتلك الضجة ، كفيلتين باسترجاع اتزانه . فتحرك يغادر الحجرة لا يدري إلى أي اتجاه . ولكنه يسير بخطوات سريعة قافزة نشيطة ، يقطع المشي الطويل أمام الحجر حيث لا يتبيّن له قصدا ، فيرتد يقطعه كرة أخرى !
***
وثقلت عليه ساعات الديوان – وإن كان غير مقيد بالمواعيد – فظل يغالب رغبته في الخروج – وإن كان لا يدري إلى أين يخرج – حتى بقى على الموعد الرسمي ثلاثة أرباع الساعة . وهنا أفتت منه أعصابه ، واستعصى عليه البقاء . فخرج إلى الفضاء !
وحينما وجد نفسه خارج الديوان ، واجهته مشكلة الاتجاه : أين يذهب الآن ؟ إلى منزله ليتناول الغداء ، ثم يعود في الميعاد !
وسار بضع خطوات ، ولكن جاذبا قويا كان في نفسه يشده عن المسير ، فعاد أدراجه حتى وقف أمام الديوان ...
ولم لا يتغدى في المدينة ، ويستريح في مقهى ، حتى يأتي الميعاد ؟
واندفع في هذا الاتجاه .. وشعر بأنه استراح إليه ! إنه هنا في المدينة يكون قريباً من الدار !
وأحس انه سعيد .. وغابت عن حسه الأشواك . وسار في خطوات خفيفة ، مشرق النفس ، نشيط الجسم ، مفتح الحواس .
وفي مطعم يعتاده حين يتخلف في القاهرة ، تناول غداءه بنهم ، وإن لم يشعر بما يذوق . ثم انتقل إلى مشرب هاديء يستريح إلى هدوئه . وجلس يرتقب الميعاد .
ولكن الساعة لا تزال الثالثة . وأمامه ساعتان طويلتان . فأين ينفق ذلك الوقت الطويل ؟ وثقل عليه الزمن – كما ثقل عليه الطعام – وفارقه نشاطه وخفته ، وبدأ يجثم على صدره نوع من الكآبة تسرب إلى نفسه من حيث لا يدري . وفي هذا الجو الذي استحال كامداً بعد فترة ، أخذت تتوارد على خواطره صور الأمس القريب : يداها وهي ترتعش في يده ، ودمعتها تندّ من عينيها ، وخلوتها بعد انصراف المدعوين ، واعترافها له بالأشواك ، فيشعر بهوة عميقة تفصل بينه وبينها . وهنا يحس بيد تقبض أعصابه وتضغطها ، فينتفض كمن يريد الخلاص .
ويثقل عليه جو المكان وهدوؤه ، والظلال التي تبعثها الأنوار الملونة المضاءة نهاراً في الركن الذي آوى إليه ، ويحس انه يلتقط أنفاسه بصعوبة ، فينتفض واقفاً كما يفاجأ بخطر ، ويتناول أوراقه وجرائده ، ثم ينطلق مسرعا إلى الشارع ، كالذي يفر من شيء مخيف ! ثم يسير في الطريق خطوات سريعة بعض الشيء ، ثم يهديء سرعته قليلاً ، وهو يتطلع إلى بعض واجهات المتاجر الزجاجية في غير انتباه .
وفجأة يقف أمام دكانة روائح عطرية ، ويتفحص الزجاجات الأنيقة ، فتعجبه إحداها . وفجأة تهتف به خواطره بأن يختار واحدة منها هدية ، فيدب في كيانه النشاط المرح ، وتنجلي عنه الغمرة الثقيلة ، ويشعر في جسده بالخفة والانتعاش .
ولم يطل لحديث بينه وبين البائع . فقد اختار زجاجة على هيئة قلب ، من عطر فرنسي قديم التعبئة ( كما كتب على الزجاجة ) ونقده الثمن المرتفع بعض الشيء ، وأخذها في علبتها الأنيقة وخرج ....
خرج فرحان كالطفل باللعبة الجديدة . وسار وفي يده الزجاجة يمسكها بحرص واحتراس . واندفعت خطواتته مرحه نشيطة قافزة . ولكن إلى غير اتجاه ...
كان سائراً في الشارع وهو نشوان ، فكان كالمفاجأة له أن ينظر فيرى الترام الذي يركبه إلى هناك ، وكاد يقفز لولا أنه استيقظ إلى أن الموعد بعيد . فترك الترام يمضي وفي نفسه شوق ملهوف !
***
وبعد خطوات وجد مقهى مطروقاً ، ووجد نفسه يجلس إلى مقعد فيه ، كالذي طال عليه السرى فألقى بجسمه ليستريح . وطلب شايا ، فأحس بعد تناوله بالنشاط واليقظة .. ونظر ساعته فإذا هي الرابعة إلا ربعاً . بقيت ساعة وربع .. والطريق لا يستغرق أكثر من نصف ساعة . واستثقل الزمن الباقي . فقام يمشي .
وفي هذه المرة لم يستطع أن يغالب جاذبية الترام حينما جاء مرة أخرى ، فقفز في وسط المحطتين ، وآوى إلى مقاعد الدرجة الأولى الخالية . لقد كان يحس دائما وهو ذاهب إلى هناك أنه أعز من أن يندس في غمار الجماهير !
وعندما كان في محطة المنزل كانت الساعة بالضبط الرابعة والربع . وكان يحرص على أن يبدو هادئاً مضبوطاً في تصرفاته وأقواله . يداري بهذا المظهر ما يضطرب في نفسه من نوازع وهواتف واندفاعات ، فعز عليه أن يخلف ميعاده ، وأن يزعجهم قبل الميعاد ، فراح يتمشى !
وكان قريبا من المنزل فضاء فسيح ، يحمل له في نفسه بعض الذكريات . لقد كان يسكن هنا قبل عشرة اعوام ، وكان يومها فتى يافعا ، كان هذا الفضاء الفسيح يعجبه فيجول فيه ، حيث يخلو إلى الهواء والفضاء ... والشعر في بعض الأحيان !
راح ينقل خطوه في هذا الفضاء ويجوس خلاله ، وخلال الذكريات التي استطاعت أن تطغى على الحاضر بكل ما فيه .
وحينما انتبه . وجد الساعة الخامسة إلا دقائق معدودات . فأبهجه هذا ونشطه ، وانطلق يغذ السير ويسرع الخطوات في اتجاه الدار !
.
.
.. صراع ..
استقبلته مشرقة متهللة كأن لم يكن بالأمس شيء ، واستقبله الجميع في ابتهاج ، وقدم لها زجاجة العطر الثمينة . وبدلاً من أن يزيد هذا في إشراقها وتهللها . لاحظ في يدها رجفة وهي تتناول الهدية ! فانقبضت نفسه ، وتذكر خاتم الخطوبة ! وغاض البشر في وجهه على الرغم من تظاهره بالبشاشة .
ولم يلحظ أحد من أهل المنزل شيئاً مما حدث . بل بدا عليهم وعلى الأم خاصة نوع من الاستبشار المتخفف الطليق . كانوا قوماً طيبين ، لا تنطوي نفوسهم على شيء من التركيب والتعقيد . وكانوا مغرقين في ثقة مريحة بمستقبل ابنتهم السعيد ، مع هذا الشاب الودود . وكانت ألفته بهم قد توثقت خلال فترة طويلة ، فعاد فرداً من الأسرة ، موثوقا به كل الوثوق ، محبوباً من كل فرد في المنزل ، حتى من كلبهم الصغير الذي كان يبصبص له بذنبه ، ويتواثب على قدميه ، يشاركه في ذلك أخواها الصغيران !
وانطلق الجميع إلى لون من ألوان الحديث المرح اللطيف ، يناسب جو الخطوبة السعيدة ! ثم أخذ الجميع ينسحبون واحداً إثر واحد ، ليخلو الجو للخطيبين السعيدين !
***
قالت – بعد أن خلا بهما المكان – وقد علا وجهها نوع من الجد والكآبة :
= اسمع يا سامي ... أرجو أن لا تحضر لي شيئاً من الهدايا !
وأحس لهذا الحديث بوقع الشوك المسموم ، فقال في ألم يخفيه :
= ولماذا يا سميرة ؟
قالت :
= لا أستحق !
قالتها في وجوم ثقيل ، وفي همود حسير . وطأطأت رأسها إلى الأرض كأنما هي آخر كلمة تقال !
قال :
= اسمعي . إنني لا أستريح لمثل هذه الكلمات . فهل لديك حديث آخر ؟ من فضلك أنا لست في حاجة إلى المزيد .
ولمحت في وجهه مرارة ، وفي قسماته وجوماً . فحاولت أن تغير الجو بابتسامة مغتصبة .ولكنها راحت تقول :
= صحيح ! أنا لا أستحق منك كل هذا الاهتمام . إنك إنسان طيب القلب ، خالص النية . أما أنا فبنت شريرة من الذي يرى كل هذا النبل ثم لا يخلص لك . ولكن أنا . أنا التي تسيء إليك في ليلة خطوبتك !
وأربد وجهها وتغيّر ، وهي تلقي إليه بالكلمات الأخيرة . وهنا واجهته المشكلة كلها ، وقد كان قد ركنها جانبا ، ووخزته الأشواك بحدة ، فبدت على وجهه أمارات الألم الحاد . وأدركت بغريزتها الفطنة حقيقة الألم وعمقه ، فارتدت بسرعة إلى الجانب الآخر .
قالت في تودد مغر ، وفي استسلام وديع :
= ولكنني أرجو أم تكون بجانبي . وألا تدعني وحيدة . إنني أستطيع أن أقاوم الماضي ، وأن أنتزع الأشواك حين أراك معي ، أستمد منك الثقة والحرارة . وإنك لصاحب حق في أن تمتليء نفسك بالشوك ، وفي أن تقطع ما بيننا كله ، وأن تفصم هذه الخطبة المعقودة ، وأن تسترد (( شبكتك )) أو تطوح بها في الفضاء . ولكن لتذكر مع ذلك أنني كشفت لك عن كل شيء راغبة غير مضطرة . وأنني أثق بك ثقة لا حد لها ، وأن أحداً من اهلي – حتى أمي – لا يعلم شيئاً مما حدثتك عنه ، واعترفت لك به ...... إنك الآن الرجل الوحيد الذي أعوذ به من الماضي وألوذ به من الأشواك !!!
ونظر إلى جبينها المطرق ، وإلى عينيها الذابلتين فإذا كل معاني الاستسلام : (( إنك الآن الرجل الوحيد ، الذي أعوذ به من الماضي ، وألوذ به من الأشواك )) !
قال :
= وهو ؟ ما رأيه ؟ وما موقفه من موقفك الآن ؟
قالت :
= لست أدري . فإني لم أعد أراه . لقد رفضوه كل الرفض حينما تقدم لخطبتي قبل عام .
قال :
= ما رأيك في أنني أحب أن أراه ؟
قالت :
= تراه ؟ وماذا تصنع به ؟ ( وبدا عليها الاضطراب ) .
قال :
= لست أدري ، ولكن لا بد لي أن أراه !
قالت متوسلة :
= لست أفهم معنى هذا الإصرار ، نفسي تحدثني أن الخير في ألا تراه !
وكان هذا وحده كفيلاً بأن يزيده إصراراً . فارتفعت نبرة صوته في لهجة جازمة :
= علاقتنا كلها متوقفة على أن أراه . فأعطني عنوانه ، ولا عليك مما يحدث بعد الآن !
قالت :
= تهدد ! إذن فإليك عنوانه ... ( ونظرت إليه نظرة طويلة مليئة بالرجاء والتوسل والاستفسار ) !
***
لم يكن يدري – في الحقيقة – لماذا يود أن يراه . إنه لم يسأل نفسه هذا السؤال .. أ لعله يود أن يقيس نفسه إليه في حومة الصراع !
على أيه حال لقد اندفع يصفق في فناء منزله القريب من منزلها ، وهو يسأل عن الشاب الضابط (( ضياء )) !
وخرج له شاب أبيض البشرة قصير بعض الشيء ، في حركاته شيء من البرود ، وأحس في نفسه بشيء من الراحة والاطمئنان لا يدري مأتاه !
قال له :
= حضرتك ضياء أفندي
قال :
= نعم
قال :
= أنا سامي ... وأرغب في أن أحادثك في أمر خاص .
ولو أنك لا تعرفني من قبل ! ، قال الشاب :
= آه .. سامي ... لا .. أنا أعرفك .. سأرتدي ملابسي حالا .. وأخرج إليك بعيداً عن المنزل ... تفضل ...!!!
قال :
= لا .. لا داعي للدخول .. أنا في انتظارك على محطة الترام .
***
ووقف على محطة الترام يقطعها جيئة وذهوبا ، وفي خطواته آلية ، وفي نفسه اضطراب : لماذا قابله ؟ ومالذي سيحدثه به ؟ ...
وأحس في رأسه بغليان !
ولم تمض دقائق حتى كان الشاب بملابسه الرسمية ! فقطع عليه اضطرابه .
قال الشاب :
= أين نجلس ؟
قال :
= في أي مكان . ليس في الشارع إلا قهوة (( نصف بلدية )) ولكن لا بأس بها . فهي أقرب من مقاهي القاهرة .
ها هو ذا الترام ، فلنركب هاتين المحطتين .
وقفزا فأدركا الترام .
***
لم يكن يدري كيف يبدأ الحديث .. فصفق للنادل وكلفه إحضار (( الطلبين )) وكان في هذا مهلة عله يجد مفتاح الحديث .. ولكن النادل مضى ثم عاد ، دون أن يفتح الله عليه بكلمة تقال ..
وأخيراً زالت الحبسة من لسانه ، فتحرك ، ودار الحوار .
= لقد أخذت عنوانك من سميرة !
= آه .. إنها بنت طيبة ، لقد عرفت أنك خطيبها . وهي بنت حلال !
= لقد خطبتها قبل أن أعلم قصتكما . أما الآن فقد تتغير الأحوال .
= إذن هي قصت عليك كل شيء ؟
= نعم وبالتفصيل .. وإني لأحب أن أعرف : ما إذا كنتما اليوم راغبين في محاولة ما أخفقتما فيه قبل عام ، إنني أضع بين يديكما نفوذي لدى أهلها الذين يعدونني واحداً منهم ، ونقودي التي أعددتها إذا كان هذا عائقاً أيضاً .
لم يدرك كيف اندفعت من فيه هذه الكلمات .. أهي رغبته الحقيقية في التخلي عنها بعد أن ظهر له ما ظهر ؟ أم هو إيثاره لسعادتها كما كان يزعم لنفسه ؟ أم هو استطلاع ما بينهما من تماسك واتصال ؟
ولكن الشاب لم يتحمس لهذا العرض – كما كان ينتظر – بل راح يقول في لهجة باردة فيها شيء من الطراوة ومط الألفاظ :
= ولكن ماذا نصنع لأهلها .. لقد قابلوني مقابلة سيئة جداً حينما ذهبت أخطبها .. ثم إن أهلي كذلك يمانعون في زواجي منها إلى حد تهديدي بالقتل إذا أنا أخذتها .. إن أمي تريد لي بنتا غنية .. بنت صادق باشا .. وهم يعرفون اسمك وصلتك بسميرة .. ولذا لم أرد أن أستقبلك في المنزل !
ثم زايله البرود ، وعلت نبرة صوته ، وبدا فيها شيء من الصدق والإخلاص وهو يقول : لن أتزوج ما دامت سميرة ليست من نصيبي !
قال ، وقد تغيرت نفسه ، وبدا فيها غيظ مكتوم :
= قلت لك : إنني سأمهد لكما الطريق ، سأجعل أهلها يقبلونك ، أما أهلك أنت فعليك إقناعهم ، وإن لم يقتنعوا ..أفلست يا أخي رجلاً ؟ ( قالها في لهجة غيظ وازدراء ) !
قال الشاب – وقد ذهبت عنه حماسته الوقتية - :
= ولكنني مسافر للسودان بعد أيام ! فإذا كانت تنتظرني حتى أعود .. فسأتقدم إليها !
وكاد يصفعه ، ولكنه تمالك .. ثم اندفع يقول :
= هذا ليس كلاماً ، فإن كنت تريد شيئاً ، فتقدم اليوم ، وقدم مهراً ، إذا لم تستطع أن تكتب كتابك !
قال :
= إذا رضى أهلها فأنا على استعداد .
عندئذ أحس أن طعنة أصابته ، وأن الدنيا تظلم في عينيه ، وانقطع حبل الحديث ، ولكن الشاب عاود الكلام في رخاوة عجيبة :
= أنا لا أعرف لماذا تكرهها أمي كل هذه الكراهية ؟ إن أهلي يعتقدون أنها ستأخذني منهم ، مع أنها هي التي ردتني إليهم حين غضبت منهم في العام الماضي ، وبقيت في المعسكر لا أدخل بيتهم عدة أيام ؟
قال في استفسار مغيظ :
= وكيف ردتك إليهم ؟
قال الشاب :
= جاءت إلي في المعسكر عند الهرم ، وهددتني بقطع علاقاتها بي إذا أنا لم أعد للمنزل ، فعدت معها ...
جاءت إليه في المعسكر عند الهرم ! هنا أحس بالدوار ، هنا تراقصت في خياله عشرات من الصور المتتابعة ، كان يقف عند صورة منها ثم يطيل الوقوف . صورة (( خيمة )) في المعسكر . وهما منفردان . وهو هذا الشاب (( المائع )) وهي هذه الفتاة التي كانت ترتعش حينما تراه – كما قالت له في الاعتراف – والتي ودعته بدموعها في ليلة (( الشبكة )) وقالت : إن اللحن من حولها كان لحن الجنازة تشيعه به إلى مقره الأخير . مقره الأخير ؟ ها ها ها !
ووجد نفسه يقف للانصراف . ووجد نفسه يقول في حماسة :
= انتهينا ، ستتقدم لأهلها غداً ، وسأنسحب أنا الليلة ، وسأمهد لكما كل شيء منذ الآن !
***
لم يكن يدور في نفسه – وهو عائد إلى منزلها – إلا خاطر واحد :خاطر الانسحاب .. وإلا صورة واحدة : صورة (( الخيمة )) ، ولكنه يكذب على نفسه وعلى الناس لو قال : إن نفسه لم تكن شعلة من الجحيم ، وإن دماءه لم تكن تغلي في عروقه . وإنه لم تدر في أعماق حسه معركة بين شتى الاتجاهات ، وأنه لم يستسهل حماقة الجريمة على وضع من الأوضاع !
ودخل المنزل ، فبادرت إليه ، وفي عينيها نظرة استفهام متوسلة . فاتسعت حدقتاها – وهي تنظر إليه – وعلا صدرها وهبط ، وماتت على لسانها الكلمات !
وانقضت فترة طويلة قبل أن يجد لسانه يتكلم .
قال وهو يتكلف السخرية وعدم المبالاة :
= انتهينا يا ستي .. استعدي للعودة إلى ضياء !
فدنت منه ووضعت يدها على كتفه في خوف الطفلة المتوسلة وقالت :
= ضياء ! كيف ؟
قال وقد زايله هدوءه المتصنع :
= ضياء صاحب (( الخيمة )) في معسكر الهرم !
بدا على وجهها الذعر ، وعلى عينيها الاضطراب ، وتلعثم لسانها بالكلمات ، ثم قالت في انفعال :
= أي (( خيمة )) هو قال لك إنني ذهبت إليه في (( خيمة )) ؟ .. ( ثم جزت أسنانها في غيظ ) ... الكذاب !
لا يدري لم استراح وهي تلفظ هذه الكلمة ، وإن لم تصل إلى موضع الشك في نفسه ...
قال :
= ألم تذهبي إليه في المعسكر ، لترديه إلى أهله حين غضب منهم منذ عام ؟
قالت :
= نعم ذهبت ، ولكنني لم أقابله في (( خيمة )) لقد تمشينا بعيداً عن المعسكر في الرمال !
آه .. الرمال .. وهذه كارثة أخرى .. فما الفارق بين الخيمة والرمال ؟
قال :
= على أيه حال لقد انتهينا . ستكونين له . وسيأتي هنا غداً . وسأخبر أهلك الليلة بانسحابي ، دون إبداء الأسباب ، وإن كنت قد تعهدت بأن أمهد لكما الطريق . لأنه هو متخوف من معارضة أهلك وأهله .
