الزمن الجريح
نعماء المجذوب
(16)
ترددت أحلام بين إغلاق بابها عليها والعزلة عن دنيا الناس، كرهت السلام في هذه البيئة العربية، نفسها تتوق إلى رؤية المدافع، والمصفحات الحربية تجرح الطرقات، تتجه نحو فلسطين، مصفحات من المحيط إلى الخليج، أمة العرب الواسعة.. وما تلبث أن تطوي تمنياتها كحجر هوى، كتلة من تمنيات ومشاعر.
كانت الأماني تخفف من حدة بأسها، واليأس تبدده الأفكار والأمنيات، وشعورها يزداد خصوبة في أحضان الليل مع النفس، وفي أحضان الطبيعة، وعلى صفحات الورق بريشتها الطيعة، وأفكارها المنبثقة من الذاكرة بمعان وراء الألوان.
كان لكل فكرة ظلال، قد يستعصي بعضها، فتتحداها كغيمة أخفت وجه الشمس.
قالت ليلى:
- الأيام تمر بطيئة، ولا خبر عن سمير.
بمرارة قالت أحلام:
- والهواجس تعركني.
قالت الأم:
- أراك كثيرة الذهول والتفكير، انسيه يا ابنتي، امسحي صورته من ذهنك، لقد خدعك بعذوبة حديثه.. هكذا حال الشباب البعيدين عن الله، أنت تعذبين نفسك، وتعيشين في وهم، أفيقي منه، عودي إلى مرحك وعفويتك.. ودعي ما تتمثلين في ذهنك من مبادئ مدمرة بعيدة عن أصالتنا.
- أمي: دعيني في حالي، هواه يسكن في كياني، لا ينفك عني، ولا أنفك عنه، أتلهف إلى لقياه، كلامه معي كان متدفقاً له وقع.
- لقد سحرك، هذا هو السحر بعينه، سحرك بحديثه وأفكاره الغريبة.
خبطت على وجهها وهي تقول:
- يا ويلتاه، ماذا أقول لعمك إذا درى بك، وماذا يقول لنا؟.. لم لا يتقرب فيخطبك؟
- صدني واعتذر.
قالت ليلى:
- دعيها يا أمي، سنذهب اليوم إلى المعلمة "نادية" أختنا في الهجرة مع بعض الصديقات.
* * *
في مثل هذه الجلسات كانت قصص تروى، وأحاديث تنشر، نقلت من الوطن، وحكايات مسلية، وقد يتكلم بعض الحاضرات في شئون الدين، وتلقى قصائد الحنين، وتضج الجلسة بالنقاش، يبحثن عن حياة جديدة في الغربة، تصلهن بفلسطين.. كانت أحلام تبدو في شرود، الحضور في واد، وهي في واد آخر، ومن حين لآخر تبدو ملامح التمرد على وجهها، وأحياناً أسى وارتباك وشحوب، انعكاس لحالة التوجس.
استفاقت من ذهولها على صوت ليلى تقول لها:
- لم الارتباك وأنت بيننا؟ دعي مشاعرك تعبر عن حبك للوطن، لتكوني أقل تشوشاً، لا تفكري بشيء آخر وأنت مع المحاضرات.
- الشيء الآخر أرتحل معه في الليالي، أما هن فأفكر مثلكن بالبغاة وهم يحاصرون يافا، وعكا، ونابلس، والقدس، وكل مدن وقرى فلسطين، ويحيلنا التفكير ونحن هنا عجزاً بلا هدف، يسوقنا ذل التهجير، من جبل إلى سهل.. الأطفال هناك يموتون بالرصاص، أليس سكوتنا ذلاً؟
- الحجارة بيد الأفطال تحذف السكوت والصمت.
- والسلاح، أين السلاح؟
- في المخازن خلف الأقفال، لا يسمح باستعماله.
- وكرامتنا؟
- تغوص في الوحل؟
- والنساء تصرخ (واعرباه)؟
- لقد تعثرت أقدام المستغاث بهم بالحواجز.
- أتكفي الحجارة؟
- أصواتها مجلجلة تدوي في الأسماع.