قالت منفعلة :
= يا سيدي لك أن تنسحب إذا شئت ، ولكن ليس لك أن تقهرني على شيء لا أريده .. إنني أكرهه .. لم أعد أتصور أن أراه ..
قال وهو يتصنع السخرية والهدوء :
= يا (( ستي )) إنك تغالطين نفسك . فدعيني أؤدي واجبي !
قالت ، وقد شرقت بالدمع ، واختنق صوتها بالكلمات :
= تؤدي واجبك ! واجبك في أن تتخلى عن الفتاة التي اعترفت لك بكل شيء . التي لم ترد أن تغشك أو تغش ضميرها ، التي وثقت بك فطلبت معونتك . تؤدي واجبك ! ولم لم يؤد هو واجبه في هذا الأمد الطويل . أليس رجلاً . لم لا يذلل عقبات نفسه فيدع لك أنت أن تذللها له ... الجبان !
نطقت بهذه العبارة كلها في سرعة خاطفة ، ولم تكد تنتهي منها حتى بلغت أعلى طبقات النشيج ، وأخذ جسمها كله يرتجف ويهتز ... وبلا شعور ولا قصد ، وجد نفسه يقترب منها ، ثم يضمها إليه ، فتجاوبه في استسلام ، وتدفن وجهها في صدره بعنف ، ثم إذا هو يرفع وجهها بين يديه ، وعيناها مغرورقتان بالدموع ، وفي وجهها براءة معذبة . ثم لا يدري كيف قد نسي كل شيء .. فإذا شفتاه تهويان على شفتيها ، فتستجيب له بكل ما فيها .. ثم يستمعان إلى وقع أقدام ، فينتبهان !
***
قالت له – وقد أمنت واطمأنت ، وعاودتها روح الدعابة والشيطنة :
= كيف وجدته بالله ؟
قال :
= أتريدين أن أصدقك ؟ أم تراني أجامل ذوقك ؟
قالت – وقد فارقتها روح الدعابة ، وبدا على وجهها الجد والاهتمام :
= لا .. لا تقل لي عنه شيئاً . إنني أعرف عيوبه ، وأحب أن أقولها أنا . ولكنني لا أطيق أن يقولها لي أحد .. وبخاصة أنت ! .. إنه تافه ، وساذج و (( بلدي )) في ألفاظه وحركاته ... ولكنه طيب . طيب جدا ومخلص . وفي خلال عامين كاملين ، لم يرد أن يضع يده علي في مرة من المرات !
وأحس لهذه العبارة الأخيرة بوخزة في شعوره . لماذا هذه الإشارة ؟ لتنفي ريبته في المعسكر ؟ ولكن من قال : إن هذا يزيل ريبته ولا يقويها ؟ ثم لم لا تطيق حتى اليوم أم تسمع فيه قدحاً ؟ .... ولكنها تعرف حقيقته ، وتصفه بالتفاهة والسذاجة ، وإن وصفته بالطيبة والإخلاص !
وانطلق المارد . وقام في نفسه الصراع ...
وأدركت هي ما يجول في خاطره – ولم يكن شيء مما يدور في نفسه يخفى عليها – فأرادت أن تأتيه من الناحية التي تعرف ضعفه فيها : من ناحية مروءته وناحية حبه .
قالت :
= أعرف أنك لم تعد تثق بي . معك حق . ولكن ألم أصارحك بكل شيء . ثق أنه لو كان هناك شيء ما أحجمت عن ذكره لك . إنني واثقة بك إلى حد لا تتصوره . فليس هناك ما يمنعني من التصريح ، ولست أخفي عليك أنني أصارع نفسي في بعض الأحيان ، وأنني أحس لهذا المخلوق التافه كثيرا من الإعزاز . لا تنس أنني أحببته في يوم من الأيام إلى حد العبادة ... كنت طفلة مجنونة وكان طفلا ساذجاً ! ولا يزال ! ثم إنني لم أكن قد صادفت رجلاً ... لم أكن قد عرفتك !
وتطلعت إليه بنظرة كلها نداء ... واستطاع أن ينسى في هذه اللحظة هواجسه كلها ليستجيب . ولكنها بعد لحظة كانت تنتفض مذعورة بين يديه ، وكأنها مست من شيطان . وكانت تنفلت إلى حجرة السرير فتدفن وجهها في الفراش ... وتستلم للبكاء !
إنه الصراع .....
***
لم ينسحب ، ولم ينبئ أهلها بشيء ، ولم يحضر الشاب كذلك . وانقضت ثلاثة أيام . وكان هناك . وعلم أنها ذهبت إلى عيادة الطبيب لتأخذ حقنة (( الكلسيوم )) ، وكانت عيادته في المنزل المجاور بالذات ، فلم يرافقها إلى العيادة القريبة .
ثم حضرت ... دخلت شاحبة الوجه ،تغرورق عيناها بالدموع . ثم انفلتت إلى حجرة النوم فأغلقتها عليها ، دون أن تعرج على حجرة الاستقبال ، حيث كانت هناك بعض الزائرات .
ولمحها تدخل ، فتبعها دون أن يُخطر أمها وزائراتها . ولم يكد يفتح الباب حتى وقع نظره على منظر مؤذ جداً : الفتاة منحنية على السرير في اضطراب ، وجسدها كله يتقلص كالملدوغ .
قال :
= هل أدخل ؟
فأومأت إليه أن يجيء . ولم يكد يحاذيها . حتى انتصبت انحائها ، فألقت بنفسها عليه ، ودفنت وجهها في صدره وطوقته بذراعيها في عنف ، وانطلقت تبكي ...
وقف حائراً بعض الوقت ، وتركها تهدأ بالبكاء .. ثم لمع في ذهنه خاطر غريب . قال :
= هل قابلته في الطريق ؟
وفوجئت بكشف سرها على هذا النحو اليسير . وكأنما استراحت لهذا الكشف أيضاً دون أن تقول . فقالت ، ووجهها في صدره :
= نعم قابلته الآن ؟
قال :
= وماذا قال لك ؟ ولماذا تبكين ؟
قالت :
= لقد طلب إلي أن أرد له صوره ورسائله ، ما دمت قد صرت إلى رجل آخر ، وانتهى كل شيء !
وهنا علا نشيجها وزاد اضطرابها فأحنقه هذا . ولكن أدركته رقته عليها ، فقال في نبرة تمزج بين الغيظ والرقة ، وفي لهجة مريرة مغلفة بقلة اللامبالاة :
= ألم أقل لك يا بنية : إنك تغالطين نفسك ، وإن الأفضل هو التسليم والاعتراف ؟
فسكتت فجأة عن البكاء ، ورفعت وجهها إليه ، وقد علته مسحة من الجد الصارم وقالت ، وهي تمسح دموعها بالمنديل :
= في غير هذه اللحظة يحسن منك هذا الكلام !
وكان ينبغي أن يسكت أو يثور . ولكنه وجد في نفسه خفة وانطلاقا . قال :
= إنني لأعجب لك يا بنية : أفي حضني أنا تنشجين عليه ؟
قالت وقد خفت هي الأخرى وانتعشت :
= معك حق . ولكنني والله لست أفهم . إنني كلما وجدت نفسي في ضيقة تطلعت إليك أنت ، وكلما خفت من شيء لجأت إليك أنت ، ولم أفكر في أن ألجأ إلى أحد آخر : لا والدتي ، ولا والدي ، ولا هذا الذي أبكي عليه منذ لحظة ! . أقول لك الحق : إنني بنت مجنونة .. إنني لا أعرف حقيقة اتجاهي ، لا تضحك إذا قلت لك : إنني في بعض اللحظات أتمنى أن يباح لي زواجكما معاً .. أنت وهو .. ليت ذلك ممكناً ! إنني أحبه فقط حينما أحس أن كل شيء بيننا سينتهي إلى الأبد ، وأحبك أنت عندما أحس أنني سأحرم منك .
ومع أن هذا التصريح آذاه ، فإنه وجد نفسه يفكر ، ووجد نفسه يعطف على هذه الفتاة التي يتصارع الماضي والحاضر في نفسها مثل هذا الصراع . فقال في دعابة :
= وهو كذلك يا بنيتي ، أنا قابل لهذا الحل الأخير !!!
قالت وقد عاودها الجد :
= لا . إنني لك .وليست هذه إلا جذوراً لماض سخيف . ساعدني على اقتلاعها من نفسي . قل إنك لن تتخلى عني .. قل .. ( وأمسكت بيده بين يديها في إعزاز ظاهر ) .......... فقال !
سِخريات ..
أذن لهما أبوها في أن يرافقها إلى السينما في حفلة الساعة الثالثة والربع ، بعد أن يتناول في دراهم طعام الغداء .
وخرج من الديوان مبكراً في هذا اليوم ، ليصل في ميعاد مناسب . ووجدها قائمة على تحضير المائدة في خفة ونشاط واجتمع أفراد الأسرة حوله ، يحتفلون به / وهم في ابتهاج ظاهر وفرح واستبشار ، وتناوبوا جميعاً تقديم أطايب المائدة له – على الطريقة الشرقية التي تتم عن طيبة القلب وصفاء السريرة ، وإن كانت تضايق في بعض الأحيان – واشتركت هي معهم في هذا الإكرام ، بعد إحراجها بالفكاهات والنكات من أمها التي كانت الدنيا لا تسعها من الفرح ! .. إنها سيدة طيبة عصبية المزاج ، مصابة بداء الكبد ، وتريد أن تفرح ، وأن تقشع الهم ، لأن الكدر يثير عليها الداء ، وهذه بنتها الجميلة خطيبة شاب تثق في أخلاقه ، ومستقبله طيب ، وهو ملحوظ المكانة في الأوساط الأدبية والسياسية ، كما علمت من بعض الناس . والعائلة كلها تحسدها على هذا التوفيق . فما الذي يعوقها عن الفرح والبهجة والاستبشار ؟!
وانفضت المأدبة ، وتناول الجميع الشاي والقهوة ، حسب أمزجتهم وعاداتهم . واقترب موعد السينما فتهيأت للخروج . و حينما خرجت من حجرة الزينة بدت وكأنها قطعة من الفتنة تتحرك ، فأحس في نفسه إحساس الغني الموفور الثراء ، وهو يطالع رصيده الضخم ... أهذه كلها له ؟ وانتعشت كل ذرة فيه .
ونزلا إلى الطريق ينتظران الترام . وفي المحطة لمح ضابطا شابا يحوم حولهما ، فبدا عليه التضايق ، وتحركت غيرته العنيفة ، ولحظت هي تغير وجهه ، فأدركتها خفتها الشيطانية ، وقالت عابثة :
= واحد ثان !
ولم يحس لهذه الإشارة بأية وخزة . فقد كانت عيناها ونبراتها تنطق بأنها له وحده في هذه اللحظة ، وأن الأنثى المتباهية بفتنتها هي وحدها التي تتكلم فيها !
فانطلقت أساريره بعض الشيء ، وقال معابثا هو الآخر :
= من يدري ؟ !
وأقبل الترام ، فركبا في مقاعد الدرجة الأولى ، وكانا وحدهما . وأحس انه يملك جوهرة ثمينة وأنه حارسها . وفتح الباب الفاصل بين الدرجتين ، ودخل كمسارى الترام . وهو رجل عجوز متهدم يتحامل على نفسه بجهد . دخل مطرق الرأس فنظر – كأنما إلى أقدامهما وحدها – وقطع تذكرتين ومد يده بها في فتور . وفجأة رفع رأسه وانتفض كالمأخوذ وهو يحدق في وجهها بشدة ، حتى لم ينتبه إلى اليد الأخرى التي تمد له النقود ، وتناول تذكرتي الترام . ثم تنبه إلى موقفه فانسحب مسرعاً وأغلق خلفه الباب ! .. ونظر هو إليها ، فإذا هي تغالب عاصفة من الضحك ، وعيناها تدمعان ، ويختلج جسمها كله في اهتزاز . فقال :
= مالك ؟
قالت – في تخابث فاتن :
= عاشق آخر ! أليس كذلك ؟
وكانت نكتة بارعة على غيرته الشديدة ، كما كانت زهو الأنثى بفتنتها التي تذهل حتى الشيوخ الفانين . وكانت لها هذه الجاذبية العجيبة حقاً . الجاذبية التي تكاد تتجرد عن الجنس .. لأن الكل يشتركون فيها : الشيخ والشاب ، والرجال والنساء .. حتى الأطفال !
وطالما لحظ مثل هذه الهزة التي انتابت الكمسارى الشيخ ، تنتاب الكثيرين والكثيرات ممن يلقونها في كل مكان .
لم تكن ممن يحسبهن العرف جميلات . كان تكوينها الجسدي – إذا استثنينا صدرها الفاتن – ليس ممتازاً . ولكن كانت هناك في وجهها جاذبية ساحرة . كانت خمرية اللون واضحة الجبين ، وفي عينيها وهج غريب تطل منه إشراقة مسحورة . وكان هذا الوهج أشبه شيء بالإشعاع الكهربائي المغنطيسي . ينبعث لحظة حين تشرق وتتوهج ، وينطفيء على التو حين تذبل وتنطفيء . وقد لا يمضي بين اللحظتين إلا مقدار ما تدير زر الكهرباء !
وكانت خطواتها القافزة الرشيقة الخفيفة ، وصدرها البارز الفاتن ، وهذا الإشعاع السحري الغريب ، لا تدع مجالا للفحص عن بقية تكوينها ، ولا تمهل الإحساس للتدقيق في شيء منها .
وكان يحسب نفسه يراها هكذا لأنه يحب ، ثم علم بالتجربة أن الجميع يقفون تجاهها هذا الموقف في كل مكان .
***
وفي الطريق ازدحمت المقاعد بالركاب . وأقبلت فتاة لم تجد لها مكاناً ، فوقفت تترنح وتهتز في الممر الضيق بين المقاعد ، فرأى هو أن يتخلى عن مكانه للفتاة . وبعد برهة لحظ على وجهها تغيراً ، فطأطأ يسألها : ماذا ؟
قالت هامسة :
= لا شيء ، إنها جميلة !
قال – وأدرك ما تعني وأحس له براحة لذيذة :
= من هي ؟
قالت :
= لا اعرف ، ( وهزت كتفيها في دلال زادها فتنة ) .
قال مداعبا في نشوة عميقة :
= هذه . وإلا الكمسارى العجوز ؟!
ولم تستطع أن تغالب الضحك ، فظل جسدها كله يترنج ، وهي تختلس إليه النظرة الضاحكة بين الحين والحين !
***
ودخلا دار السينما ، وجلسا متجاورين ، وهو يحس بسعادة تفيض بها نفسه ، فيود لو يعانق الكون كله ، وتحركت ذراعه اليمنى فطوقت ظهر المقعد ، وانزلقت عنه قليلاً فلمست ظهرها ، واختلجت هي اختلاجة خفيفة ثم استقرت ، ونظرت إليه متوردة راضية ، تمازجها الفتنة والإغراء . ولو كان النور مطفأ لصنع شيئاً آخر ، ولكن آدابه التقليدية لم تسمح له إلا بنظرة أودعها كل ما في قلبه من أشواق .
ثم أطفئت الأنوار ، وبدأت (( الجريدة )) وتحركت ذراعه قليلاً ، فسرت في جسده هزة ، ومالت هي إليه قليلاً فصافح شعرها خده ، وأحس بالنشوة فثمل ، وطافت برأسه الرؤى الغامضة في الفردوس النعسان !
وانتهت الجريدة ، وأعقبتها الرسوم المتحركة بمواقفها المضحكة ، فانتفضت ضاحكى كالطفلة ، وهي تتابع القصة في توفز ظاهر ، رده من حلمه المهوّم إلى يقظة طافرة ترقص فيها الحياة . وأعيدت الأنوار فأحس نقلة عنيفة من عالم إلى عالم ، وفرك عينيه – لا يدري أمن النور المفاجئ أم من النقلة المفاجئة – ثم أغمض عينيه بيديه واستغرق في أحلام !
ثم بدأت الرواية !
بدأت عادية في أول الأمر ، فعاد هو يضع ذراعه فوق ظهر المقعد ، ثم يحركها رويدا رويداً ، ثم يضغط بها ضغطاً خفيفاً ، فتستجيب له في بطء ، ينتهي بهما إلى حيث كانا في الفردوس النعسان !
ولكن يا للشيطان !
إن القصة لتأخذ في طريقها ، فتجري حيث تجري قصتها بالذات ! إنها قصتها ذاتها معروضة في شريط!
وأجفل عند الخطوات الأولى ، ولكن ذراعه تحركت حركة غير إرادية فضمتها إليه بشده . ويبدو أنها لم تكن لحظت بعد سبب رجفته ، فاستجابت إليه في لين وإغراء . ولو في غير هذه اللحظة لارتكب الحمقة التي يشمئز منها طبعه حينما تقع عليها عينه في دور السينما خاصة ! أما الآن فهو يصحو على الأشواك !
ولم تكن إلا دقائق حتى توالت المناظر والشواهد واللفتات على الشاشة ، فإذا هما وجهاً لوجه أمام قصتهما في الصميم ! قصتها بكل ما فيها من دروب ومنحنيات ومخاوف وشكوك . قصتهما . وها هي ذي الشاشة تواجههما بكثير من الهواجس والمشاهد التي كانا يهربان من مواجهتها في الحياة!
ولم يحاول في أول الأمر أن ينظر إلى وجهها ، ولكنه فيما بعد اختلس نظرة ليري قسماتها أمام هذه المواجهة القاسية ، فإذا هي تختلس إليه نظرة هي الأخرى ، فتقابلت النظرتان ، ثم ارتدتا سريعاً إلى الخفض والانكسار . وأحس كلاهما بكل ما جاش في نفس صاحبه ، فأدركه الدوار !
وفي هذه اللحظة وجد ذراعه تتراخى قليلاً فترتمي على ظهر المقعد ، ونظر فإذا رأسها المشرئب المتطلع يهوى ويسقط ، ويتخاذل متنها المنتصب ، فيتقوس في انحناء !
وهم ّ أن يدعوها إلى مغادرة السينما ، ولكن ريقه قد جف ، فلم يدر لسانه بكلمة ، واستمر ينظر إلى الشاشة ، وهو يحس الاختناق !
وبينما كانت القصة تسير كانا يحسان شيئاً فشيئا بانفراج الهوة بينهما ، وتقطع الأواصر التي تربطهما ، وفي كل خطوة كان يتكشف لهما المصير المحتوم ، ويشعران أن علاقتهما منخوبة ، وأن السوس ينخر في صميمها . وفي نهاية الرواية كانت البطلة قد عادت إلى حبيبها الأول . وكانت العلاقة بينهما قد انتهت كذلك .
لقد أحسا أن ما تم على الشاشة هو الذي تم في الحياة !
وأضيئت الأنوار فأحس بالدوار ، ووقف يستمع إلى النشيد الملكي ، بينما كانت لا تزال جالسة في خور ، فنبهها بغمزة فوقفت ، ثم تحركت الجموع للخروج فاندسا في غمار الجماهير ، ونسيا أنفسهما لحظة إلى الباب ، وخرجا من السينما صامتين ، وركبا الترام صامتين . وعادا إلى الدار في همود .
كان كلاهما يحس أنه لا يجد نفسه ولا يجد صاحبه ، وأن كل سبب بينهما قد انبتّ ، فلم تعد بينهما نقطة اتصال .
وكان كلاهما لا يجد ما يقوله ، ومع هذا كان يود أن بقول شيئاً يقطع به هذا الصمت البغيض ، الذي يثقل لحظة بعد أخرى ، ويخنق أنفاسهما كالتنين . ولكنهما في النهاية لم يجدا كلمة تقال .
كان خطيبها أمام أهلها وأمام الناس ، وكان أهلها لا يعلمون مما بينهما شيئاً ، ولا يجرؤ هو ولا هي على مكاشفتهم بشيء ، فكانا يصارعان الكارثة وحدهما ، ويتظاهران بالمرح والسعادة في جميع الأحوال !
أما في هذه المرة فقد أعياهما أن يتظاهرا بشيء ، بل أعياهما أن يتكلفا الابتسام الذي كان يسعفهما حين يفجؤهما أحد من أهلها وهما في زحمة الصراع .
ودخلا صامتين هامدين ، يتجسم في محياهما الهم والقنوط .
قالت أمها :
= أعوذ بالله ! ما لكما هكذا مكشرين ؟
وهنا فقط وجد كلمة يقولها :
= لقد كان الفيلم عنيفاً جداً
قالت :
= ولماذا تشاهدان هذه الأفلام الرديئة ، في هذه الفترة الحلوة من حياتكما ؟!
***
الفترة الحلوة !
هنا لم يطق صبرا على المواجهة ، وخاف أن تخونه الكلمات ، وأن تفضحه السمات ، فانفلت إلى حجرة النوم . ولم يكن عليه من بأس في أن يرتاد من حجر الدار ما يشاء . لقد كان في حاجة لأن يستلقي ويستريح ، كالرحالة المجهد المكدود في سفر طويل .
لم يخلع ملابسه ، ولم يخلع حذاءه ، فما كانت له بقية من قوة يؤدي بها هذه الحركات . لقد كان حسبه أن يلمح السرير لينحط عليه كالجدار المنهار .
وانقضت دقائق ، ومناظر الرواية أمام عينيه ، بينما ترن في أذنه كلمات الأم الطيبة القلب ، عن هذه الفترة الحلوة من الحياة . وينفلت زمام أعصابه ، فلا يستطيع أن يضبطها لمواجهة هذه المفارقات .
وفي هذه اللحظة تصل إلى سمعه من حجرة الجلوس نغمة البيانو . إنها تعزف ، إنه لحنه المحبوب ، لحنه المسحور .
لقد سمع هذا اللحن من قبل ، وسمعه كثيرا ، سمعه من تلك الفتاة نفسها ، سمعها تعزفه فاستعاده واستعاده ، وظل يستعيده في نشوة عجيبة ، حتى قالت له في دعابة ساحرة : لن أعيده مرة أخرى إلا لقاء أجر معلوم !
لم يكن يعرف اسم اللحن ولا عنوانه ، ولم تكن تعرفه هي كذلك . كان أستاذ البيانو قد حفظها إياه ، دون أن يذكر لها عنوانه . فما قيمة الاسم والعنوان ؟
إن هذا اللحن المجهول كان يستجيش ضمائره ويحرك خواطره ويثير في حسه النشوة والحلم واللهفة والانسياب . كان يصور نفسه في تلك الفترة التي لم يكن يعيش فيها على الأرض ، ولم يكن يحس إلا أن الحياة حلم ظافر سعيد .
لقد كان يحب . يحب هذه الفتاة التي تعزف ذلك اللحن وإنها لتعزفه بيدها وقلبها ، وبأعصابها وملامحها . كانت هي اللحن ذاته في صورة مجسمة . ولم تكن قد برزت من بعد تلك الأشواك ..
ثم ها هي ذي تعزفه مرة أخرى ....
وإنه ليسري إلى نفسه رويدا رويدا ، وينسكب في أعصابه رفيقا رفيقا ، وإن نفسه لتهدأ وتطمئن ، وإن أعصابه لتسكن وتستريح ، وإنه ليثمل ، ثم ينتشي ، ثم يرف في جو شاعري شفيف ، وإنه لينتفض بعد لحظة خفيفاً نشيطا ، وإنه لينفلت إلى حجرة الجلوس ملهوفا مشتاقا ، حتى إذا اقترب استرق السمع والنظر ، فإذا هي ، هي حلمه الجميل ، هي حوريته الهاربة ، هي .، ولا شيء سوى الماضي العزيز ، والثقة العميقة ، والحب المفتون ... هي .. وإنه ليطوقها من الخلف في لهفة ، فتبدو كأنما ذعرت للمفاجأة . المفاجأة التي كانت تنتظرها ولا شك بغريزتها العبقرية ، غريزتها الفطنة التي توحي إليها في هذه اللحظات بالذات بالعمل المفرد الوحيد ، الذي يجدي في مثل هذا الأوان .
هي . وقد وجدها . ووجد نفسه ، ووجد فيها ما يقال .
وإن الحب ليعود اللحظة يحلم ، وإن الحياة لهي في هذا الحلم الظافر السعيد !
.
.. العاصفة ..
جاء في اليوم التالي وفي نفسه شعور آخر . لقد حدث أمر جديد . لقيه صاحب له ، وهو زميل للضابط الشاب ، فقال : إنني سأحدثك في شأن يهمك واغفر لي تطفلي عليك ، فأنا أؤدي واجبي الذي أراه .
ولفتته هذه المقدمة ، وتوقع شيئاُ . قال :
= متشكر . قل ما تريد .
قال :
= لقد عرفت أنك خطبت فتاة من الروضة ؟
قال :
= نعم !
وأحس بشيء من الانقباض .
قال :
= إن لم تكن كتبت كتابك ، فأحب أن أطلعك على شيء !
وشعر بما يشبه العرق البارد . وقال :
= لا . لم أكتب كتابي . فقل ما تشاء !
قال : أنا أعرف أن هذه الفتاة صديقة زميل لي اسمه (( ضياء )) ..
وتكلف قلة المبالاة فقال :
= كيف علمت أن هذه هي تلك ؟
قال :
= لقد رأيتها معك أمس في السينما ، وكنت قد رأيتها معه من قبل في المعسكر ، فلما سألته عنها اليوم قال : إنك خطبتها ، ولأن لي بك صلة ، رأيت من الواجب علي أن أخبرك !
قال ببرود ظاهر :
= متشكر ....
وتركه .... ومضى !
***
العجيب أنه لم يشعر في هذه اللحظة بالألم المنتظر لمثل هذا البلاغ ! لقد خيل إليه أن الأمر انتهى فيما بينه وبينها . أحس أن ليس هناك ما يربطه بها . نسى الماضي كله في لمحة ، وقرر أن تقف صلاته بها عند هذا الحد ، ولم يشعر بأسف كبير على هذا القرار .
قال : انها رخيصة لا تستحق كل هذا الاهتمام ، وإنها إحدى فتيات الجيل اللواتي يعرفن هذا الشاب وذاك ، ويعبثن هنا وهناك ، عبثاً بريئاً أو غير بريء ، ثم يجدن في النهاية الزوج المطلوب ! إنها فاتنة – ولا شك – ولكن ما يعنيه هو من الفتنة ، وهو لا يريد العبث بها ؟ لقد أرادها له زوجا ، لأنه حسبها شيئا ثمينا عزيزاً ، لا تتداوله الأيدي ، ولا يُحصل عليه إلا من هذا الطريق ، فقرر أن يغالب ظروفه الخاصة ، وأن يحظى بالكثير ليحصل على هذا الشيء الثمين .
أما الآن ......!
ووجد نفسه يأخذ الترام إلى هناك ، ليُنهي الأمر في يسر وسهولة ، وبلا كبير اهتمام .. وظل هذا العزم قويا في نفسه حتى واجه الدار . وهنا أحس بالصراع !
ولو واجهته في هذا اليوم كما واجهته صباح يوم الاعتراف ، ولو نظرت إليه عندما لقيته نظرة الأمن والاستسلام .. لوضعت حدا حاسما لهذا الصراع ، ولعادت إليه ثقته المفقودة ، وإعزازه العميق . ولكنها لقيتهُ جامدة ، وابتسمت ، ولكنها ابتسامة سطحية ، وأجلسته في حجرة الجلوس ، ثم غابت عنه بعض الوقت ، وجاءت أمها فسلمت عليه متهللة ، فلم يبادلها التهلل إلا بتكلف وعناء . ثم جاءت هي أخيراً ، ومعها الشاي ، وعرف أن غيبتها كانت لهذا الغرض ، إلا أن ذلك لم يسكب الرضى في نفسه ، ولم يشعره الارتياح .
وخيم على الموقف جو من الكمد ، لم يخفف منه ما كانت تحاوله الأم من ترحيب به واهتمام .
وأحس أنه مطعون في كرامته ، وجال في خاطره إحساس التعالي على الموقف ، ونفض يده منها ، كرد حاسم على اتجاهها مرة لسواه !
وكانت الأم قد انصرفت لشئون المنزل ، فقاده هذا الخاطر الشرير أن يقص عليها قصة الصباح ...
وفي نهايتها . كانت كالتمثال الشاخص . قالت في لهجة آلية :
= والآن لا يجوز أن تشقى بي ، وأن تهان من أجلي ( وخلعت خاتم الخطوبة ووضعته برفق على غطاء البيانو )
قال ، وقد عاوده الإشفاق والإيثار :
= هل توافقين اليوم على ما عرضته عليك من قبل : أن أخبرهم بما يريد خطيبك السابق ، وأن أمهد له الطريق ؟
قالت .. في استسلام :
= افعل ما تراه .... كله عندي سواء !
***
وبعد قليل حضر الوالد ، فأحس أن هناك شيئاً . وسأل : ما الخبر ؟ ... ومع أنه قد قرر كل شيء ، إلا أنه أحس بالعجز عن مصارحتهم بالموقف هكذا فجأة . فراح يحاول من بعيد .....
ومع ذلك لم يذكر إلا أن هناك ظروفا خاصة لا تجعل من الممكن أن يرتبطا ، وأنه قد تفاهم مع (( سميرة )) على إنهاء كل شيء في سكون ، وأنه وحده يحتمل تبعة هذا الموقف ، وهي بريئة مما صارت إليه الأمور !
ولم يكن هذا الإجمال ليرضي أحداً ، فالمسألة جد ، والناس قد عرفوا ، وموعد العقد قريب . وثارت الأم ثورة عصبية عنيفة .. لم تتمالك فيها أعصابها ولا لسانها . وانقلبت هذه السيدة الطيبة الوديعة من حال إلى حال . قالت له : لقد قال الناس من قبل عنك أنك لست جاداً في رغبة الزواج ، وأن ظروفك الشخصية تمنعك ، ولكنا لم نصدق . وها أنت ذا تسبب لنا فضيحة !
وأحس لهذه الكلمات بوخز الطعنات ، ولم يخفف من وقعها . ما حاوله أبوها من الهدوء وضبط النفس والتجمل والاعتذار عن زوجته بمرضها وعصبيتها .
وحاول هو أن يدافع عن نفسه ، فيفشي السر الذي أودعته الفتاة صدره ، ولكنه تراجع حينما سمعها تنشج في الحجرة المجاورة ، وتذكر استسلامها وتهالكها . وفجأة برزت من باب الحجرة في اندفاع جريء تقول :
= يا ماما . الذنب علي أنا ، وهو لا ذنب له ، فلا تشتميه !
وكأنما صُب على الحريق الهائل ماء بارد . فتخاذلت الأم لحظة ، وبهت الوالد وحملق في الفتاة .
أما هو فارتجت نفسه كلها ارتجاجاً ، واندفع في حماسة يقول :
= لا .. لا .. لا تصدقوها . إنها بريئة . وأنا وحدي المسئول !
وهنا ضحك الوالد ضحكة مريرة ساخرة وقال :
= ما هي الحكاية ؟ قولوا لنا . هل نحن في مسرح تمثيل ؟
قال هو :
= دعونا ننفرد ، لننهي أمرنا معا بعد قليل .
ولم ينتظر إذنا منهم ، فقد كانوا جميعا مذهولين . واندفع إلى حجرتها التي اعتكفت فيها ، فوجدها لا تزال تبكي ، ووجد في نفسه تغيرا ظاهرا ، فحاول أن يربت عليها ، وأن يشملها بعطفه الذي تجده منه في مثل هذه الظروف . ولكنها كانت جريحة . قالت له :
= لا تحاول شيئاً . لقد انتهى كل شيء . قل لهم الحقيقة ، لقد ضقت صدراً بهذا النفاق الذي نحاوله ، ومن حقهم أن يعلموا .. ولقد كنت أعددت رسالة أطلعك فيها على أنني لا أجد نفسي ، ولا أتبين اتجاهي ، وأنني أحس بثقل ساحق على ضميري ، وأنا أقفك هذا الموقف ، دون أن أخلُص لك في هذه الفترة من الصراع . ولأنني لم أقو على أن أقول لك هذا كتبته لك في رسالة !
ولكنه تمالك فقال :
= وأين هي الرسالة ؟
قالت :
= لقد قلت لك كل ما فيها .
قال :
= أحب أن أراها مكتوبة .
فترددت هنيهة ، ثم دفعت إليه برسالة مطوية كانت تدسها في صدرها ، وجلست بعيدا عنه ، بينما راح يفض الرسالة ويقرؤها ، وتتوالى على سيماه أشتات من الانفعالات حتى أتى عليها جميعا . ثم دسها في جيبه دون أن تعارض في إبقائها له .
***
كانت الرسالة هي اعترافها الأول مكررا ، ولم يكن فيها جديد . ولكنه أحس بنكأة في الجرح ، ربما كانت أشد من الجرح نفسه : (( إنك بريء ونبيل ، رجل تشرف أي فتاة بأن يكون تاجاً لحياتها ، ولكنني أنا . أنا بنت شريرة (( ملوثة )) ، وأنت مخدوع في قيمتي ، فيجب أن أنبهك إلى أنك مخدوع ... الخ )) .
وجرحته كلمة (( ملوثة )) جرحاً شديدا . ومع أنه كان يعلم ماذا تعني بها ، إلا أن معناها الرديء قفز في هذه اللحظة إلى خاطره فأحس بالطعنة الرجيعة .
قال :
= والآن .. يا فتاتي العزيزة .. ماذا تريدين ؟
قالت :
= لا أرى إلا رأيا واحدا . قل لهم كل شيء ... وليكن ما يكون !
قال :
= ولكنني أخشى العاقبة ، ولا تطاوعني نفسي على أن أفشي لك سراً .
قالت في اندفاع :
= إنني انا التي تريد
وخيل إليه أنها تريد بهذه الفرقعة أن ترتد إلى حبيبها الأول . وأن تنيبه هو عنها في مصارحة أهلها بحقيقة الحال ، وأنها قررت في نفسها أمرا . وهنا ثارت كوامنه ، وارتد إليه شعور الصباح ، وفقد كل تسامح ورحابة . وكان مظهرها في اللحظات الأخيرة يشبه أن تكون متهللة بالموقف الأخير ، فكان كل أولئك مدعاة لأن يغادر الحجرة إلى حيث ينتظره الجميع .
***
ومع أنه ترفق في كشف الموقف ، وتجنب مواضعه المحرجة ، وجاء للموضوع من جانبه البريء : جانب خطبة الفتى الضابط للفتاة ، ثم تحمس في الدفاع عن موقف شاب وشابة يتحابان ....
إلا أن المفاجأة كانت أشد مما تحتمله أعصاب الجميع .
ثارت العاصفة ، وانقلب البيت على الفتاة وانتبذت هي من وجوههم مكانا قصياً .
أحس الوالد أنه طعن في شرفه وكرامته ، وأحست الأم أنها تواجه الفضيحة ، وتخسر رابطة وشيكة . وران على الأطفال ذعر صامت وهم يرون ولا يعلمون ! ولم يبق إلا هو ، يدافع عنها في حرارة ، وينفي ما علق بذهنهم عنها من انحراف !
ثم خيم على المنزل صمت كصمت القبور ، وانزوى كل في ركن لا ينبس بحديث .
وتقدم الليل ، وهم بالرواح كالمعتاد ، فأمسكت به وجلة ، وتوسلت إليه أن يبقى حتى الصباح . قالت : لمن تتركني هنا ؟ إنني منبوذة غريبة كما ترى ، وليس لي أحد سواك . لا هنا .. ولا في الدنيا كلها .... قل : إنك لن تتركني ولن تروح !
ولم يكن في حاجة لكل هذا التوكيد . لقد كان هو أشوق منها إلى تمضية كل دقيقة بجانبها . كان في نفسه مشاعر غريبة : شعور العطف والإشفاق ، وشعور اللهفة والحرمان ، وشعور الغيرة والغليان ، وشعور التسامي والإيثار ، وما لا يحصى من هذه الأحاسيس مجتمعات .
وكان كل من في البيت مستريحا لأن يقضي ليلته هناك . كان هو الصلة الوحيدة بين نفوسهم جميعاً ، بعدما قطعت الصدمة كل ما بينهم من الصلات .
***
بات يسمع أنفاسها في الحجرة المجاورة ، فلم يكن بينهما سوى حائط رقيق فيه باب مفتوح ، وكان يسمع تنهداتها في جوف الليل ، ويكاد يسمع وقع دموعها في سكون الظلام !
وكان يراها قريبة منه جداً ، بعيدة عنه جدا . كان يراها ملء يديه ، ثم ينظر فإذا يداه منها فارغتان !
وأوقد المصباح في جوف الليل ، وراح يكتب شعراً :
بيني وبينك خطوة :::: لكن عوالمنا بعيد
ويداي فارغتان من :::: كنز به غنيَ الوجود
ثم تغالبه دموع قاهرة ، فيطفيء النور وينكفيء في سريره يغالب الدمع ما استطاع .
وفي الصباح كانت غائرة العينين ، صفراء غبراء ، كأنما انسلت من مقبرة . وكان مسترخي الجسم مهدودا .. مكدود الأعصاب .
قالت :
= كيف قضيت ليلتك ؟
قال :
= كما قضيت ليلتك !
قالت :
= يرحمنا الله !
ثم اتجهت إلى مرافق البيت ، وبعد قليل جاءت تدعوه . قالت :
= لقد سخنت لك ماء لتغسل وجهك ورأسك ، فإنك لمجهد ، والجو شتاء ، وللماء الدافيء قيمته في مثل هذه الأحوال ... اقترب أصب لك الماء !
ولكنها لم تدعه يغسل وجهه ورأسه . لقد دبت فيها حيويتها الكامنة من خلال الذبول ، فراحت تدعك له عينيه بالصابون ، وتدس أصابعها في شعره تخلله ، وإنها لتقول في دعابة ساحرة :
= لتكن انت ابني اليوم ، كما كنت بنتك بالأمس يا أبتاه !
فشل في لإقناع أهلها بالرأي الذي ارتآه ، وهو يستروح في هذا الفشل ريح الانتصار ، وفشل في إقناعهم ببراءتها التي عادت له فيها ، وفشل في استعادة الرضى عنها بطبيعة الحال ، واستمرت تلقى منهم الوخز والإعراض ، وتسمع منهم الغمز والإيلام ، وتجد نفسها بينهم في غربة وإذلال ..
قالت له :
= لقد وقع ما كنت أتوقع ، ولست صلح لك الآن رفيقة حياة . أحس في أعماق نفسي أنني لست في مستواك . ولن ألحق بذلك الآخر لأن كرامتي تأبى علي هذا ، كما يأباه شرف هؤلاء الساخطين ! ولن أنتحر لأن الانتحار جبن وعار . ولن أطيق الحياة في هذا البيت بعد الآن !
قال :
= وماذا اعتزمت إذن يا بنيتي ؟
قالت متألمة :
= لن اعدم وسيلة للحياة الشريفة . سأشتغل خادمة في احد البيوت . وإنني لماهرة في التدبير المنزلي كما تعلم !
وأحس بنفسه تتذاوب عطفا عليها ، وألما لها ، ووجدا بها .
وقال :
= لقد نسيت أن لك بيتا آخر ، يرحب بك ضيفة لا خادمة
قالت وهي تهتز من الانفعال :
= كلا ! .. إن قبلتني خادمة ، فخذني إليك منذ الآن !
ضمها إليه في رفق ، وربت عليها في عطف ، وقبل جبينها في حنان ، وقال :
= كلا يا بنيتي .. بل – إذا سمحت – رفيقة حياة .
قالت مغالبة النشيج المكتوم :
= أ و تقبلني بعد كل ما كان ؟ ( واستسلمت للبكاء )
***
لبس ملابسه وخرج مع والدها .
وقال له الوالد بعد أن غادرا الدار . وكأن حادث الأمس كان كابوسا انتهى ، فعاد كل شيء جديداً :
= دع كل هذا الهراء الذي تقوله (( سميرة )) والذي تقوله أنت أيضاً . إننا ننتظرك في موعد الغداء !