- فيها وعد بالنصر المقدس.
- هل نعود إلى البيت؟
- البيت سجن، شديد الغرابة.
أتساءل:
- لم وضعنا عمي في هذا البيت البارد؟.. رجاء لا أريد أن أعرف الجواب.. لأنه يقدم لنا كل ألوان الأعذار، ونثير غضبه، ويتهمني بأنني معقدة، غيور،.. ألا ترين ذلك؟
في الطريق كانتا تتسامران، بتأثر قالت:
- عمي حرمنا أشياء كثيرة.
بجد قالت ليلى:
- أريدك أن تحسي بالقليل من العرفان بالجميل، لو بقينا في نابلس، كيف كان مصيرنا ونحن نساء؟
ابتلعت ريقها، لوت الحديث، قالت:
- لم نستغرب أفعال اليهود، ولا داعي للتعجب، أزلنا كل إشارات التعجب من أذهاننا،.. صمتنا، فاستنكر الكثيرون من غير وطننا مواقفنا.
- خدعهم اليهود، وبنوا في نفوسهم آمالاً عريضة، مزروعة بحقوق اليهود في زعمهم بأرض فلسطين، ونتساءل بمرارة:
- كم مرة لدغنا؟
- مراراً، ولا نزال على استعداد لتلقي اللدغ.. استدرجنا إلى فخاخ عدة، فلم نعتبر، وهم لم ينتهوا، وجعلوا فلسطين حقل ألغام.
- لا ندري، إلى متى؟.. هل يلقى بشعبنا في مذبلة التاريخ؟
- علينا أن نعتبر بدروس الماضي، ونستجيب لنداء الإيمان، ونحن مغمورون بمآسينا.
بتأس سألت:
- هل غمر الموج صيحات نوح؟
ضغطت أحلام بكفيها على صدغيها، وصرخت:
- لم يعد لدي القدرة الذهنية على التفكر في المواقف الجديدة التي نتعرض لها، وأيضاً..
- أدري... وغير قادرة على التخلص من معتقداتك، ملكتها، ورأيت فيها المخلص الوحيد.. لم يكن ذهنك خالياً، أو صفحة بيضاء، الظروف المختلفة والأحداث تظهر قدرتك على الإبداع، والأصالة عند ممارستك للرسم.
كانت ليلى في تطور ذهني، تميز الخير والشر، والصواب والخطأ، وتدرك الواقع الحاضر، وتوقع المستقبل، فكانت قوية في أفكارها ومثمرة.
لمح العم خيري شحوب أحلام، سألها عن السبب، بتأثر بالغ قالت:
- تسائلني يا عمي عن شحوبي، إنني أعاني من عذاب، وقلبي معنى، وريشتي ترتبك في التعبير عن انتمائي، وتعجز عن رسم مشاعري، والتياعي، والعواصف تدمدم في دمائي، أعيش في عالم مزيف بالنفاق والرياء.
- وبالفساد أيضاً،
- لو تدري ما بنفسي.. فأنا أسير بتوجس وعناء، أصارع أحزاني الملتهبة حيناًَ، وتصرعني حيناً آخر، أحاول أن أقهر كل أوهامي..
- نحن هنا نعيش في أمان، ولله الحمد، فلم التفكير بالبعيد؟
- لا أبيع وطني بكل ما في الدنيا، فكأني هنا في سجن رهيب.
- الشعب في فلسطين يناضل بجسارة.
- بالحجارة، أليس كذلك؟ هل تفكي الحجارة للنضال؟... ليتني أبذل رحيق عمري في وطني.
بهدوء قالت ليلى:
- المآسي السوداء تقبل إلينا، ولكن نفوسنا تترقرق بضياء الإيمان، حسبنا الله.. فالإيمان في القلب ربيعه، يملؤه بالصفاء،.. نحن أمة أبية تستعصي على اليهود وغيرهم، لا تذل ولا تخضع إلا لله وحده، ولا ترقى إلا به، ولا ننتمي إلا إليه، في كنفه تسمو أرواحنا في ألق، وتسبح في نقاء.