قال :
= لا أستطيع الغداء ، فلا بد أن أعود إلى الدار ، فالبيت مشغول على مبيتي الذي لم أتعوده . ولكنني سأحضر آخر النهار .
وعاد فوجد اتفاقاً بين الجميع على تناسي العاصفة ، وعلى أن تسير القصة كما كانت من قبل تسير . وعاد للفتاة إشراقها ، وبدت كالناقهة من وعكة ، تستنشق نسيم الحياة في لهفة وارتياح . وأحس انها خلصت له بعد هذا الإعصار ، وأن جرحه الذي أدمته الأشواك قد اندمل وطاب . وخيم على الجو نوع من الود العطوف والطيبة النقية والسلم والوئام ! .
أنثى ...
باتت سهراته ليلية في دارهم ، فما كان يستطيع مقاومة الإغراء الذي يقود قدميه كل يوم إلى هناك . ولم تكن كل أويقاتهم صفواً ، منذ أن برزت في حياتهما الأشواك ، ولكن شيئا لم يكن ليستطيع أن يقف هذا التيار الجذاب .
كان ينتظر الموعد اليومي ملهوفاً ، ويذهب إلى هناك فيجدها كذلك ملهوفة . وقالت له في يوم تأخر عن موعده : (( كم خفت ألا تأتي الليلة . إنني هنا غريبة بين أهلي ، بل غريبة في الحياة كلها حين لا أراك ))
وكانت غريبة حقا . فأهلها جميعاً طيبون نفوسهم بعيدة عن التعقد والتركيب ، وهي عقّدتها الأزمات النفسية والأشواك ، وعقدتها صحبته ومناقشاته ، وعقدتها القراءات التي كان يزودها بها ويحضها عليها ، وعقدتها التوجيهات النفسية التي كانت تتلقاها عنه وهما في السينما أو في غير السينما .
ولم تكن هي الغريبة وحدها في هذه الدار ، فلقد كان هو أيضاً غريبا فيها ، فإذا غابت عن المجلس لحظة شعر بالفراغ ، وكثيرا ما كان هو وإياها يشعران بالوحشة في حضرة هؤلاء الناس الطيبين فينسحبان إلى حيث ينفردان! .
وافتقدها ليلة فقام يبحث عنها في حجرات الدار . ودخل حجرة النوم ... وكانت مفاجأة .
مفاجأة لن يتهيأ لها من قبل أبداً .
كانت الليلة مقمرة ، وللحجرة نافذة يطل منها القمر ، فيضيئها ذلك الضوء القمري الشفيف . وكانت واقفة دون أن توقد المصباح اكتفاء بهذا الضوء الفضي الشفيف . كانت واقفة بجوار السرير تبدل فستانها وحينما دخل الحجرة كانت قد خلعت ولم تلبس ... ووقع نظره للمرة الأولى عليها بالملابس الداخلية ... وكانت لحظة رهيبة ! .
كانت تربيته الأولى في بيئة محافظة متطهرة ، وكان قد انصرف في حياته إلى نوع من الجد لا يسمح له بالعبث ، وكان الشعر والفن قد صانا خياله من التلوث ... وكان هذا كله يبعده عن المرأة ، ويصيبه بلون من الربكة والاضطراب حين يلقاها وجها لوجه أيا كانت طبقتها وسنها .
فلما وُوْجه بالفتاة التي يحبها ، شبه عارية ، كان ذلك مضاعفاً لخجله وارتباكه . ولكن عينه تقع على منظر فاتن في ضوء القمر الشفيف ، ولليل المقمر وجوه ، وللوحدة المغرية جوها . إنما هو في الوقت ذاته يشعر لهذه الفتاة بلون من القداسة ، وهو كذلك غير مستعجل ولا متسرع ، فهي له ، وستصير كلها إليه .
.... كل هذه النوازع المتشابكة في لحظة واحدة جعلته يقف برهة مسمراً . ألف جاذب يجذبه إلى الإقدام ، وألف دافع يدفعه إلى الإحجام . وبوغتت هي فارتبكت كذلك ، وبدلا من أن تلبس الفستان الثاني ، انكفأت على نفسها ، وطأطأت رأسها ، وحنته على صدرها ، فكانت في وضعها الجديد أشبه بتمثال فاتن في وضعه الفني الجميل !
وأخيراً غلبه ماضيه كله فتراجع ، وهو يتمتم : لا مؤاخذة ...!
***
ومضت فترة طويلة لم تعد فيها إلى المجلس ، وقدم بعض الزائرين والزائرات من أقاربهم ، وهم كثيرا ما كانوا يحضرون هذه الليالي ، استطلاعا لحال الخطيبين ! .. فلقد كان الحسد العائلي والفضول النسوي يدفعانهم للحضور . فتضيع الليلة في تكلفات سخيفة وأحاديث تافهة ... ثم ينصرفون .
حضروا ، فساد المنزل جو غير جوه . وأحست هي أنهم قد حضروا فقدمت بعد قليل ، ولكنها قدمت باهتة منطفئة ، يغشاها شيء من الانكسار .
وعجب هو لهذه الظاهرة ، وعزاها إلى أنها خجلة مما كان ! .. وجلس متضايقاً ، فسرى الضيق منه إلى الآخرين . وبعد فترة همّ بالانصراف تخلصاً من ثقل الجو ، فبدا على الزائرين الارتياح ، لما أحسوه من ضيق لا يبشر بخير !
وأمسك به أبوها وأخوها ، وتشددت أمها في دعوته للبقاء . ونظر إليها هي فلم يجدها تدعوه ليبقى ، فلم يستجب للدعوة ! .. وعندما وضعت يدها في يده وهو ينصرف أحس ببرودة روحها وفي أناملها أيضاً .. فخرج ضيق الصدر مغموماً !
***
ومضى يوم لم يجد في نفسه نشاطا ولم يذهب للزيارة كالمعتاد . وفي اليوم التالي كان جالسا في مكتبه كالعادة ، حين رن جرس التليفون ودعى للكلام .
قالت :
= أنت اليوم تعرف صوتي ولا بد !
وتهلل وجهه ، وانتفضت كل ذرة فيه ، وأجاب :
= طبعاً ، لقد حفظته !
قالت :
= ألا تحضر حتى تستدعى بالتليفون ؟
وارتبك لحظة ثم أجاب :
= لا .. كنت متعبا في ليلة الأمس
قالت :
= متعب أو غضبان ؟ أظنك ستأتي الليلة على كل حال !
قال :
= طبعا سأحضر الليلة كعادتي !
وسلمت وسلم ، وانقطع الحديث ، وانطلقت في كيانه موجة من النشاط .
***
وفي المساء كان يقصد إلى الدار ، وليس في خياله إلا صورتها المرحة الوثابة ، وإلا صوتها الشجي الطروب . واستقبلته متهللة ، وقبل أن يجتاز الممر وراء الباب – وكانت يدها لا تزال في يده –
قالت :
= كنت الليلة خائفة ... ولكم تمنيت لو تجيء في الظلام !
وأحس أن الدنيا لا تسعه من الفرح ، فضغط يدها بحراره ، فتأودت وهي يشد يدها في يده ، وبدت فتنة جارفة لا تحتملها الأعصاب !
وانطلقت بعد قليل إلى البيانو توقع عليه اللحن المسحور ، فغمرت روحه نشوة عجيبة ، وانسربت خواطره تراود أحلاما ذهبية ، وأحس بسعادة تضيء روحه بنور وهاج ، وتحلق به في واد من التيه بعيد .
وبعد أن استعادها مرة ومرة ، على عادته كلما سمع اللحن المسحور ، أعلنت في دعابة ساحرة أنها لم تعيد العزف ، ونهضت واقفة وانفلتت من الحجرة كالحورية الهاربة . أو كالغزال الشرود . وكان معه في الحجرة أبوها وأمها وأخوها الشاب ، ورآها تذهب نحو مرافق المياه ، فتظاهر بعد برهة بأنه ذاهب إلى المرافق – وكانت له الحرية في أن يذهب ويروح حيثما يشاء – وكان يفصل المرافق عن الحجرات ممر طويل ضيق ...
وفي منتصف الممر قابها راجعة . ولا يذكر أنه رآها كما رآها هذه الليلة . كانت متوهجة يخيل إلى الرائي أنها تتوقد ، كما يخيل إليه أن كل نفسها منافذ ، تتلقى منها الأضواء والأصداء ، وتشع منها الطاقة والحرارة ! .
ونسي المنزل ومن فيه – وهم على مقربة منهما – وراح يضمها إليه في شوق عارم ، ويهوى على شفتيها في لهف حرور ، وأحس انها تتذاوب فيه ، وتتفانى بكاملها ، وأنها تستجيب له بكل ذرة فيها ، وأنها تتلاشى وتتداخل وتتهاوى .
ومضت فترة لم يكن يعي فيها شيئاً ، ولكنه لا ينساها أبداً !!! مضت هذه الفترة ، وإذا هي تثني جيدها إلى الوراء وقوامها في يديه ، فتواجهه بنظراتها الجاهرة ، وتقول في دعابة ساحرة :
= الرجل وراءنا ! والله أناديه !
ولم يكن يملك إلا أن يضمها إليه في عنف ، وهي تسكب في نفسه أحلى رحيقها المذخور بهذه النظرة وتلك الفتنة .. ثم تملصت منه ، وانفلتت تجري ... وعاد هو إلى الحجرة نشوان ولكنه تعبان ! عاد فجلس ، ولم يلحظ أحد منهم عليه شيئاً ، ولو تنبه أحدهم إلى عينيه لرآهما تقطران نشوة وسكرا .
***
وغابت عنهم فترة طويلة ، ثم عادت وقد هدأ كل هذا النشاط ، وسكنت كل هذه الفورة ، وبدت مطفأة خابية .
وصدمه هذا الانقلاب صدمة عنيفة . وخيلت له أوهامه أن هذا ندم منها على ما وهبت له ، وأنها لا تزال تعد نفسها لحبيبها الأول ... كانت كل معرفته بالمرأة من الأوراق ....!!!
ووجم ، وثقل عليه الجو ، فشاع في المجلس كله الوجوم ، وبخاصة وقد تقدم الليل ، وداعب عيونهم النعاس .
وانتهز فرصة انفرادهما بعد قليل في الممر ، فراح يفسد كل شيء قال لها :
= يبدو انك نادمة على ما أعطيت
وهزت رأسها : أن نعم .
فلم يحاول أن يفهم إلا أنها تعني ما تقول !
قال :
= تريدين أن تكوني له خالصة !
وجرح هذا كرامتها ، فلم ترد أن تتقهقر .
قالت :
= أي نعم !
وغاظه ذلك جداً . ولم يحاول أن يفهم غلطته في سوق هذا الحديث إليها الآن .
قال:
= لن أعيدها مرة أخرى .... اطمئني !
قالت في برود :
= تحسن صنعاً !
وأفلت منه قياد نفسه ، ولم يعرف كيف يدير الكلمات ، قال :
= لا يزال أمامك أن تختاري . فالفرصة بعد لم تضع !
وتظاهرت بعدم المبالات . وكانت عادتها حين تجرح كبريائها . وقالت :
= والفرصة أمامك كذلك لم تضع ، وتستطيع أن تتصرف بكامل حريتك !
وهنا فقط أحس أنه أخطأ في إدارة الحديث من أوله ، وأنه استجاب لهواجسه التي لا زالت تختلج في ضميره ، وأنه دفع بها إلى مكابرة لا مفر لها منها .
فقال :
= لندع الحديث الآن ..
وعاد إلى الحجرة يستأذن للخروج . ولم تحضر هي لتسلم عليه .. فدعتها أمها ، فحضرت متثاقلة ، ومدت إليه يدها باردة فسلم وانصرف وملء نفسه ظلام .
.. العذراء الأم ...
.... عاد إلى داره موحش النفس مظلما كئيباً ، تجثم على صدره الكآبة ، ويغشى نفسه الوجوم ... وفي أعماقه سؤال غامض لا يسمح له بالظهور والوضوح : تراه أخطأ طريقه في هذا المشروع كله ؟ وأن هذه الفتاة ليست له ، لا هي ولا فتيات القاهرة جميعا ؟ إنه يتطلب في فتاة أحلامه مفارقات لا تجود بها الحياة . يتطلب الحورية القاهرية المغمضة العينين . يتطلب الفتاة العذراء القلب والجسد ، في زي قاهري ، ويتطلب فيها الحساسية المرهفة والشاعرية المتوهجة ...
ومع هذا كله طيبة القلب وصفاء الروح .،!
تراه أخطأ الطريق فطلب الحورية العذراء في بنت من بنات القاهرة . أم تراه أخطأ الطريق من أوله ، فطلب حياة زوجية لا تصلح له بحال ؟
وفي مثل هذه الهواجس ، التي كان يصاحبها في نفسه .. هم ثقيل وهمود كئيب .
قطع الطريق الطويل بين دارها وداره ، حتى إذا وصل لم تكن فيه بقية من النشاط للصراع والتفكير فاستلقى مهدودا فنام ! .
وأصبح الصباح فإذا هو يجد له نفسا جديدة غير التي نام بها . لقد صحا وفي نفسه صفاء هاديء وصوفية شفيفة ... إنه يعطف على الفتاة عطفا هادئا رفيقا . لقد صارعت أشواكها وقاومت ماضيها ، ولقد ألقت بنفسها بعد هذا كله إليه ، مجردة من كل ستار ، عارية من كل رداء . وبالأمس ألقت بنفسها كلها إليه ، واستسلمت لأحضانه .. أنثى كاملة تستسلم للرجل الذي تختاره ، فما باله لا يزال بعد هذا كله يذكرها بالأشواك ، ويحيطها بالشكوك ، ويحرجها بالاتهام ؟ لها الله ! .
وأحس عندئذ بالصفاء الهادئ يفارقه ، وبالصوفية الشفيفة تتخلى عنه ، وأجدّت له هذه الخواطر شوقا جارفا شديدا ، ورأى نفسه يعبر عن هذا الشوق بشعر حار ملهوف
وحينما جاء موعده اليومي كان قد أنفق كل رصيده من الصبر ، فانطلق إلى الدار ترف كل جوارحه هوى إليها ، وصعد السلم قافزا لاهثا . فلما كان أمام الباب وقف يلتقط أنفاسه قبل أن يضغط زر الجرس ....
وجاءت الخادم ففتحت الباب ، وبيدها الطفل الصغير – أخو الفتاة – وكان يحبه حبا جما لخفة دمه ، ورشاقة حركته ، وحلاوة حديثه . وكانت الخادم خارجة به للرياضة في منتزه قريب .. فتناوله بكلتا يديه ، وقبله قبلة حارة عنيفة ! ثم سأله عن (( سميرة )) ،
فقال الطفل في شيء من التخابث :
= عايزها ؟
= أيوه
قال :
= كانت تبكي ...
ولا يدري كيف استقبل هذه الكلمة ؟ تألم لها ما في هذا شك . ولكنه شعر بارتياح غامض .... تبكي ؟ إذن في نفسها من حديث الأمس بقية . وإن بكاءها ليؤلمه ، ولكن أوَلا يدل هذا على أن المسألة في نفسها باتت جداً ، وأنه يؤذيها ما يثور في نفسه حولها من شكوك ؟
وتنبه لهذا الشعور في نفسه فعده شعورا أثيما ! .. أوَ يريحه أن تتألم الفتاة لمجرد استيثاقه أن الأمر بينهما قد صار جدا ؟! ثم يزعم أنه يحبها ؟ يحبها أو يحب نفسه ؟ ومع ذلك يصف نفسه بالإيثار !
وبينما كانت هذه الخواطر تجول في نفسه كان يندفع في الدار منادياً :
= سميرة .. سميرة .. أين انت يا سميرة ؟
ولقيته أمها فسلمت عليه ، وفي قسماتها شيء من الانكسار ، ونادت بدورها عليها :
= سميرة .. تعالي .. إنه جاء !
وأحس من هذا أن عدم مجيئه اليوم كان متوقعاً ، وأنه قد دار بشأنه حديث . وعاوده الشعور المبهم المختلط .... وأقبلت سميرة .
ونظر فإذا هي مكدودة ، تغيم عليها سحابة من الأسى . ولكنه قد حضر برصيد نفسي ضخم من الحماسة والطلاقة . فراح يجلو هذه الغاشية بنشاطه وطريقة حديثه والتفاتاته وحركاته ، واستجابت الأم لهذا فبدا عليها الانشراح . أما هي فكانت في نفسها بقية لا تزال ، ولكنها كانت خيرا مما لقيها أول مرة ...
وطلب منها أن تعزف له دوره المحبوب ، ولكنها تمنعت حتى كادت أمها تغضب ، فاستجابت لها ، وكان عزف هذا الدور يكفي لإحداث جو آخر .
وخرجت الأم – وقد راقها الجو الجديد – لتشرف على الشاي والفاكهة !
ولما اختلى بها قالت له في رزانة :
= يا سامي . إنك مظلوم معي . ومن واجبك أن تبعد عن طريقي . إنه مليء بالأشواك !
وحاول أن يطمئنها بشدة ، فأخذ يدها بين يديه وضغطها مربتا وقال :
= أرجو يا سميرة أن تغفري لي اندفاعاتي ، فأنا رجل جرح مرة ، فدعي لي فرصة تندمل فيها جروحي ، كما تركت لك فرصة تنتزعين فيها أشواكك .
وأدركت ما في لهجته من صدق وعمق فقالت :
= معك حق .. معك حق .. ولكنني مع هذا بدأت أخاف !
قال لها في توكيد ظاهر :
= لا .. لا تخافي .. ثقي أنني أثق بك في أعماقي .. وإلا ما وجدتني بجانبك إلى هذه اللحظة .
قالت :
= سأقول لك الحق : أنا مجرمة .
عندئذ فاضت نفسه رقة لها وعطفا عليها ، وراح يطمئنها على ثقته بها ، ويبرئها مما ترمي به نفسها . وبعد فترة على هذه الوتيرة من الحديث ، عاد إليها اطمئنانها ، وارتدت إليها بشاشتها ، وتوهجت عيناها بذلك البريق الجذاب العجيب ، وخيل إليه أنه غسل ما في نفسها وغسل ما في نفسه ، وأنهما يرفان طليقين في سماء الحياة .
وكان الليل قد أقبل ، وخيم الظلام على الحي – فقد كان ذلك في عهد الظلام التام أيام الغارات – ولم تحضر الخادمة بالصبي .
وبدأ قلب الأم يقلق ثم أخذت تتساءل عن سبب غيبة الصبي والخادمة ... ولم يمض وقت طويل حتى انقلب التساؤل حيرة .. وتطورت الحيرة لهفة ، شملت الأم والفتاة ، وشملته معهما بطبيعة الحال .
وحين بلغت الثامنة ولم يعودا انقلب الجو إلى قلق لا يطاق ، وسيطرت المخاوف لسوداء على قلوب الثلاثة ، ولم يبق شك في أن حادثا سيئا وقع للصبي والخادمة ، أو للصبي وحده ، فخافت الخادمة أن تعود .
وفي مثل هذه الحالات تصنع المخيلة أوهاما متلاحقة تخلخل الأعصاب .
وكان عليه هو أن يتماسك ليمسك بالمرأتين في حالة معقولة ، ولكنه في قرارة نفسه كان يحس بالخطر فقال :
=سأخرج للبحث عنهما في الطريق إلى المتنزه .......
ووجد من أعينهما تصديقا حارا على الاقتراح ، فخرج ، وراح بقطع الطريق إلى المتنزه متلفتا محدقا في الظلام ، متمنيا أن يعثر على الصبي الذي يحبه ، والذي تحبه فتاته كأمها على السواء .. ولكنه عاد بعد أن قطع الطريق مرتين دون أن يعثر عليهما .
وكانت عودته نذيرا بانطلاق الأوهام السود التي كانت تصدها الأم ، ولا تعترف لها بالوجود .
قالت :
= انتهى ولدي . اسم الله عليك يا سوسو ! .. وانهل دمعها المكبوت ، فشرقت مثلها الفتاة بالدموع ، وبدا في عينيها ألم جازع مفزوع .