التفتت إلى أحلام، وقالت:
- حرري نفسك من كل قيد غير قيد الإسلام، خلقنا نحن العرب لنلبي نداء الله.. هذه الدنيا قصيرة جداً، مستقر مؤقت، ومتعة زائلة، لا تجعليها توهن من شموخك، ولا تتحسري على ما فاتك منها.
- لا أستطيع، خروجي من مبادئي هو خروج من جلدي.
- هراء، الإيمان بالله فيه العزة والمجد، وهو السبيل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
سألت أحلام ليلى:
- أحقاً يا ليلى تشعرين بما تقولين؟
- كل الشعور، إيماني دليلي في وحشتي، وظلمتي، وهو الآخذ بيدي إلى بهاء الفجر.
- من أين لك هذه الأفكار؟
- من كتاب الله سبحانه، ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- هل يمكن أن أكون كذلك؟
- لم لا؟ بالإيمان تحيين بسلام، يخفق به فؤادك.
انهمرت الدموع من عيني أحلام، ليس لخشوع، ولكن من اضطراب، ولما يدخل الإيمان قلبها.
بحب منهمر، وحنان نظر إليها العم، وقال:
- أسفاً يا ابنة أخي على هذا الجمال الباهر، وتبقين غارقة في الأوهام! فإلى متى وأنت كذلك؟.. أما آن لك أن تنهضي، وتفكري في إكمال دراستك الجامعية؟.. لقد تجاوزت مرحلة المراهقة، فإلى متى وأنت تسبحين في الأوهام والخيالات؟.. ذكرياتنا تراكمت عليها الأتربة، واحتواها النسيان، ولا تزالين تتعايشين معها، ولا تعملين على إنقاذ نفسك منها، لتقومي بدورك في الحياة، كإنسانة سوية.
- صعب جداً، أثر الصدمات يستحوذ علي، ويحول بيني وبين تغيير نفسي.
همست ليلى في أذن عمها:
- أحلام تمر بأزمة نفسية حادة، بسبب الأوضاع التي تمر بها، ولا ينقذها من هذه الهوة السحيقة إلا بإعادة صياغة نفسها.. ذلك يحتاج إلى وقت.
دعت لها الأم قائلة:
- اللهم يسر لها الزواج بمن يحميها، وينشلها مما هي فيه.
أطرقت أحلام، لم تهمس بكلمة، سألت نفسها: ما المانع أن أبوح بسري إلى أمي؟.. ذعرت، صوت في داخلها قال: لا، لا.
نصحها عمها قائلاً:
- كلنا نعيش في المحن،.. عودي إلى طبيعتك المرحة، وفكاهتك.. الإنسان يحتاج دوماً إلى النكتة، والسخرية، والضحك، لمجابهة الأعباء ومعاناة الحياة اليومية.
قالت أحلام:
- أبادر بأن أضحك على كل شيء، خشية أن أكون مضطرة للبكاء على كل شيء.
قالت ليلى:
- نرى غيوماً يهطل منها المطر، وينبت الزرع.. هل السماء تكون في صحو دائم؟.. الأيام تواسي المجروح، وتطفئ اللوعة المتوهجة.
بيأس قالت أحلام:
- هل تلتئم أوراق الوردة بعد أن تفرط؟
بتفاؤل قالت ليلى:
- ستنبثقين كوردة جديدة.. وستبنين عشاً للزوجية، فيه الحب والمرح يرفرفان في أرجائه.. فقط كوني مع الله، اذكريه بالصلاة والتسبيح، أطلقي نفسك من عقال الأرض، تموت الذكريات السوداء، وتحيين عمرك بسعادة.
- ومبادئي التي أخلصت لها؟
- خارجة عن ديننا، فيها انقلاب للمنهج الذي رسمه الله لنا، به نحيا، وبه نموت.
- إذن نأخذ من اليسار بعض المبادئ، وندع من الدين ما لا يفيد في الظرف الراهن.
- ماذا تقولين؟
كانت صرخة مدوية من العم، أتبعها بقوله:
- إنه لكلام خطير جداً، لا يرضي الله سبحانه أن يجعل المسلم لحياته مناهج متعددة المصادر، بعضها من كتاب الله، وأخرى من وضع البشر، مهمة التفكير البشري أن يستنبط من كتاب الله أحكاماً تفصيلية، تطبيقية لأحداث الحياة المتجددة، وأقضيتها المتطورة بالطريقة التي رسمها رب العالمين، وكل تصور آخر هو تصور غير إسلامي، تنضح به الجاهليات، وينكره الدين الإسلامي.
قالت أحلام:
- يفسر البعض ما جرى في أعقاب النكبة عام 1967، والهزيمة التي حاقت بالعرب أن سببها الإسلام، وإلى إيماننا بالغيب الذي هو سر فشلنا، وسبب عجزنا.
بحدة قالت ليلى:
- لا يعترفون بأن ابتعاد الأنظمة عن الإسلام هو السبب في الهزيمة. للأسف لا تزال بعض الأقلام تعيد الحكاية والقصة نفسها. قال العم:
- التخلف. من مقتضيات الحقيقة أن نعرف أن الله هو الذي خلق، وهو الذي علم، وهو الذي أكرم، وهو الذي رسم منهج الحياة، وعلينا أن نشكره سبحانه، ولكن ما يحدث غير هذا، انحراف عن الحقيقة.
المعرفة بالإسلام، تمنح صاحبها قوة هائلة للسيطرة على غيره. أرأيت كيف أن الإلحاديين يبعدون الناس عن الحقيقة وغايتها.
قالت أحلام:
- إنهم يدعون إلى التطور، والحداثة.
- ونحن لنا الحق في رسم تصوراتنا الخاصة للحداثة المرتبطة بتراثنا، وتقاليدنا، فلا نملي عليها أنماط الحداثة الغربية، ولا نفرض عليها مبادئها الغريبة باسم الحداثة.
سألها العم:
- لماذا تهزين رأسك، يبدو أنك غير مقتنعة بما نقول.
- نوعاً ما.
باستنكار قال العم:
- الإلحاديون يستنكرون المبادئ المنزلة من السماء، وينهون عنها ويدعون إلى الفساد، وإلى الحرية المطلقة، بما فيها دعوة المرأة إلى التخلي عن الحجاب، ويدعون إلى التبرج، والعري، ينهون عن التمسك بالقيم التي فيها عزنا، وكرامتنا، وحضارتنا العظيمة.
قالت أحلام:
- ما يدعون إليه فيه مصلحتنا نحن النساء، فالمرأة لا تزال تعتقد أن دورها في الحياة هو القيام بالأمومة، وأعباء البيت من كنس، وطبخ، وغسل.. إلخ.
ثم باستهزاء قالت:
- صارت أماً عفا عليها الزمن.
قالت ليلى توضح:
- المرأة كانت كخولة بنت الأزور، كانت في ذلك الزمن مثالاً لكل امرأة في الإسلام، تلك الفارسة الشجاعة، التي نزلت ساحة المعركة إلى جانب خالد بن الوليد وهي ملثمة، فلم يعرفها أحد، واعتقدها خالد فارساً اندس في جيشه.. زمن العرب والمسلمين كان زمن الخنساء المرأة الأولى في الجهاد، التي ربت أبناءها لتقدمهم إلى مجتمعهم أبطالاً، أشداء وشهداء.
قال العم:
- ما عادت الأنوثة بإضعاف عقول بنات المسلمات، أرأيت كيف أن الكثيرات اللاتي لم تتح لهن الفرصة للتعلم، أو العمل يلتحقن بركب العلم في أي معهد، حتى ولو في البيت، وتنتشر الثقافة بين النساء، وتكن أكثر التصاقاً بالمجتمع وظروفه، ومشكلاته، وتشاركن في الحلول الممكنة لها؟!
قالت ليلى:
- فما المشكلة التي تعانيها المرأة؟.. لا أجد أية مشكلة تواجه المرأة.. أو أنكم بأفكاركم تدفعونها إلى الحرية الفاسدة؟
قال العم:
- أؤكد بأن وجه الأم هو وجه الأمة بأسرها، تفسد الأمة إن فسدت المرأة، وتصلح إن صلحت.