ووجد نفسه يقول :
= لا لا .. لا قدر الله . ومع ذلك – فمن باب الاحتياط – سأذهب إلى قسم البوليس للسؤال !
وكان مجرد ذكره للسؤال في القسم كافيا لتثبيت مخاوف الأم وتأكيدها ، فصرخت صرخة خافته :
= ولدي ......
وقالت الفتاة في وله جازع :
= أروح معك !
وتجاذبته – في لحظة – عوامل شتى : خوفه عليها من الخروج وهي على هذه الحال ، وخشية عليها من الصدمة لو كان هناك شيء ، ورغبته الجارفة في أن تكون معه ، وشعوره العميق بلذة هذه الصحبة أيا كانت الأحوال !
وقال :
= الدنيا ظلام .. وأنا أقوم بما تريدين .
قالت في لهفة مجنونة :
= لا لا .. أروح معك ..
وانطلقت معه بملابسها المنزلية لم تغير شيئا ، وانطلقا إلى الشارع يجوسان خلاله في خطوات متعثرة ، وكان في الطريق أكوام من حجارة الرصف هنا وهناك ، يتعثر بها المارة في الظلام ، وبين خطوة وخطوة كانت تعثر ، فتضع كفها على كتفه اتقاء للسقوط ، فيحس لهذا بلذة خفية لا يحجبها قلقه على مصير الصبي ! .. ثم تقوم في نفسه معركة كلما أحس هذه اللذة الخفية في وسط الآلام التي تستشعرها الفتاة !
وقطعا الطريق في خط متعرج بين طوارى الشارع ، يتفرسان في الوجوه والأجسام ، كلما رأيا أشباحا في الظلام ، وكل خطوة تقودهما معا إلى اليأس ، وتثير في نفس الفتاة الألم وفي نفسه القلق ، حتى وصلا إلى قسم البوليس .
ووجد هنالك ضابطا شابا في دور التمرين بالقسم ، فتقدم هو إليه يسأل ، وتخلفت عنه قليلا . وأخذ الضابط يراجع دفتر الأحوال . وكانت هي قد تقدمت في هذه الفترة فوقفت بجانبه معتمدة بذراعها على كتفه في تهالك . وقلب الضابط بعض الصفحات ثم قال :
= سعيد ....
ولم يكد يتم حتى شهقت شهقة والهة مكتومة ، وكادت تسقط ، فألقت بنفسها عليه معتمدة بكلتا يديها .
وأتم الضابط الاسم ، فاتضح أنه ليس أخاها . ولزيادة التأكيد سأل هو الضابط عن عمر هذا المذكور في (( المحضر )) . فلم يعد هناك شك في أنه ليس الصبي المفقود .
ونظر إليها الضابط الشاب فاتقدت عيناه . ثم أراد أن يعابث – دون تقدير للموقف – فقال :
= اطمئني . يظهر أنك تحبينه ! .. وضحك ضحكة فاترة سمجة ، ثم أخرج من مكتبه علبة وقدم لهما شيئا من الحلوى . فاعتذر هو شاكرا في برود :
وسأله الضابط عن اسمه وعلاقته بالصبي .
فلما سمع اسمه بدا عليه اهتمام خاص ، وقال : حضرتك الذي تكتب في الصحف ؟ أنا أعرف هذا الاسم
قال ، وأحس بلذة عميقة :
= نعم !
وقال الضابط باهتمام ظاهر :
= نسأل في المحافظة ، ففيها تجتمع حوادث الأقسام . وقام بنفسه ليكلف عامل التليفون السؤال ، وعرض عليهما أن يستريحا على كرسيين .
ولكنهما شكراه ، وتابعا خطواته إلى التليفون ، وجاءت الاستعلامات مطمئنة ، فاستراحا إليها . ثم استأذن من الضابط شاكرا ، فصافحه هذا بحرارة ، وهو يقول :
= تستطيع أن تسألني بعد ساعة بالتليفون ، أو أعطني العنوان وأنا أخبرك إن وجدنا شيئا . وخرجا معا بهذا الاطمئنان السلبي . ولكنه خرج مستريحا لكل ما كان !
***
وعادا إلى الدار وهي متعبة من السير والقلق ، ولكنهما وجدا المفاجأة هناك .... لقد عاد الصبي والخادمة . كانت حديثة عهد عندهم ، فضلت طريق العودة ، ثم اهتدت أخيرا إلى الطريق ..!
وفي اندفاعة جارفة راحت تحمل الصبي بيديها ، وتضمه إليها في لهف حار ، وتمطره بالقبلات كالسيل المنهمر ، وتستريح هنيهة ثم تعود ... فلما كادت تشبع قال هو معابثاً :
= كفى ! لقد بدأت أغار !
قالت :
= تغار ؟ وأنت مالك ؟ هذا حبيبي سوسو !
قال وذهنه خال من كل فكرة سابقة :
= وهل أغار إلا لأنه حبيبك ؟
وفجأة تغير وجهها لهذه الكلمة ، وانطفئت الشعلة المتوهجة كما ينطفئ المصباح ، وبدا عليها الكمد والإجهاد . وقالت في نبرة كسيرة خافتة :
= ماذا تعني ؟
وكان لا يعني شيئا . ولكنه أدرك ما جال بخاطرها في هذه اللحظة فقال :
= لا أعني شيئاً .. إنك مجنونة .. خذي كلامي ببراءة .. ولا تحوجيني للشرح أو للتحفظ .. فأنا أكره التحفظ والتكلف ...
وعلت نبرة صوته وهو يقول :
= يا سميرة .. منذ اليوم دعينا نعيش بلا تحفظ .. كما خلقنا الله !
وردت إليها هذه اللهجة الحاسمة طمأنينتها ، ولكنها لم ترد إليها توهجها ، فظلت ساكته فترة من الزمن .
***
وذهبت تعنى بعشاء الصبي من اللبن والفاكهة ، ولم يلبث إلا قليلا حتى رنق الكرى عينيه فنام .
نام بين يديها فانحنت عليه بحنان ظاهر ، ورفعته إلى كتفها في رفق ، وربتت على ظهره في حنو ، وتحركت نحو السرير ببطء .
ونظر إليها وهي تنيمه . فإذا مشهد فاتن ، لم تقع عليه عيناه : هذه القسمات الحانية ذات الوجه الجميل ، وهذه النظرات الرحيمة في تينك العينين الساحرتين .. وهذه الحركات الوانية في جوارح الجنية الهاربة ، وهذه القبلة المديدة من تينك الشفتين الفاتنتين .. إنها الأمومة الكاملة في نفس الحورية العذراء ، حورية وأم .
هذه هي المفارقة التي لا تجتمع إلا في الخيال ، تتحقق أمامه في العيان !
وفي تلك اللحظة كان يحلم بالعش المسحور . وكان له طفل تنيمه الحورية الهاربة ، في هذا العش المسحور ........!
.. الماضي الحي ..
كانت تزوره في الدار مع أختها وأخيها ، ولم يكن هو وحيداً ، فقد كان يعيش مع شقيقتيه الفتاتين . وقد انعقدت أواصر الصداقة القوية بينها وبينهما . ولم يكن هناك حواجز تحول دون زيارتها .
ودخلت حجرة مكتبه ، وأخذت تتفرس في مجموعة كتبه ، وتقلب في بعض الصفحات ، ثم اتجهت إليه وهي ترفع رأسها فتبدو فاتنة رائعة ، وقالت في لهجة الطفل المتودد : اختر لي كتابا أقرؤه من كتبك .
كانت تعلم غرامه بالكتب ، وحبه للقراءة ، ورأيه في المرأة التي لا تقرأ . وكانت في الوقت ذاته مولعة بالمكايدة تُفتن فيها افتتانا ، فكانت حريصة على أن تبدو في معظم الأحيان وهي تغيظه بارتكاب ما يكره واجتناب ما يحب . ولكنها كانت تنسى هذه المكايدة في بعض الأحيان فتبدو على طبيعتها ، تريد أن تعجبه وتروقه ، وتصوغ نفسها في الصورة التي يحب . وكان طلبها هذا الكتاب تقره توددا منها تقصده ، ويفطن هو إلى مغزاه .
واتجه إلى القسم القصصي في مكتبته ، فهو أولى الأقسام بأن يجتذب فتاة إلى القراءة ، وكان قد أهدى إليها من قبل بعض القصص فادعت أنها لم تقرأها . ولكن لسانها كان يخونها فتشير في أحاديثها معه إلى ما ورد في هذه القصص . فيضحك مرة من هذا في سره ، ويضحك مرة منه في جهره ، فتحاول الإنكار بعد فوات الأوان ! .
ولا يدري إلا الشيطان ، لماذا وقعت يده على قصة (( الماضي الحي )) المنقولة إلى العربية عن (( جي دي موباسان )) ... كل قصة إلا هذه القصة كان معقولا أن يوجه إليها نظره في ذلك الحين .
ولكن هذا هو الذي كان !
أتراها قوة شيطانية تلك التي دفعت بيده إلى هذا الكتاب ؟ أتراها نفسه الباطنة التي ما زالت إلى اليوم ترتاب ؟
أيا كان الباعث فقد اضطربت يده حينما وقع نظره على العنوان ! .. ووقع نظرها عليه أيضاً !
قال في تردد :
= لا .. خذي غير هذا ( وهم أن يعيده إلى موضعه في المكتبة )
قالت وقد أثار العنوان أولا وتردده ثانيا ما في نفسها من استطلاع :
= ولماذا ؟ هات هذا الكتاب !
قال في إصرار هذه المرة بعض الشيء :
= لا ... غيره خير منه
قالت وقد زاد تشبثها به :
= لم أقرأ إلا هذا الكتاب !
ولم يعد بد من أن يسلمه إليها .. وقد أحس في أعماق نفسه بغم عظيم وقلق دفين !
***
كانت القصة قصة سيدة أخطأت . كان لها ولدان لهما ولدان ! ولكنهما يحملان اسم أحدهما وحده . وقد حسبت أن الماضي قد مات ، وحسب الناس أن (( بيير وجان )) شقيقان !
كانت سيدة محترمة ، بريئة ! فوق مستوى الشبهات ! ...........
أما الماضي فقد كان سرا لا يعلمه أحد . ومن أين لأحد أن يعلمه ، وصاحبه الآخر قد مات .. وهي لن تكشف عنه بطبيعة الحال ؟
لقد استراح ضميرها لهذا كله ، بعد أن غيب في عالم النسيان ، وعاشت مع زوجها وولديها وكأن لم يكن ما كان !
ولكن هذا الماضي يُبعث في يوم من الأيام . إنه حي لم يمت بعد عشرين عاما أو تزيد ..
إن (( بيير )) يكشف فجأة أن (( جان )) ليس أخاه الشقيق . إنه ابن ذلك الرجل الآخر الذي عاش صديق الأسرة ، ومات فأوصى بثروته كلها للولد الأصغر (( جان )) حيث لم يسأل أحد يومها : لم هذا الإيثار ؟
ويعنف المؤلف كل العنف – وهو يكشف هذا السر للابن الأكبر – فيمزق ما بينه وبين أمه من رباط . إن هذه المرأة البريئة المظهر قد خانت أباه . إنها أمه ، وهذه هي القسوة الكبرى في المأساة ! وإنه ولدها ، ولكنها تحس وقع نظراته وشبهاته – التي تتحول إلى يقين – كما تحس بالأشواك المسمومة . إنه ولدها ، وهذه هي القسوة الكبرى في المأساة !
***
قالت له في هذه المرة عند أول لقاء :
= لقد قرأت القصة !
وأحس أن كلماتها تقطر مرارة ، وأنها تتماسك وكيانها يرتجف وينهار .
قال :
= إنها قصة عنيفة ... لقد أشفقت أن أقرأها مرة أخرى لأنها مؤذية !
قالت مستطلعة :
= ولماذا تؤذيك ؟
قال وقد أراد أن يتجاهل كل شيء :
= إن المؤلف قد رسم موقفا أليما بين الأم والابن يهز الأعصاب .
قالت :
= أوتحسب ان كل من يقرؤها يحس فيها ما أحسست !
وفهم أنها تضرب على وتر خاص ، فقال :
= لا شك في هذا وإن تفاوتت أحاسيس الناس
قالت وقد بدت في صوتها رعشة تغالبها :
= لماذا أعطيتني هذا الكتاب ؟
قال :
= لأنك أصررت على أخذه
قالت :
= ولكنك اخترته من أول الأمر !
قال :
= لم اختره .. لقد وقع في يدي مصادفة ، فأشفقت منه على أعصابك ، لأنني جربته في أعصابي ... ( ثم أضاف ) : منذ أعوام !
تطلعت إليه ثم قالت :
= متى قرأته ؟
ووجدها فرصة يبعد بها الشبهة فقال :
= أقول لك منذ أعوام
قالت متخابثة :
= أولم تعد إليه مرة أخرى في هذه الأيام ؟
قال :
= كلا .. لم أطق أن أعود إليه مرة أخرى .. بعض الصور تطبع في النفس فتحاول الهروب منها ، ولكنها تتراءى لها كلما أبعدت عنها .. فلا يحتاج الإنسان لمراجعة الأصل أبدا .
ووجد نفسه يندفع في وصف تأثير القصة في أعصابه ، وهي تصغي إليه بشدة ، وتتراقص في عينيها ظلال معركة . فأمسك عن الكلام ، وأمسكت هي كذلك ، وسادهما صمت ثقيل .
***
دخلت كلمتا (( الماضي الحي )) في قاموسهما بعد هذا اليوم . فما تأتي كلمة (( الماضي )) حتى تلحق بها على الفور (( الحي )) وحتى تبعث في خيالهما صورة خاصة . وتبعث في حياتهما جوا خاصا . ولم يفلح بعد ذلك في أن يعيد الثقة إلى نفسها مرة أخرى . كانت تصارع وكانت تريد أن تكون له ..... ولكنها باتت تخشاه !
.. القطيعة ..
مرت الأيام . واقترب الموعد المحدد للعقد ، وأخذ الجميع يستعدون له باهتمام ، واستقر الرأي على أن تقام حفلة الشاي بدل المقصف ، ونزل مع أخيها فاتفقا مع مشرب من مشارب الشاي على الحفلة ، ودفع هو (( العربون )) كما راح ينتقي علبة الملبس الخاصة بالعروس . وجلسوا ليلة يختارون أسماء المدعوين ، وشاركت هي في إعداد البيان ، وأملت أسماء صديقاتها ليحضرن اليوم الموعود .
ونزلت مع أمها فاشترت عددا من الفساتين – من بينها فستان الليلة الخاص – وكانت شقيقتاه وشقيقتها كذلك قد اشترين الفستان الخاص بالسهرة من لون واحد ، وذهبن إلى خياطة واحدة للتفصيل ...
كان كل شيء في الظاهر يندفع إلى الأمام . ولكن تيارا آخر مضادا كان يسير في الخفاء . كان شعوره بأنها صارت له ، وأن حياتها سترتبط بحياته يوقظ في خاطره الوسواس والهواجس ، وكانت الأشواك التي خيل إليه أنها اقتلعت أعمق مما قدر لها في الضمير .
وكان شعورها بأنها صارت له وأن حياتها ارتبطت بحياته يوقظ في خاطرها المخاوف والمخاطر ، بعد أن كشفت له عن موقفها وجردت نفسها من كل سلاح .
كان الشك يوغل في نفسه بجانب الحب ، أو بسبب الحب ، فكان حريصا ملهوفا على أن يتأكد أنها خلصت له إلى النهاية .
وكانت كبرياؤها قد استيقظت فهي تريد أن تتأكد من استعاده مركزها في نفسه ومن انتهاء شكوكه فيها .
وكان كلاهما في سبيل الحصول على هذا اليقين يرتكب في كل يوم حماقات صغيرة ، أخذت تحيل الحياة إلى جحيم .
***
كان قد اختار لها علبة ملبس صغيرة من الفضة الخالصة ، وأقبل بها فرحا بحس انتقائها , ولكنها لم تهش للعلبة ، ولم يبد عليها أنها تستقبلها استقبالا طيبا ، وبدلا من أن يفكر في ان نوع العلبة قد لا يكون أعجبها ، فكر في أن المناسبة كلها لا تفرحها !
واغتمت نفسه لهذا الخاطر ، وأوّله بما كانت تعترف له به في إبان الصراع : إنها حينما تحس فقدان أحدهما يكون هو العزيز عليها ، فراح يرقب كل حركة من حركاتها ويؤولها هذا التأويل ، وتفلت منه تلميحات ونظرات لا يفوت مغزاها فتزداد انقباضا ، وتوجس نفسها خيفة ، وتحاول أن تتأكد بتجربة جديدة تزيد الموقف سوءا وتعقيدا ! .
وقدم يوما إلى الدار ، وكانت تتهيأ مع جارة لهم لزيارة صديقة ، وكانت في مثل هذه المصادفات تتخلف فلا تخرج ، أما في هذه المرة فحاولتها تجربة لتعرف مدى احتماله لها في حياتهما .
ومضت في زيارتها .......
وفسر خروجها وتركه في المنزل بأنها لم تعد تعنى به ، فآلمه هذا الخاطر ألما شديدا لم يستطع معه البقاء في الدار .. فلما عادت بعد فترة قصيرة لم تجده ، وانهالت عليها أمها تأنيبا ، فزادها هذا التأنيب شماسا ونفوراً .
ولكن الاستعدادات لليوم المحدد سارت في طريقها المرسوم ! .. وجاء في اليوم التالي ونفسه محملة ، وحينما استقبلته لمحت ما يختلج في نفسه ، فزادها ذلك هما وذبولا .
ثم انفرد بها وراح يعاتبها في خشونة على فعلتها بالأمس ، فلم تتراجع ، ولم تدركها غريزتها بالحل المناسب . وكانت قسوة التأنيب الذي لقيته من أمها العصبية تملأ نفسها مرارة ، إلى جانب مخاوفها من الحياة مع رجل لم يعد ماضيها يهيئ لها في نفسه احتراما ، وزادها عتابه الخشن خشية ومرارة ، فعاندت عنادا شديدا .
أما هو فكان يحس أنه ضحى بما فيه الكفاية ، وأنه احتمل ما فيه الكفاية ، وأنه أنفق رصيده كله من العطف والتسامح والإيثار في أيام الصراع والعلاج ، وأن له الآن – وقد صار زوجا – أن يتلقى الجزاء تقديرا لموقفه وعرفانا بسماحته ، وكان هذا الجزاء الذي يرتجيه ، أن يجد بجانبه شريكة خالصة له متوددة إليه .
وأما هي فكانت تخشى أن تتودد كما يريد ، فيحمل ذلك منها على ذلة الاعتراف ، ومهانة الانكشاف ، وكانت تقيس مكانها عنده باحتماله لتدللها ، في وقت لم تعد له طاقة لاحتمال الدلال !
فلما اشتدت المناقشة بينهما إلى حد لم تبلغ إليه من قبل أبداً ، خرج من الدار مغضبا ، وسار في الطريق ثائرا ... وكانت ذقنه طويلة ، وشعوره بطولها يسبب له عادة مضايقة ، ويفسد مزاجه كثيرا ، فدخل دكان حلاق ، وهو لا يدري تقريبا ، وفي الفترة التي قضاها في الحلاقة كانت نفسه تصفو ، وكان تسامحه يعاوده ، وأحس في نفسه بقية من رصيد ، فرأى أن يبذله للمرة الأخيرة . وكانت قبل هذه المشادات قد أظهرت رغبتها في مشاهدة أحد الأفلام الجديدة ... ورأى نفسه ينساق مسرورا إلى دار السينما فيقطع ثلاث تذاكر ، له ولها ولأخيها الصغير ، الذي كان يصاحبهما في معظم الحفلات ، لحفظ المظاهر في أنهما لا يختليان بعيداً ! .
وأحس وهو يمسك بهذه التذاكر الثلاث أن كوة من الرجاء تنفتح في خاطره ، وقدر أن هذه المحاولة اللطيفة سترد إلى الجو صفاءه لأنها مفاجأة لا تنتظرها ، وقد خرج بعد المشادة غاضبا .......!