اعقلي يا أحلام، إنهم يمزقونكم من الداخل، ويزوقونكم من الخارج، تمهيداً للتحكم فيكم، ثم لبناء إسرائيل الكبرى.
قالت أحلام:
- ما تقولون شيء رهيب.. لا أقتنع.. ما هكذا يقول رائدنا.
نهرها العم قائلاً:
- كفاك عناداً، وشموخاً، وتشبثاً بآراء واهية تفسدين بها نفسك، وغيرك.
إنك تتعمدين الخطأ، وتعتزين بالخاطئين.
قالت ليلى بهلع:
- الشبان يقبلون برغبة شديدة عليها.
أجاب العم:
- يحبون كل جديد.
قالت أحلام:
- التجديد يكون في إزالة العوائق.
بتهكم قال العم:
- إنك تستخدمين مصطلحات اليسار، وطريقة جدالهم في الباطل.
(17)
نظرت العمة إلى أحلام بحنان، سألتها:
- إنك تبدين تعبة، مرهقة هذه الأيام، لم ذلك؟
- أفكر كثيراً يا عمتي؟
- التفكير بما لا جدوى منه يلقيك في يأس.
أطرقت، وبصوت هامس حدثت نفسها قائلة:
"لو تدري عمتي بي لذبحتني"
تابعت العمة:
- اسبحي نحو شاطئ الأمان، ترتاحي، وتريحي.
- شكراً يا عمتي على اهتمامك، أنت بمثابة أبي الذي حرمته.
- شكراً على ثقتك... كنت تظنين بي السوء حين تركتكم إلى بيت عمك خيري، امسحي هذه الوساوس من صدرك، فأنا لا معيل لي غير عمك.
غشت عيني أحلام سحابة حزن، وقالت:
- فهمت، لست امرأة أنانية، أعذرك.. أذكر عندما كنت طفلة، كنت تفرحينني بما تحمله يداك من أشياء تبهجني.. ثم اختفيت من حياتنا، فلم نعد نراك إلا قليلاً.. أخبريني عن السبب.
تنهدت العمة بعمق، وحدثتها قائلة:
- كان زائرو الليل يطرقون بابكم على حين غفلة، وحينما تغرب الشمس كان ينتابني خوف، فأردد دعاء الخوف، كانوا كأشباح خيالات، غرباء، يصلون من مناطق بعيدة، ويشهرون السلاح.
- لماذا كانوا يأتون إلى بيتنا؟
- يطلبون أباك، لأنه كان ثائراً.. كانت الطبيعة أحن علينا من زائري الليل، أحببت النهار، لأخرج من عالمي المغلق في الليل، إذ تختل رؤاي، وتتبعثر أفكاري.
- فهمت.. لذلك هربت من عندنا.
- خشيت على نفسي.
- ولم تخشي علينا.
اختفى صوت العمة في ضوضاء البيت، صوت منال يختلط مع ضحكات طفلها وهي تجري وراءه، ثم يدخل العم صامتاً، تساءلت أحلام:
"هل تعب عمي من الكلام مع الآخرين؟ أم هو مليء بالكلام سيفرغه فيما بعد؟
قالت زوجة عمها لزوجها:
- يقهرني صمتك، أم أنك خلقت من حجر أصم؟.. قل شيئاً ولا تبق صامتاً.
- ماذا أقول؟
- قل خيراً، إنني ضجرة، أريد أن تقول شيئاً بكلام جميل، لا مجرد قول، بأسلوب له لون، له طعم، له لذة..
نظرت إلى من حولها بطرف خفي، وقالت:
- لا مجرد أصوات تقتل الفراغ.
بنبرة ساخرة قال:
- أريد كلاماً يقتل فراغ النفس.
أكره التكرار، أمله، ويملني، أريد حديثاً ملوناً، فيه تغير وتنوع الفصول، وإلا فهو حديث صامت، بل الصمت خير منه.
كان كلامها موجعاً، فيه وخز كالشوك، تسللت العمة إلى غرفتها، تحدث نفسها قائلة: هذا أفضل.
كان العم خيري يسير طويلاً حين يقعد الآخرون، ويبدأ بالاستيقاظ حين ينام الآخرون، وينتابه صمت حين يثرثر الآخرون. كان يذهل عن وقائع الحياة الصغيرة اليومية التي تحدث في بيته، وتحت قدميه، ثم يأتي صوته بنبرة ساخرة، قائلاً:
- الحياة لا تعيش في الفراغ، وأمة من المحيط إلى الخليج تتكاثر جراحاتها وتتعدد، وتصرخ بأعلى صوتها، وخصوصاً أنها أمة رسالة مؤتمنة عليها، قد تكبر كما حصل في حقبة من الأزمنة، وقد تغفو، ولكن لا تسقط، ولن تموت أبداً، فلكل حصان كبوة، المرحلة القادمة حبلى بالمفاجآت.
سرحت أحلام بذهنها، وهي تسمع من عمها كلاماً جديداً، ما اعتادت عليه، وبدهشة تساءلت:
"أهو الذي أثر على لليلى، أو هي التي أثرت فيه؟.. لست أدري.."
كانت ليلى قد أقبلت من العمل، وسمعت طرفاً من حديث عمها، قالت:
- الأخوة بين العرب لا تزال أواصرها قوية، لم تغب، ولن تموت، ثم بتصميم قالت:
- لن نجعل الألم قاتلنا.
نظر العم إلى أحلام، وكأنه يخصها بكلامه قائلاً:
- إننا من أمة ليس للفرد فيها حق العيش بحرية مطلقة، أمة لها منهج إلهي، نتقيد بتعاليمه، نكره المبادئ الغريبة عنا.
قالت أحلام:
- فهمت قصدك.. إنك لا تحبني، ولن تحبني، وتتمنى أن تراني أغرق، تريد أن تنتقم من أبي بشخصي، لم تكن متفقاً معه في يوم من الأيام، كنتما تتعاملان كعدوين.
- انظري إلي، أريد أن أتحدث معك بصراحة.
- لا أستطيع.
ثم هربت من وجهه غاضبة إلى البيت، والخوف بلبسها.. في البئر رأت وجهها، باستنكار تساءلت:
"أزائر يلوح لي في صورة وجهي فوق صفحة الماء؟
تحدثني الصورة بألفة وسهولة، ارتياح يشرب في نفسي، ارتياح عميق يشدني إلى البئر.
في سكون البئر وسكون الهواء الهارب من العاصفة، هل تختفي الأشياء، وأنا في قاع البئر؟
هل تختفي الشطآن والأمواج؟
هل تختفي وجوه الناس؟
الملل من الحياة حبب إلي أعماق البئر، فيه راحة، اطمئنان، تختفي الأسرار في عمقه، لم ترها العين، لم تسمعها الأذن، الاختفاء راحة، لا رهبة للاختفاء.. الأيام تمر بطيئة في عمري، والقرون تمر بطيئة والعصور تتسلل بطيئة عبر القرون، وفي طياتها عواصف وأعاصير.. ليس الأعاصير غريبة على العصور".
بتشاؤم تساءلت:
"أنا أسبق الغناء للقائه، أم هو يسبق للقائي؟"
لبثت برهة، سرح ذهنها، توقف بعيداً بلطف.. رأت عجلات الأيام تدور، ومن بعيد تتوقف.. تساءلت:
"البئر.. هل نلتقي في عمق البئر أنا وهو؟.. ربما".
تنهدت بألم.. نطقت بصوت تتساقط فيه الكلمات، تتوهج بالأنات.. أحست بحاجتها إلى حب الأب، وحنانه وعطفه، وسؤاله عن حالها، ورعايته، واهتمامه.. شعرت بحاجتها إلى صدره، إلى كفيه، لم تجد ذلك كله لدى عمها، رأت أن المشاعر ليست مجرد كلمات فارقة، هي موجودة، ولكن الأحداث والمواقف تحرقها، أو تمسخها.. ثم تذكرت كلمات أمها لها:
"كبرت يا ابنتي، لم تعودي طفلة، تجاوزت الثالثة والعشرين.."