ودخل الدار متهللا نشيطا فوجدها لا تزال منزوية كئيبة . وقد قاطعت كل من فيها ، فلم تتأثر نفسه بانقباضها ، وابتسم وقال لها :
= تعالي أحدثك على انفراد
قالت :
= لقد شبعنا من الحديث على انفراد !
وصدمته هذه المقابلة . ولكنه وجد في نفسه سعة لعرض المفاجأة!
وكانا قد وصلا إلى حجرة الجلوس ، فأخرج من جيبه الأوراق الثلاث في تمهل ، ثم أسرع وهو يبسطها على ظهر البيانو ، وقال في ابتسامة ودود :
= هذه تذاكر الرواية وسنشاهدها غداً !
ولو تلقت المفاجأة كما انتظر لانتهى كل شيء ، فقد كان على استعداد في هذه اللحظة لأن يغفر لها مشاداتها جميعا . ولكنها لم تدرك الغرض ، فقالت في استخفاف :
= تحسبونني طفلة ، تغضبونها وتوبخونها ، ثم ترضونها بقطعة من الشيكولاته ؟
وانصب عليه ماء بارد ، وصغرت في عينه جدا ، وتلفت فإذا آخر شعاع في نفسه يخبو ، وآخر فسحة في صدره تضيق ، وقال في خشونة :
= لم تفهمي قصدي .. إنك صغيرة .
وسمعت أنه يقول لها (( حقيرة )) ، فاتاعت ، ورفعت صوتها منفعلة : أي نعم حقيرة !.. حقيرة .. هذا ماكنت أتوقع .. معك حق .. هذا ما كنت أحس . إنك تحتقرني في ضميرك ، انكشفت الآخرة ولم يعد شيء مخبوءا ...
وانطلقت من الحجرة غاضبة وهي تبكي في شبه نشيج ، وأقبلت أمها فأدركتها رقة عليها بعد ما انبتها بالأمس تأنيبا شديدا ، وحسبت أنه هو الاخر يقسو عليها بعدما احتملت منها كل قسوة ، وغلبها حنان الأم ، وراعها مشهد ابنتها تتعذب عذابا ظاهرا، فأدركتها عصبيتها كذلك ، وانطلقت توجه إليه اللوم في عنف شديد ..
قالت :
= إنه لا يكون هكذا يا ابني ! .. إن الحياة لا تستقيم على هذا النحو . ولو كانت جارية يعذبها سيدها ما احتملت أكثر من هذا ، كل يوم عتاب ، وكل يوم مناقشة ، وكل يوم تأنيب ، أنا من جهة وأنت من جهة . يا رحمة للبنت المسكينة ! .. سأنتظر حين يجيء أبوها .. إن هذا الحال لم تعد تطاق !
وفوجئ هو بهذه الثورة من هنا ومن هناك في اللحظة التي لم يبق له فيها رصيد للاحتمال وأحس إحساسا قاطعا أكيدا عميقا أن كل شيء قد انتهى ، وأنه لم تعد صلة تربطه بها !
وغلا دمه واشتد انفعاله ، وانطلق لسانه :
= وهو كذلك .. فأنا الآخر لم أعد احتمل شيئا .. كل شيء يحسن أن ينتهي !
وكانت هذه الكلمات كفيلة بأن تشعر الأم أن الصلة تتقطع ، فزادها هذا ثورة وهياجا ، وإذا كانت تتقي من قبل شيئا فإنها لم تعد تتقي . وكذلك استمعت الفتاة إلى كلماته وأحست من لهجتها أن كل شيء قد انتهى .. فندت من فيها كلمات كانت الطعنة المجهزة الأخيرة . قالت :
= الحق علي أنا التي قبلتك ، بعدما حذرني كثير من الناس ! ولم يعد هناك مجال لشيء .. فهذه بالذات لن تكون امرأته في يوم من الأيام ....!
***
وجاء الوالد .. وعرضت أمها الأمر .. وبدت له جفوة في حديث والدها وأخيها الأكبر يحاولان سترها فتبدو ، ولأول مرة سمع أخاها يتهمه في لهجة جافة بأنه لم يكن في الحقيقة جادا في مشروعه ، وأنه كذلك كثير الشكوك والمخاوف إلى درجة لا تطاق !
وأدركته روح السخرية بالموقف كله ، فأعفته من الردود العنيفة التي كانت تجيش بها نفسه ، وأحس في نفسه باشمئزاز من الطبيعة البشرية ومن أهل القاهرة خاصة .. وكانت نشأته في الريف تخيل له أن الناس هناك أحسن أصلا ، وأكثر مروءة ، وأنقى ضميراً .
وعلى أية حال فقد اتفق الجميع على اليأس من المشروع ، ولم يكن بقي على الموعد إلا ثلاثة أيام . وكان الألم يحز في نفس الوالد ، ولا بد أنه كان أعنف في نفس الوالدة .
ولكن الأسرة ردت إليه خاتم الخطوبة والشبكة (( وعلبة الملبس )) فكانت أشبه شيء في حسه بمخلفات الميت بعد درجه في الأكفان !
وقام هو من جانبه يرد صورها وأوراقها إليها وإن لم تطلب إليه ردها ، فتلك مخلفات الميت بعد درجه في الأكفان !
تم هذا كله في شبه ذهول . فخيل إليه فترة أن كل شيء هين ، وأن كل شيء قد انتهى . ولكنها كانت (( سرقة السكين )) كما يقول العوام ! .. فقد تنبه بعد فترة فإذا هو لا يجد نفسه ولا يجد ماضيه ولا يجد حاضره ، وكأنما هو في بَحَران !
.. الترام المسحور ..
مضت أيام بعد المعركة قبل أن يستعيد لنفسه صلاتها بالحياة . وقبل أن يستيقن أن ركب الحياة يسير كما كان من قبل يسير ، وأن عجلة الزمن كذلك تدور ، وأن معالم الكون ومعالم القاهرة لا تزال ! .
مرت عليه هذه الأيام وهو في حالة نفسية غريبة ، ليست عقلا ولا جنونا ، وليست صحوا ولا ذهولا . كان يحس بالدهشة تخالجه كلما رأى شيئا من مظاهر الحياة التي كان يراها قبل الكارثة ! .. وكان قد احتجب في داره أياما من الإعياء ، واستغرق في نفسه وأغلق عليه منافذها ، فلما خرج إلى الطريق أدهشه أن يجدها كما كانت ! وعندما قادته قدماه إلى المحطة بهت بهتة حقيقية وهو يرى القطار الذي كان يركبه إلى المدينة ..... أولا يزال القطار يسير ؟
وإلى أين يذهب بالناس ؟
ووصل إلى المدينة فسار في طرقاتها بنفس الشعور ... وكان كل شيء ممكنا – مع ذلك – إلا أن تقوده قدماه إلى الشارع الذي يسير فيه الترام .. وترامها هي على وجه خاص !
ورآه مقبلا فحدق فيه ببلاهة ، وكان وعيه غائبا .. ومرت لحظة ونفسه تحدثه ذاهلة : إنه لا يذهب إلى هناك ، فلماذا يسير إلى الترام ؟!
ثم أفاق فروّعه أن يكون وصل إلى هذه الحال !
****
ودارت عجلة الزمن ، فأصبح يقينا ما ليس باليقين .. وعوّده كر الغداة ومر العشي أن الكون يستطيع أن يكون دون أن يكون حبه الكبير ! .. وأن الحياة تستطيع أن تمضي وإن وقف حبه إلى حدود وأن القطار والترام يسيران وإن لم ينقلاه إلى هناك !
ولكن الزمن لم يستطع أن ينسيه أن لهذا الترام الخاص سمة خاصة تميزه من كل ترام ، إنه ترام مقدس أو مسحور . ويكفي أن يلمح رقمه وهو يسير ليدق قلبه دقات عنيفة ، ولتتحرك خطاه ويهم بالركوب . ثم يصحو فيسخر من نفسه ، ويقف لحظات يسترد فيها هدوءه ثم يسير .
وظلت هذه الرغبة إلى ركوب هذا الترام تراوده فيصدها عن خاطره ، وتعز عليه كرامته ، ويتغلب عليها بالسخرية من نفسه تارة ، وبالتصميم على مغالبتها تارة ، وبالحجة يحاور بها رغبته تارة : لماذا تركب ؟ وإلى أين تذهب ؟ إنه لسخف تفكيرك ذاك !
وذات يوم يقابله زميل له في المدرسة الأولى ، أيام المراهقة ، فيسلم عليه باشتياق الزملاء الغيّاب ، ويجلسان فترة يتذاكران أيام الصبا قيلتقي شعورهما عليها ، ثم يمتد الحديث فيشعر أن هوة تفرقه عن زميله .. لقد وقف تعليم الزميل وثقافته عند حد ، بينما مضى هو يتعلم ويتثقف ويوسع معارفه وتجاريبه ... فلما التقى به كان في واد وزميله في واد ...
ويبرد الحديث ويجد في نفسه فراغا منه ، ويعتزم أن يستأذن .. وحسبه هذه اللحظات .. ولكن زميله يسأله عن عنوانه فيذكر له رقم مسكنه في الضاحية ! ثم يتقدم إليه الزميل ببطاقته وفيها العنوان ..
ماذا ؟ إنه يسكن هناك ! بل إن داره لا تبعد عن دارها إلا بمحطتين في الترام ... وهنا يعود زميله مخلوقا جديدا في نظره . مخلوقا آخر غير الذي كان .. مخلوقا مسحورا تحف به الأسرار وتحيط به الهالات .
وتراوده نفسه على أن يمد الجلسة .. فيصده عن ذلك أنه استأذن من زميله فعلا .. ولكنه يقول في حراراة واضحة ، ولهجة مضطربة ، لا يزن فيها الكلمات والإشارات :
= آه .. أنت هناك ؟ سأزورك إذن ، سأزورك قريباً !
ويتلقى زميله هذه الرغبة بالترحيب والاستبشار ، ولا يلمح شيئا مما وراءها ، ولا يجول في خاطره إلا انه إعزاز الزميل القديم وشوقه إلى لقياه !
***
ولم يمض يومان يومان حتى كان في طريقه إلى زيارته . لقد وجد المبرر . فما تستطيع نفسه أن تحاجه بعد اليوم في ركوب هذا الترام ! .. ماذا ؟ إنه ذاهب لزيارة زميله القديم العزيز ! ...
ويتحمس لهذا الخاطر حتى ليضحك لحماسته حين يفيق ، وكأن أمامه من يحاجه ويشتد عليه في الحِجاج !
وحين وجد نفسه في الترام .. تنفس نفسا عميقاً طويلا ، ومد قدميه في حجرة الدرجة الأولى ، وارتكن بمنكبيه على حافة النافذة بضع لحظات .
ومضى الترام محطة ومحطة ومحطة .. ثم افاق .. إلى أين هو ذاهب ؟ أماض هو إلى زميله حقاً ، أم ان هنالك غرضاً دخيلاً ؟
وهتفت به كل ذرة في كيانه : آه لو يلقاها في المحطة أو في الطريق العام ! إنه سيكون في مجالها القريب بعد بضع محطات !
وتوالت المحطات .. وكلما قرب من المحطة المسحورة زاد قلبه خفقانا ، وزادت المعركة في نفسه احتداما ، وساورته خيالات صبيانية ساذجة ، ودار في نفسه حديث طفلي غريب :
= ولو كانت هناك ورأتك ، فماذا عساها تقول ؟
= ماذا عساها تقول ؟ إنني ذاهب إلى زيارة الزميل !
= ومن يدريها هي أنك ذاهب إلى زميلك ؟ ولم لا تؤول مرورك هنا بانك تقصد رؤيتها ؟
= من يدريها ؟ وما ذنبي أنا ؟ وهل هو طريقها الخاص ؟
= ومع ذلك فقد لا تكون هناك !
وهنا يحس بانطفاء في روحه وباكتئاب يغشاه ...... ثم ..... من الخير ألا تكون هناك . فقد تتوهم على كل حال أنني لازلت أهفو إليها بعد كل ما كان !
وبينما تدور هذه المعركة كان الترام يقترب ، وهنا تزاحمت خواطره ، وفقدت نظامها واتساقها : ليتها تكون . ليتها لا تكون . آه لو رآها . إنني أخشى لقياها . لست ذاهبا إليها ، أنا ذاهب إلى صديق ! هه ! هذه هي محطتها ! ... وكانت أنفاسه عندئذ لاهثة ، وعيناه زائغتان . وخبأ رأسه قليلا ثم أطل بعنف ، ودار بعينه دورة سريعة . وتحرك الترام من المحطة ... الحمد لله . إنها ليست هناك ، ولكنه يخمد ويخبو وتركد أنفاسه ، ويغشى خواطره الظلام !
***
واستقبله زميله ! – أو صديقه كما راح يسميه – بحفاوة وبشر وابتهاج ، ولاقاه هو بهمود وبلادة واكتئاب ، وعزا ما به إلى تعب السلم ، وغاص في كرسيه يستريح .
وانقضت الزورة ، وهم بالاستئذان .. وإذا زميله ينزل معه ليودعه ويعرض عليه أن يتمشيا محطتين حتى يفرغ زحام الترام بعض الشيء لأن فريقا من الركاب ينزل عادة هناك .
وأحس بانتعاش قوي لهذا الاقتراح . محطتان . أي انه سيركب من المحطة المقابلة للدار .. وزميله معه ، فهو حجته في زيارة الحي والركوب من هذه المحطة ! وكأنما هناك من سيسأله : لماذا جاء إلى هنا ؟ ولماذا يركب من هناك !
وسار في نشوة وفي قلق كذلك .. سار يتلفت هنا وهناك عسى أن تقع عينه عليها في الطريق أو في الشرفة إو في أي مكان . ولكنه لم يرها ، وبدأ يخمد مرة أخرى . وفجأة يرى أمامه وجها لوجه .. بواب الدار في الطريق العام
= عم سليمان ؟ أهلا وسهلا عم سليمان !
وقال الرجل بلهجته النوبية الخاصة :
= أوه .. إيه حالك يا بيه ؟ والله زمان !
= الحمد لله يا عم سليمان !
وأفعمت اللهفة نفسه أن يسأل عن أهل الدار .. ماذا جرى هم ؟ ما اخبارهم ؟ هل تزوجت ! وألف سؤال وسؤال ..... ولكن كبرياؤه وقفت به لا يلقي أي سؤال .
وقال الرجل في لهجة يخامرها الأسف والأسى :
= فين أيامك الحلوة يا بيه ... ( وسكت برهة ) .. هم كمان عزلوا من زمان !
وانفتح الباب على مصراعيه . ولكنه ظل متحفظا ، فقال في حذر ينفي عنه الريبة :
= نقلوا ؟ لا بد أن يكونوا بعيدا عن الحي !
وقال الرجل : إنهم لم يبعدوا كثيرا فهم في الحي المجاور ..
ولكن بقيت أمامه مشكلة أخرى : أن يعرف بالضبط عنوانهم الجديد .
ولكن لماذا يعرف عنوانهم الجديد ؟ ما علاقته بهم ؟ وهب له بهم علاقة ، فإنه يعرف رقم تليفون أبيها في مكتبه وهذا يكفي !
ولكن شعورا غامضا يساوره : إنه يحب أن يعرف المنزل الجديد ، إنه يحتفظ في مخيلته بصور المنزل القديم ، ويسترجع من هذه الصور حركاتها وتنقلاتها .
هي مرة في حجرة الجلوس توقع على البيانو ، وهي مرة تستقبله على الباب ، وهي مرة في مرافق المنزل ، وهي مرة تنام في سريرها الخاص ، وهي مرة تقفز وهي تقطع الممر القصير في بضع خطوات .... فهو يملك منها شيئا كثيرا ، ولديه منها رصيد مذخور . ولكن في هذا المنزل الجديد كيف يتخيلها ؟ إن صورها مائعة في خياله ، بل لا صور لها إلا ما يحاول الخيال أن يركبه من العدم فلا يسيطيع .
مرت هذه الخواطر في نفسه سراعا والبواب أمامه ، ثم هدته الحيلة ، فقال :
= والله كنت أريد أن أقابل أخاها لأمر هام ، ولكني لا أعرف العنوان !
وهنا أسرع البواب فذكر له اسم الشارع ورقم المنزل وهو يقول :
= (( والله ناس طيبين زيك يا بيه .. مين يعرف ؟ يمكن برضه يكون لكم نصيب ! ))
واستروحت نفسه هذه الكلمات استرواح الظلال في الهجير . إذن هي لم تتزوج بعد ،و من يدري فقد تكون هنالك بقية .. ألا يقول ذلك الرجل البواب ؟!
وارتد إليه نشاطه ، ووثبت خطواته ، ووقف ينتظر الترام على المحطة مع صديقه حتى جاء فركبه ومضى في نشوة وانطلاق .
***
وغالبه الشوق الجارف لأن يتعرف الدار الجديدة . ولكن إرادته كانت أقوى ، فلم يحاول ذلك أياما طويلة ، إلا أن زياراته لصديقه لم تنقطع ، فالحي الجديد في طريق الحي القديم !
وفي كل مرة كانت تدور المعركة ذاتها ، وتنتهي الزيارة كما تنتهي إلا انه في مرة تشجع فطلب إلى زميله أن يرافقه ليتمشيا في الحي الذي ذكره البواب ، لأنه يريد أن يسأل عن شأن له هناك !
وكان وجود زميله معه هو المبرر الرسمي لوجوده وسارا حتى وصلا إلى الشارع المطلوب ، وظل يتصفح أرقام البيوت دون أن يلفت زميله ، وكلما قرب من الدار ارتفعت دقات قلبه وبدا عليه الاضطراب .
وحميت المعركة التي دارت في أول مرة ، وزاد الإحراج أنه يسير هنا ولا يركب الترام ، وازدحمت الهواتف والرغائب والمخاوف حين صار أمام المنزل ... ولكن هاهي ذي نوافذه مغلقة ولا شيء هناك ! .
وكان الجهد قد نال منه ، وبدا عليه الإعياء ، فلم يجد مشقة في إقناع صديقه أنه متعب ، وأنه يحسن أن يعود فيأخذ الترام .
***
ولم يحاول بعد ذلك أبدا أن يمر في هذا الحي ، لقد اطمأن إلى معرفة الدار ، كأنما هذا كل ما هنالك , ولكنه لم يتخلف عن زيارة صديقه والمرور على الشارع الذي به الدار من بعيد في الترام !
وفي يوم يلقى زميله في القاهرة ، فيسرع إليه ليخبره أنه ترك داره القديمة إلى عنوان جديد ، ويخرج من جيبه ورقة ليكتب له فيها العنوان الجديد !
وأخذ أخذة شديدة ، وخيل إليه لحظة أنها عملة سخيفة جداً ! .. وكاد لسانه يفلت فيؤنب الرجل عليها ! .. ولكنه يتدارك نفسه .. ويخفي تجهم وجهه وملامحه ، ويتناول الورقة في برود فاتر : لقد سقطت حجته في أن يذهب بعد اليوم إلى هناك !
وقال الرجل في براءة : ستزورني طبعا في عنواني الجديد ! .. قال في برود وشرود : إن شاء الله .. إن شاء الله .
.. الصورة الهاربة ..
تخلفت عنده صورة لم يردها إليها ... لم يكن ذلك عن عمد . كانت هذه الصورة أكبر حجما من أخواتها . وكن جميعا في ظرف صغير ، أما هي فكانت في ظرف آخر كبير ، وكان قد أهملها في مكانها لأنها صورة (( مهزوزة )) فلم يكن يراها كثيرا .. لأن الصور الأخرى أوضح وأدق وأجمل . ولكنه أراد أن يردها إليها كما رد رفيقاتها ، وبحث عنها فلم يجدها ، فأضمر أن يردها حين يعثر عليها .
وحينما هدأت الثورة التي طغت على أحاسيسه ، وتكشفت الغمرة التي أغرقت عواطفه ، وسار الحنين إلى حوريته الهاربة التي تبدت أسطورة خالدة في حياته .... عندئذ أحس باللهفة والشوق إلى كل أثر من آثارها ، وشعر بالحنين المترقرق يهمس في جوانجه ؟ يا ليت شيئا من أشيائها يكون في متناوله !
وكان كل شيء يتصل بها من قريب أو بعيد قد بات حبيبا إلى نفسه ، ترف عليه روحه ويترقرق الوجد في حناياه وتحف به هالات مسحورة تتراءى خلالها الطيوف والأحلام !
ودب الندم والتمني إلى أحاسيسه في فترات كثيرة : لو أبقيت صورها ! إنها لم تطلبها مني ! لو أبقيت رسالتها إليّ ، وهي رسالة تنطق بنيل ضميرها ، ودقة حساسيتها ، وتصور حقيقة معدنها ، ويقظة شعورها ! .. لو أبقيت (( الشبكة )) وخاتم الخطوبة وهما يساويان – في الذكرى – أضعاف أضعاف ثمنهما ! .. لو أبقيت (( علبة الملبس )) إنها على كل حال أثر منها ! . لو عملت ، لو أبقيت .....
وتقلب يده ذات يوم في أوراقه ، فإذا هو يعثر على الصورة ... . قفز قلبه قفزة شديدة بين ضلوعه ، وبقى فترة طويلة يدق دقا متواصلا عنيفا ، وارتجفت يده وهي تتناول في قداسة وروعة ، فتقربها من عينيه ، فيتطلع إليها هنيهة في شغف واغل وفي صوفية مشرقة ، ثم يقربها من فمه فيقبلها قبلة طويلة عميقة ، تشترك فيها كل خالجة وكل ذرة فيه ، وتستنفد منه طاقة يحس بعدها بالهمود والاسترخاء ... وتترقرق في عينه دموع دموع حارة ، فيستسلم بها في راحة لذيذة ، وتنقضي فترة طويلة وهو في شبه غيبوبة .
ويفيق ، فلا يحاول النظر إلى الصورة مرة أخرى ، بل يدسها برفق بالغ في الظرف ، ويغلقه بحنان ! كما لو كان يلف وليداً لينام ! .. ويضع الظرف بعناية في درج مكتبه ويغلقه بهدوء ، ويقوم فيمشي باحتراس حتى يغادر الحجرة ، ويغلق الباب في سكون .
.. إن هناك وليداً نائماً يخشى عليه الضوضاء !!!
***
ومضت أيام كثيرة يحاول أن يرى الصورة فيها . كان مطمئنا لوجود الذخيرة عنده ، وكان في نفسه شعور غريب آخر : إنه يشفق من رؤية هذه الصورة ، وإنه ليرتعش حين يفتح درج المكتبة ليتناول منه شيئا ، ثم هو يحس بشعور العابد الورع حينما يقترب من الهيكل ليناجي المعبود المقدس . وكل هذه الأحاسيس المجتمعة كانت تصده عن المحاولة ، تلك الأيام الطوال .
وذات يوم يجد في نفسه لهفة تتيقظ للصورة ، ويفتح الدرج في عجل ، يتلمس الصورة في مكانها فلا يلقاها .
وأحس بفزع ، فراح يعيد الفحص بين الأوراق في هدوء ونظام أول الأمر ، ثم في عجلة واضطراب بعد ثوان .
وعبثا يحاول أن يعثر عليها .. لقد قلب الأوراق رأسا على عقب ، ثم ترك الدرج وراح يقلب في الأوراق فوقه ، ثم ترك المكتب وراح يفحص في أدراك الكتب ، وفي كل مكان في الحجرة على غير جدوى ! .. يا للشيطان ! .. أين ذهبت الصورة ؟
راح يسأل أفراد الأسرة واحدا واحدا ، وراح يقلب كل ما في البيت ويبحث حتى في غير المظان .. ولكن جهوده كلها ضاعت سدى ..
وجلس حائراً مكدوداً . أين ذهبت الصورة ؟ وقام يعاود البحث من جديد ! وتكرر هذا البحث أياما كثيرة ، حتى يئس من وجودها ، وفرض الفروض الكثيرة لضياعها ... وهنا أحس ما يحسه الوالد يفتقد الوليد ، يفتقده تائها خرج ولم يعد للدار . ويحز الألم في نفسه ، وتتغشاه لوعة عميقة ويعتاده لهف شديد ... ولكنها ذهبت ضياعاً !
***
ثم تمضي الأيام ، ويحس ذات يوم لهفة للحورية الهاربة من نوع جديد ، لهفة يجد لها في روحه رهقاً ، وفي حناياه التياعا ، ويشعر أنه نفسه تتذاوب حنينا . وأنه كله ذوب متهافت إليها ، وكانت هذه اللحظة أقسى على نفسه من كل لحظة سواها ، لا يستطيع أن يشفي لهفة ، وقد انقطع آخر خيوط الرجاء الضئيل في العودة .
وفي هذه اللحظة يتناول كتابا يحاول أن يهرب إليه من نفسه ، ويقلب صفحاته على غير اهتمام . وهنا تبغته المفاجأة العجيبة : الصورة هنا بين طيات ذلك الكتاب !
وخانته قواه ، وأفلتت منه إرادته ، وبدا في هيئة مضحكة ساذجة غريبة : حدقتاه متسعتان ، ونفسه مضطربة ، وصدره يعلو ويهبط ، والصورة أمامه ضاحكة لا تمتد إليها يداه !
وبعد فترة هدأ اضطرابه ، وسكن جأشه ، وعاد إليه هدوؤه ، فتناولها وضمها إليه في فرح ضمة الوليد العائد بعد اليأس والقنوط ، وراح يربت عليها .. فلو رآه أحد في هذه اللحظة لظن بعقله الظنون !
ولم تحاول الصورة بعد ذلك أن تهرب ! وقد ألفته ! واطمأن قلبه إلى أن بين يديه منها أثراً . ولم تطاوعه نفسه أن يرد إليها صورتها الأخيرة على الرغم من هتفات ضميره أن يردها إليها .
ووجد المعاذير لنفسه أمام إلحاح هذا الضمير : إنها لم تطلب منه صورها أبداً ، وإنها لتثق أن صورتها عنده كريمة ، وأنه لن يسيء إليها بهذه الصورة أبداً ، وإنه ليتوجه إلى الصورة بإحساس مقدس .. وشعور مطهر ..........
ولو أنصف نفسه لقال : إنه لا يقوى على فراق صورتها ، فإنها آخر خيط منها ، وإنها وحدها تتمثل فيها كل خواطر الماضي العزيز ، وكل صوره وأطيافه ورؤاه !
.
.. الأسطورة الخالدة ..
لم يخالج صاحبه شك في أنه يهذي أو يمزح حينما ضغط على يده في عرض الطريق وناداه :
= ألم أقل لك : إنني سألقاها الآن ؟ ها هي ذي يا سيدي أمامك لتصدقني !
ونظر صاحبه فإذا فتاة مبهوتة مقيدة الخطوات ، تتوالى على سيماها في لحظة شتى الانفعالات .
أما هو فقد تابع سيره ويده في يد صاحبه ، يضغط عليها كما ضغط عليها كما ضغط أول مرة . وإنه ليترنح فيتظاهر بالتماسك ، وتتلاحق أنفاسه فيتظاهر بالابتسام ، حتى يصلا إلى مفرق الطريق فإذا هما يقفان !
لم يكن أحدهما بأقدر من الآخر على تحديد الاتجاه . فأما صاحبه فكان ما يزال في دهشة المفاجأة : المفاجأة من تحقق النبوءة على هذا النحو الذي لا يعهد إلا في عالم الأساطير . وأما هو فكان ما يزال في هزة المفاجأة : المفاجأة التي تنبأ بها منذ لحظة ، ثم هو يتلقاها كمن لا ينتظرها بحال !
وحينما طال بهما الانتظار ، صحا صاحبه قبله من دهشته ، وحسب أنه يسدي إليه خيراً إذا هو عاد به أدراجهما في الطريق ليواجهها مرة أخرى !
ولم يكن هو زاهدا في محاولة هذا اللقاء ، ولكنه كان في هذه اللحظة يستطيع أن يواجه الشيطان ، ولا يواجه الفتاة التي تهتف به كل ذرة في كيانه أن يلقاها الآن !
لقد تنبهت فيه غريزة الخوف من الخطر حينما رأى نفسه يكاد يستسلم لمحاولة صاحبه ، فيمثل دور الفراشة التي تتهافت حتى تحترق على نور المصباح . فإذا هو يمرق بصاحبه إلى ممر يؤدي إلى شارع آخر نواز للشارع الخطر ، وهو يزعم لصاحبه أنه يقصد إلى مشرب هنالك خاص ، حتى إذا صارا في الشارع الأخير ، أحس انه يلتقط أنفاسه ، وأنه في مأمن من جاذبية التيار .... فوقفا يستريحان .
***
كان صاحبه يعلم قصته منذ نشأتها . بل كان يعيش معه القصة في كل فصولها ، وكان يعلم أنه قد مضى على آخر لقاء لهما عام كامل بعد أن وقع بينهما ما وقع ، مما يؤذن بانفصال لا رجعة فيه ، وبعد أن انتهى بينهما كل شيء ولم يبق إلا الذكريات .
وكان صاحبه يعلم مرارة الذكريات وحلاوتها ، تلك المرارة وهذه الحلاوة اللتان يمزجهما في كأس واحدة ، يخشاها أبدا ، ويحن إليها أبدا ، ولا يفتأ يتشهاها مرة ، ويجفل من مسها مرة ، ويصوغ ذلك كله في قصائده وأغانيه ، بل يتخذ من ذلك كله مادة حياة .
كان كل شيء قد انتهى ، وانتهى بالصورة التي يعييه أن يحاول بعدها وصل ما انقطع ، أو رجع ما فات ، كانت كبرياؤه تأبى عليه أن يعود ، وكانت مرارة الذكرى تطغى على حلاوتها في معظم الأحيان ، وكانت تجربته تذكره دائماً بالآلام .
ولكن هذه التجربة وتلك الكبرياء لم تكن واحدة منها بمستطيعة أن تصرف طيفها عنه ، أو تمحو صورتها من نفسه ، أو تصرفه إلى حياة أخرى غير الحياة التي رسمها خياله معها . كانت قد استحالت في حياته إلى أسطورة خرافية تسيطر على هذه الحياة .
وكان يزعم لنفسه أو تزعم له نفسه – حينما يسترجع مرارة الكأس المسمومة – أنه قد انصرف عنها ، وأن الأسطورة الخرافية قد تنحت عن مجرى حياته ، فهو يصرف هذه الحياة كيفما يشاء !
وتحدث بهذا الزعم لنفسه مرة ، وتحدث به لصاحبه مرات . ولكنه كان يحس في أعماقه ، وهن هذا الزعم وتهالكه ، فيزيده هذا الإحساس توكيداً لما يزعم ، ومجاهرة بما يدعي ! ، كالخائف يهتف بالقوة والتحدي ليتشجع في وجه أشباح الظلام !
وكثيراً ما راوده صاحبه على أن يحاول العودة والاتصال – وهو يعلم من دخيلة نفسه ما يعلم – فكان هذا يزيده إصرارا على كبريائه ، واستعادة لمرارة الذكرى ، وادعاء بأنها لم تعد شيئاً في حياته . وإن كان يتخاذل في بعض الأحيان ، فيعترف له بأنها أعمق في نفسه من هذا الادعاء ومن تلك الكبرياء ، وأن الذي يعصمه من محاولة العودة إنما هو مرارة الذكرى ووخز الأشكواك .
ثم تلت ذلك فترة أحس فيها حقيقة بأن عالمه قد خلا من تلك الاسطورة اللعينة ، ولكنه لم يسترح لهذا الإحساس .
لقد شعر بالفراغ والجفاف ، وانتابه ما ينتاب المؤمن بعد الإلحاد ، وما يصيب الصوفي بعد الضلال !
لقد خلا الهيكل من الصنم المعبود ، واستوحش الصوفي من سبحات الشهود ، وران على نفسه وعلى العالم كله ظلام وخمود
لقد عادت الحياة تكلفا لا يطاق ، وراح يقطعها كما يقطع الأجير المسخر أيامه ولياليه في العمل المجهد الكريه ، وليس له منه إلا أجره الزهيد !
ألا ما أشقى الملحدين الحيارى الشاردين عن الهيكل ، ولو كانت تعمره الأصنام !
***
واليوم – بعدما انقضى عام كامل – كان قد تناول الغداء مع صاحبه هذا وصديق ثالث لهما . وهم ثلاثتهم من أصدقاء الصبا ، ولكل منهم قصة في حياته تنتهي بالحرمان على نحو من الأنحاء ، ولكل منهم موسم يتحدث فيه عن قصته حينما تبدع يد القدر فيها فصلا جديداً ، فحيثما ضمهم مجلس تسللت إلى أحاديثهم قصة من قصصهم الثلاث !
وبعد الغداء ذهب الصديق الثالث لبعض شأنه ، بعدما قص على صديقيه فصلا من فصوله ، هاج صاحبه لأن يقص عليه بدوره فصلا من قصته : وما يكاد صاحبه ينتهي من هذا الفصل الأخير حتى تنبض في نفسه لهفة خاطفة ، وحتى ينسى كبرياءه وادعاءه ، وينسى مرارة تجاربه وذكرياته ، وحتى يفضي إلى صاحبه بهذه اللهفة العارمة :
= كم أنا مشتاق إليها ! إن المصادفات التي كانت تبيح لي لقاءها مرة ومرة – أيام أن لم يكن لقاؤنا رهن المصادفات – عادت تضن بها اليوم على مدار العام !
قال له صاحبه :
= إن الأقدار لحريصة على حبكة الرواية !
فمضى هو في لهفة حديثه : ترى كيف هي الآن ؟ أريد أن أعلم أي خبر عنها ، بل أريد فقط أن ألمحها من بعيد . ترى تغيرت ؟ أم ماتزال كعهدي بها منذ آخر لقاء ؟
ثم ينتفض واقفا من المقهى الذي كانا يستريحان فيه ، ويأخذ بيد صاحبه ، وإنه ليكاد يدفعه دفعا إلى السير في الطريق العام .
وقال له صاحبه – بعد مسيرة خطوات :
= إنني اهم أن أفترق عنك لشأن خاص
فتمسك به وهو يقول :
= كلا ! لن تتركني . فسنتسكع هنا !
ويسكت لحظة ليقول – وكأنما يستشرف لرؤيا من بعيد :
= أحس انني سألقاها الآن .
فيتهكم صاحبه ويجيبه مداعبا :
= إذن أتركك تستمتع بهذا اللقاء !
وإنه ليخشى أن ينفذ صاحبه وعيده ، وأنه ليحس برعشة في كيانه كمن يواجه الخطر ، فيقول :
= كلا ! لن تتركني . فإنني لأفضل إذا لقيتها أن تكون معي ، كما يحسن أن تكون معي لو كانت صدمة قطار أو صعقة تيار ، ثم يتلو أبياتا من إحدى قصائده في هذا السياق .
وإنه ليمد بصره ، فإذا المفاجأة المنظورة ، وإذا الخطر المرتقب على بعد خطوات .
يا للسماء ! بل يا للشيطان !
إنها الأسطورة الخالدة في صورة من صورها الكثيرة . وهل كانت القصة كلها إلا أسطورة في عالم الخرافات .
***
حينما هدأ روعه ، واستقرت قدماه في الشارع الموازي للشارع الخطر ، كان في حاجة ماسة إلى الوحدة والانفراد ، كان يحمل في وطابه ثروة مفاجئة ، يريد أن يستعرضها وحده في خفية عن الأنظار !
قال له صاحبه :
= والآن إلى أين ؟
قال :
= إلى الضاحية
قال الصاحب :
= وهو كذلك لتستريح !
وسار به مرة أخرى إلى الشارع ليركبه الترام ، فلم يحس هذه المرة بالرهبة من الشارع الخطر ، ولم يحس باللهفة عليه أيضا .
لقد كان في وطابه من الثروة ما بشغله عن الرهبة واللهفة جميعاً .
وحينما انفرد في الترام كان في غيبوبة حالمة . كانت الأشياء والمناظر والأشخاص تتوالى على عينه المفتوحة كما تتوالى الأطياف الغامضة والرؤى اللطيفة ، فلا تترك في حسه إلا ظلالا خفيفة . ومع هذا فقد كان يود الخلاص من هذه الظلال . كان يضم جوانحه في رفق على ومضة من عالم الخلود ، لا يجوز أن تخشاها ظلال الزحمة الفارغة في عالم الهالكين .
ثم ركب قطار الضاحية ، وإنه ليركبه كل يوم في الصباح والمساء ، وإنه ليضيق به في الأيام الأخيرة وبما يثيره من الضجيج والغبار ، ولكنه اليوم لا يشعر بهذا الضجيج ، ولا يلتفت لهذا الغبار . >>
وإن القطار ليخرج من العمار إلى الصحارى في ساعة الغروب ، وإنه ليرسل ببصره كالحالم في هذا الفضاء الجميل ، وكأنما يراه أول مرة في هذا الأوان !
***
في هذا المساء كان كالحالم المخدور ، فإذا صحا فليستعيد في خياله موكب الصور المتزاحمة في تلك اللحظة المليئة ، وليحاول أن يتخيل كيف كانت سحنته وملامحه بعدما لمح كالبرق سحنتها وملامحها وليسأل نفسه كالأطفال :
أكان يبدو علي التماسك وعدم المبالاة ؟
أم كنت خائراً مضعضع القوى ؟
أكنت منفرج الملامح باش السمات ؟
أم كنت مقطب الوجه مغضن الجبين ؟
ترى أسأت إليها بجمودي وقلة مبالاتي ؟
أم ترى استشفت خواطري وانفعالاتي ؟
ما الذي كانت تفعله لو لم يكن معي صاحبي ؟
ما الذي كنت أفعل لو لاقيتها منفرداً ؟
وهكذا وهكذا من هذه الأسئلة الطفولية الساذجة ، التي لا يطمئن فيها إلى جواب ، والتي كانت تخطر له ببال ، لولا الأسطورة التي تظلل حياته ، وترده في كثير من الأحيان إلى خواطر الأطفال ، ولكنه مع هذا كله لم يكن قلقا ولا مهتاجا ، كان هادئ القلب ، رضي النفس ، نشوان الخيال . لقد أرضاه أنها لاتزال بعد هذا العهد الطويل تضطرب هذا الاضطراب حين تلقاه ، وأنه يستطيع أن يتظاهر بالتماسك في وجه هذا الاضطراب !
ولقد أرضاه أنه لا يزال يحمل الشعلة المقدسة بين جنبيه ، ويملك هذا السر الذي كان يحسبه قد تاه : سر التوجه إلى الصنم بمثل هذه الحرارة ومثل هذا الاختلاج !
ولقد طمأنه أن صاحبه يقرر – وقد رأى منهما ما راى – أن الستار لم يسدل بعد ، وأن الرواية لم تتم فصولا ، وأن في الجعبة مخبآت . لقد استمع إلى نبوءة صاحبه هذه في لهفة واشتياق كما يستمع إلى أسعد البشريات !
***
وكان في الأيام الأخيرة قد ضاق بالعاصمة في حر الصيف ، وبرم بالعمل في وقدة الحر ، وتجاوز الضيق دائرة العمل ودائرة القاهرة ، فشمل الحياة كلها ، وشمل الناس والأشياء ، وكان قد اعتزم أن يرحل عن العاصمة الكريهة إلى جهة ما ، وأن ينجو بنفسه من هذا الضيق المحطم للأعصاب . ولو لبضعة أيام .
فأين صارت منه العزيمة بعد ساعات ؟
إن القاهرة لحبيبة ، وإن الحياة في هذه الدنيا لجميلة ، وإن في الكون الواسع لفسحة للآمال ، وإنه لن يبرح القاهرة ، ولو لبضعة أيام .
أبيس في القاهرة هذا الطريق العام ؟
أولم يلقها مصادفة في هذا الطريق العام ؟! ...............
.. عارية ..
بعد عام ونصف عام لاقاه الضابط الشاب – صاحب الماضي الحي – في الطريق العام ومعه فتاة ! ..لقد دهش أول الأمر ودفعه حب الاستطلاع لأن يعرف من تكون الفتاة .. لعلها أخته أو قريبته . إلا أن هاجسا كان يهتف في اعماقه : كلا كلا إنها شيء آخر في حياة هذا الشاب .
كيف يعرف ؟ ليته يستطيع أن يسأل كائنا من كان
ولم تطل به الأيام في هذا الشك والقلق ، فلقد لقى الشاب مرة أخرى وحيداً . لقيه في الترام فما لبث أن سلم عليه ، وأخذ معه في الحديث .
قال :
= لقد عدتَ من السودان !
= نعم من مدة !
= وكيف الحال الآن ؟
= الحمد لله .
= ألا تزال تسكن هناك !
= نعم في نفس المنزل .
وخاف أن يستمر الحديث هكذا حتى ينزل من الترام ، فعرج على المسألة التي تضطرب في نفسه من بعيد .
= لقد شاهدتك منذ ايام في شارع فؤاد فلم أسلم عليك لأنك لم تكن وحدك .
= آه .. كانت معي خطيبتي !
= خطيبتك ؟ وهل خطبت غير .... ؟
= ماذا أصنع ، إن أمي لم تقبل أبداً ، ثم هي . لقد قابلتها فلم تسلم علي ّ !
= معها حق ! ( قالها في راحة وفي حنق مكتوم ) .
= إن أهلي جميعا شديدو الحنق عليها . إنهم يشيعون عنها إشاعات كثيرة ، ويشوهون سمعتها في كل مكان ، ويقولون عنك أنت : إنك تركتها لسوء سلوكها ، وقد ساءت سمعتها فعلا في الحي كله ! فتركوه إلى حي جديد .
همّ أن يصفعه في هذه اللحظة . ولكنه أمسك نفسه وهو يقول :
= أنا ؟ أنا تركتها لسوء سلوكها ؟ من قال ذلك ؟ إن الذي يقول هذا كذاب . إنها مسكينة . إنها ضحية الرجولة الناقصة في شبان الجيل !
وكان الترام قد وقف ، فاستأذن الشاب ونزل ، قبل أن يسمع بقية الشتائم التي كانت ستنفجر لو طال الحديث !
***
لم يستطع ان ينام ليلته . لقد كان يساوره القلق ويخز ضميره الندم. من يدري أن له يداً في تعطيلها عن الزواج ؟ إن خطبته لها كانت قد عرفت في وسطها كله ، فمن يستطيع أن يعرف الحقيقة ؟ من الذي لا يظن أن فصم الخطبة كان لشيء علمه عنها مما يسيء ؟ وهل الناس مستعدون أن يقدروا حقيقة الموقف ؟ وهل لديهم الوقت الكافي للبحث والمعرفة ؟ إنها كانت محسودة في أسرتها لجمالها وذكائها وزواجها ، وإنهم سيجدون في فصم الخطبة بعد عقدها مادة كاملة لشفاء أنفسهم من الحسد الكظيم . ثم ألم يكن هو الذي منعها من هذا الشاب ؟ حقيقة إنهم رفضوه أول مرة ، ولكن من يدري أنه لولا وجوده في المرة التالية .. لقبلوه ..... مسكينة .
مسكينة . ليته يستطيع اليوم أن يصلح هذه الأخطاء !
وأدركته سنة من النوم ، فوجدها . وجدها عارية تتوارى في عينيه في انزواء . ودار بينهما حوار : هو يريد أن يلقي عليها رداءه ليسترها ، وهي تمتنع وتتوارى ... ثم ... ثم تعتذر له من دعوتها لمرافقته :
= إنني كما ترى عارية ، لا أستطيع التعرض للأنظار ! ....... ثم إنني لست ......... عذراء ......!
***
كان هذا الحلم من وحي الوساوس التي ساورته في اليقظة ، ولكنه ترك في نفسه أثراً عميقاً . لقد طبع في خياله حقيقة واضحة حتى لتحس . حقيقة أليمة مؤذية ، لا يقر له من بعدها قرار : أتكون حقيقة كما قالت في الحلم ؟ أيكون امتناعها عليه لهذا السبب ..... ؟ هي ؟ هي حوريته الهاربة ؟ هي عذراؤه الطهور ؟ هي ... هي ؟
وفي مساء اليوم التالي كان في منزلهم على غير انتظار .
لقد دهشت حينما رأته دهشة شديدة ، ودهش كل من في البيت أيضاً . إن كل شيء قد انتهى إلى غير رجعة ، فما الذي يرجعه الآن ؟
وقال لهم في لهجة عميقة صادقة :
= هل أستطيع أن أستأذنكم في أن أخلو بسميرة دقائق قليلة ؟ إن لي معها حديثاً للمرة الأخيرة ! .. وكانت الحواجز بينهما معدومة – على الرغم من كل ما وقع – فلم يجد ممانعة من أحد ، فكل من حولها يتمنون رجع ما فات .
وجلس بجوارها على أريكة واحدة ، وأخذ يدها بين يديه في اضطراب ، ونظر في عينيها بشدة يريد أن يستجلي سر الحلم الرهيب . إنه ليهب نصف عمره لمن ينبئه بالسر المرهوب .
قال :
= اسمعي يا سميرة . لعلك تستغربين عودتي الآن ...
قالت :
= كلا . لقد كنت اتوقع في كل يوم أن تعود !
قال :
= نعم هذا صحيح . أتذكرين يوم أن لقيتك بغتة في الطريق بعد الانقطاع ؟
قالت :
= لقد كان منظرنا يومها غريباً !
قال :
= والآن . باختصار . أريد أن أقول لك : إنني لقيت (( ضياء )) وعلمت منه حقيقة موقفك .
قالت وهزت كتفها ساخرة :
= ضياء ! ألا تزالان تلتقيان ؟
قال :
= لا . لقد قابلته مصادفة ومعه خطيبته !
قالت بنفس اللهجة :
= لقد علمت !
قال :
= ولقد رأيت حلماً أزعجني فجئت لأستوثق !
قالت :
= متشكرة . ولكن لندع هذا الحديث ، فما عاد يجدي بعد الآن .
قال في حرارة :
= إنك لا تدرين حلمي الرهيب . إنه رهيب حقاً . إنني أكاد أجن !
قالت في دهشة :
= وما حلمك ذاك ؟
هنا تلعثم وبدا عليه الاضطراب . بأي حق يواجهها بهذه التهمة الكبيرة ؟ ألمجرد أنه رأى حلما من الأحلام ؟ وأحس في هذه اللحظة أنه ظالم لها ، ونظر فإذا عيناها تطل منهما البراءة ، فعادت إليه ثقته الوثيقة .
قال في تلعثم :
= على أي حال هبي ما قد حلمت به صحيحاً فإنني مستعد أن أغفر كل شيء . إنني أقبلك على كل وضع من الأوضاع ! ..
قالها في صوت عميق النبرات ولم يدر إن كانت فهمت . ولكنها قالت في هدوء :
= من الخير أن نبقى هكذا أصدقاء . من الخير لي ولك ، إنني في حاجة لأن أحس أن هناك صديقاً ، وأنت رجل شاعر فلتمض إلى عملك الأدبي كفنان !
قال ، وقد حسب انها تتجمل ولا تنوي ما تقول :
= لا يا سيدتي . إن كان الشعر لا ينضجه إلا الحرمان ، فأنا سأطلق هذا الشعر من الآن !
قالت في لهجة جازمة :
= كلا يا سامي .. إن عملك الأدبي أدوم وأخلد . إنك لا تزال مخدوعا في قيمتي ، إنني لا أساوي شيئاً ، ولكن لتظل هكذا مخدوعاً من بعيد لتستطيع أن تنشيء شعراً وقصصا . لقد سمعت قصصك الأخيرة في (( الراديو )) وهي قصص مؤثرة وجميلة ، إنك تتحدث فيها عن (( الحورية الهاربة )) فلتتحدث عن هذه الحورية ما استطعت . فلو أنك عرفتها على حقيقتها لما كتبت كلمة واحدة بعد الآن !
وأحس في تعبيرها نضوجا كاملا لم يعهده من قبل . نعم إنها كانت على استعداد لهذا النضوج ، وكانت بوادره تلوح في بعض تصرفاتها وبعض تعبيراتها ، ولكنها كانت أبداً الطفلة المرحة العابثة ، تفتن في وجوه الشيطنة لتغيظه وتحنقه ، ثم تنفجر ضاحكة في اللحظة المناسبة ، حتى سماها (( الطفلة الشقية )) مع ما يبدر منها في بعض الأحيان من بواكير النضج والاستواء .
فقال :
= أراك يا سميرة تتحدثين بلغة الروايات ، وأخشى ان تخلطي بين الحقائق والخيالات ، هذا الذي تقولينه يصلح للقصص ، ولكنه لا يصلح للحياة !
قالت :
= كلا! إنني أعرف الحقيقة وأعيش فيها ، إنما أنت الغارق في الأحلام والخيالات ، وإنه لمن الخير لك ألا تعيش في الحقيقة وأن تبقى هكذا في الأحلام !
وارتفعت في عينه درجات وهي تقول هذه الكلمات الأخيرة ، وزاد حرصه عليها وشغفه بها ، ولم يبال الأشواك والأحلام !
قال :
= ولكنني لن أترك كل هذه الثروة تفلت من يدي بعد الآن !
قالت :
= يا لك من رجل طيب مخدوع .. لقد غرك البريق !
قال :
= فليكن ، ولا بد أن ننتهي إلى قرار ، فقد طال الحديث . وهم ينتظروننا في الحجرة المجاورة .
خفضت بصرها ، وألقت بالكلمات كأنها صادرة من بعيد :
= اسمع يا أخي ، إنني لا أصلح لك . إن حياتنا لن تستقيم . إنني عارية ، عارية أمامك ، ولن أقف عارية أمام إنسان !
(( عارية ؟ )) قالتها بنفس اللهجة التي سمعها في الحلم ، وانتظر أن تكمل ما قالت ... ولكنها لم تقل شيئاً ، فظل يحدق فيها بشده وهو منصرف إلى صورتها الأخرى في المنام !
قالت :
= مالك تنظر إلي هكذا !
قال :
= أليس عندك ما تزيدين ؟
قالت :
= كلا ! فهذا هو قراري الأخير .
قال يغمغم :
= والحلم ؟
قالت :
= أي حلم تريد ؟ حلمك ! إنك لم تفصح لي عنه بالتفصيل .
هنا عاوده اضطرابه ... أيفضي إليها بالحلم الفظيع ؟
قال :
= اسمعي يا سميرة ( وضغط يدها بين يديه ) لقد قلت لك إنني على استعداد لأن أغفر كل شيء ، كل شيء ، أيا كان !!!
حدقت في عينيه بشدة ، وانفجرت تبكي !
رباه ! ما دلالة هذا البكاء ؟ أهي الحقيقة المفزعة تواجهها فتبكي ؟ أم هي التهمة الأليمة تصيبها فتتلوى ؟ من ذا يعطيه اليقين ويسلبه الحياة ؟
ثم افاقت لتقول :
= ألم أقل لك إن حياتنا لن تصلح بعد الآن ؟
قال :
= ولم لا تصلح ؟ وماذا جد الآن ؟
قالت :
= لا تغالط نفسك ، إنك لن تثق بي مرة أخرى ، لا يخدعنك أنك تشعر في لحظة ما بالتسامح الكبير . إن هذه اللحظة ستزول ، ستزول عندما يضمنا بيت واحد ، وعندما يطلب كلا من صاحبه تبعات الحياة المشتركة ... بربك تصور أنني كنت سائرة معك في الطريق فلقينا ضياء ! ألا تثور في نفسك المعركة من جديد ؟ ألا تتزاحم في خاطرك الصور من جديد ؟ ألا تهجم عليك هواجسك من جديد ؟ أيمكن أن تستقيم بعدها حياة ؟
......... والأحلام ؟ من ذا يعصمك يا صديقي من هذه الأحلام ؟
ثم ابتسمت وبدا على وجهها حنان الأم للطفل المخدوع !
وقال هو في ذهول :
= وأنت .. ما خط سيرك في الحياة
قالت :
= سأعيش راهبة .
قال :
= هذا يخيفني من أجلك
قالت :
= اطمئن إذن .. فسأقبل أول طارق من عرض الطريق دون سؤال أو استفهام !
وأحس بأن الموقف قد انتهى ، وأنه لا سبيل إلى زيادة كلمة واحدة .
قالت وهي تنهض وتشدّ يده :
= لنكن أصدقاء !
فأجاب في صوت خافت :
= وهو كذلك . فلنكن أصدقاء !
... أحلام .. .
كان يقول لها – أيام كانا يلقيان – إنني أستطيع أن أشم رائحتك وأميزها من بين ألف فتاة في الظلام ! وكان هذا يسرها ويستخفها ، فتحاول أن تخفي سرورها وخفتها بالتهكم وبالدعابة ، فتقول : (( إن حاسة الشم قوية جداً عند بعض المخلوقات )) فيضربها على يدها ويتضاحكان .
***
ولم يدر في ذات يوم – وهو يسير في شارع سليمان باشا نحو شارع فؤاد – ما الذي جعل هذه الذكرى تقفز إلى خاطره بعد اعوام ..
ولكنه يدري أنه اندفع على الأثر يشق زحام الخارجين من السينما القريبة وهو يفتش في الزحام عن شيء لا يتبينه في ذهنه على وجه التحقيق .. ثم كانت المفاجأة عندما استدار احد هذه الوجوه ، وحين نظرت إليه – كما نظر إليها – وفمها مفغور وحدقتاها متسعتان ، وهي تقول في دهشة :
= اوه .. أهذا أنت يا سامي !
قال في ابتسامة بلهاء :
= نعم أنا !
ومدت إليه يدها في اندفاع وصافحته بحرارة ، وهو مستسلم لا يكاد يحرك أصابعه ، وحانت منها التفاتة خاطفة إلى أصابعه في كفها فراحت تقول :
= ألا تزال وحيداً كما أنت ؟
قال :
= هذا لا يهم على كل حال .. وأنت ؟
ثم التفت إلى الطفل الصغير الذي يمسك بطرف ثوبها وينط وهو يسير بخطوات قافزة صغيرة ، وقال :
= أهذا ابنك ؟
قالت :
= نعم !
وقبل أن تنطق لفظتها كان قد انحنى على الطفل فرفعه بين يديه وتفرس في وجهه ، ثم أهوى عليه بقبلة في أنس وألفة ، وفي حنان ولهفة .. إنه يعرف هذا الوجه ، يعرفه جيدا ، وإن لم يكن رآه قبل الآن
وتابع حديثه معها :
= أهو وحيد ؟
قالت :
= نعم لم يأت سواه
وما اسمه ؟
قالت : ( سمير )
كاد يصيح من الدهشة ولكنه تماسك ، وتظاهر بالسكون ورددت شفتاه في شبه همس :
= سمير ؟ غريبة !
قالت :
= أليس هو هذا اسمك المختار
قال :
= أي نعم ، ولكن ....
ثم نظر إليها فإذا هي تنكس بصرها ، وتبدو في عينيها ظلال معركة ، فماتت على شفتيه الكلمات ، ومد يده فأخذ بيد الطفل الأخرى .. وساروا ثلاثتهم ، لا يشك أحد ممن يراهم في أنهم طفل ووالدان .
***
كان قد جرب مرة ومرة – في أيام الفراغ – أن بعض الوجوه تلفته إليها . ثم كشف مرة أن في كل وجه يلفته شبها قريبا أو بعيدا بالوجه الخالد في ضميره ، فعرف سر هذا الالتفات !
وكان قد استيقظ لنفسه وميوله ، فعرف أنه يحب من الألوان ما رآه يوما عليها ، ويحب من السمات ما يقرب من سماتها ، ويحب من الطرقات ما سارت مرة فيه ، ويحب من الأماكن ما التقيا مرة هناك ، فآمن أنه مقيد مقود ، وأنه لا يستطيع أن يتجه إلى وجه جديد .
ولم يحاول في أول الأمر أن يعرف من اخبارها شيئاً ، فاللقاء الأخير كان ينذر بالنهاية الأخيرة . وكان يرى في اهتمامه بها بعد ذلك نوعا من الضعف يستكبر عليه ولا يرضاه .
ثم انقضت فترة أخرى ، فانقلب هذا الشعور ، وبات ملهوفا على خبر من أخبارها ، أو أثر من آثارها ، وكم مرة بعد مرة دافعته يده إلى القلم ليكتب إليها أو لأحد من أهلها .
ولكنه كان يمسك نفسه من تلبيه هذا الخطر الداهم حتى يثوب إليه هدوؤه ، وحتى تذهب عنه سورته ، فبسكن إلى أن يعتاده هذا الخاطر بعد أيام .
ثم انقضت هذه الفترة أيضاً . وعاد لا يريد أن يعلم من أخبارها شيئاً ، لا لأنه لا يريد أن يعلم ، ولا لأنه يستكبر على أن يعلم ، ولكن لأنه يشفق من شيء يتوقعه . ولا يتصور كيف يكون وقعه على نفسه إذا كان !
وكان له في كل يوم لقاء معها ، ولكن في الخيال ، وحوار يدور بينهما ، ولكن في الخيال . وكثيرا ما استيقظ لنفسه ، وهو يبسم أو يتجهم ، ويشير بيديه وقسماته ، بينما هو منفرد في البيت أو في الطريق !
كان يحس أنها له وحده ، ولا يمكن أن تكون لأحد سواه . وكان يشعر أنها اعطته وحده مالا تستطيع أن تعطيه أحدا سواه . وكان يتصور أنه ترك عليها ظله فلم تعد تصلح لأحد سواه . وكان يعتقد أنها ملكه وحده ، ولو لم يكونا رفيقي حياة ,
لقد بنى في أحلامه عشها المنتظر ، ولقد مضى بخياله يطوي الأيام ، ولقد عاش في هذه الأحلام عيشة الواقع ، واستغرق في هذا الخيال حتى لم يعد يفرق بينه وبين الحقيقة !
وما الفرق بين الخيال والواقع ، إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن ، ويترك آثاره في النفس والحياة ؟
وما الفرق بين الحلم والحقيقة ، وكلاهما طيف عابر ، يلقي ظله على النفس ثم يختفي منه من عالم الحس بعد لحظات ؟
على أية حال ، لقد عاش أحلامه ، وجسم خياله ، فكانت هذه المخلوقة رفيقة حياته ، ومعها عاش في العش الدافئ ، ومنها بلا شك كان له طفل !
طفل وحيد .... فما كان يتصور أن تلد له أكثر من طفل واسمه (( سمير )) ، فما كان يتصور أن يكون اسمه غير سمير . وهو طفل من لحم ودم ، حدثها عن شكله وسمته ، فهو طفل معروف السحنة واضح السمات !
هو سمير .. هذا بعينه الذي يراه الآن !
***
مر هذا الشريط كله في ذهنه ، وهما يدلفان إلى محطة الترام ، في غير انتباه . وجاء الترام ، فصعدت إليه في حركة آلية ، وهو يساعدها ، ويُصعد إليها (( سمير ))
وعندما تحرك الترام أدركته صحوة مفاجئة ، ونظر فإذا هي كذلك تلوح له بمنديلها ، ثم تجفف به قطرات من الدموع !
وفيما يشبه الذهول وجد نفسه يعدو خلف الترام .. ثم ثقف فجأة كأنما سمر في مكانه :
= ماذا ؟ إلى أين ؟ إنها ليست لك الآن ! إنها ذاهبة إلى هناك !
وأحس بالدوار ..
ولكنه أفاق :
= سمير ؟ غريبة ! ... أليس هذا هو اسمك المختار ؟
= كلا ! إنها لك . لك أنت وحدك برغم كل ما كان . لقد ألقيت عليها ظلك ، لقد طبعتها بطابعك ، لقد وسمت طفلها باسمك الذي اخترته ، إنها لك ، ولن تصلح لحد سواك !
= أحلام !
= أحلام ؟ وما الفرق بين الحلم والحقيقة إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن ويترك آثاره في النفس والحياة ؟
= خيالات !
= خيالات ! وما الفرق بين الخيال والواقع ، وكلاهما طيف عابر يلقي ظله على النفس ثم يختفي من عالم الحس بعد لحظات ؟ .............
تمت
وبحمد الله وتوفيقه