أغراها جمال الطبيعة ورقَّتها في الخروج، لتزيل عنها بؤس وشقوة الحياة في هذا البيت.. رأت نفسها كحامل نعشه، يسير نحو قبور الذكريات.
كان غياب الحب لديها يعني الموت، سمير هدم كل ما بنياه، وهجر كل ما حلما به، وطعنها في قلبها، ورماها بسهم الغدر، وترك روحها تنزف، وليلها في سهد وأرق.
جلست عند صخرة تتأمل.. شاهدتها رفيقتها "مليحة" سألتها بلهفة:
- يبدو أنك تحبين هذا المكان.. ماذا تفعلين هنا؟
- يمكن أن تعرفي وجهة فتاة، وجدت نفسها فجأة في بيئة غريبة ألا تتعقد؟ ما ذنبنا حين نشرد؟ وما ذنب الأطفال يشردون؟
- كلنا كذلك، شردت مثلك من عكا.
- أبي كان يحبني وأحبه، أتساءل أحياناً: لم تلحقنا مرارة الفراق؟ وأسأل عن ذكرياتي، لا يمكن أن أنساها، لا أنسى أيام طفولتي في نابلس، حين كانت آمالي البكر تتعلق ببرعم زهرة. ذكريات خالطها الدمع بالشوق والألم.
- كلنا في الذكريات سواء.. فلسطين حصان جموح، لا يمتطيه إلا الفارس الشجاع أمثال صلاح الدين، مبادئ الاستعمار والرواج لها لا تخدع إلا بعض السفهاء الذين يظنون أن الأمر قد استتب للمتشدقين الصهاينة، لا يقر لهم قرار أبداً إن كان في الماضي أو الحاضر.. فكم تعاقب الغزاة على الأرض المقدسة، ثم ارتدوا خائبين، سواء من الرومان أو غيرهم؟!
ثم بفخر استعادت مليحة الزمن الماضي قائلة:
- كان لصلاح الدين جولات فيها، استقام على ظهر الجواد الجامح بحنكة ودربة ومهارة، ورجولة وعقيدة.
سألت أحلام:
- واليوم ونحن في نكبتنا هذه، من يجرؤ على اقتحام ظهر الحصان، بعد أن أسلمه الخائنون وقطعوا أوصاله؟.. يهدمون كبرياء فلسطين، ويخربون البيوت، ويمسحون التاريخ، ويظهر لؤم الصهاينة وقسوتهم.
بتفاؤل قالت مليحة:
- ستبقى فلسطين أبية عصية، تنتظر الفارس المقدام لقيادة الجواد.
بيأس قالت أحلام:
- في هذه الأيام نعيش وسط عاصفة مكثفة من التبشير الإعلامي المسموم، الهدف منها سرقة القدس، والمسجد الأقصى، وتهجير السكان، وتمزيق فلسطين قطعاً متناثرة، وجعل حق العودة سراباً.
هزت مليحة رأسها وهي تقول:
- هكذا اليهود، لا يغيرون مسارهم، وينشرون الرعب في ربوعنا.
تساءلت أحلام:
- والثوار ما موقفهم؟
بفخر قالت مليحة:
- موقفهم في فلسطين واحد، وهو الاستشهاد للدفاع عن الإسلام، والوطن.
- والحرية؟
- أي حرية لا تأتي إلا على أسنة الرماح.
- والعدو الرابض في أرضنا؟
- سيكون مجرد شبح عابر، كالطيف الأسود في ظلام مليء بالظلم.
- أيمكن هذا؟
بثقة قالت مليحة:
- كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله.
(18)
كانت ليلى تعمق صلتها بالله، وتبني مثلاً عليا منسجمة، وقريبة من الشائع في محيطها، وكانت تستلذ بعملها في المستشفى تستهويها الخدمات الإنسانية، ومساعدة الآخرين، وكانت أمها المريضة ميداناً لشعورها هذا، لكسب رضاها، وارتياحاً لنفسها، سألتها أحلام:
- أحقاً أنت راضية عن نفسك؟
- كل الرضى، لو قدر لي أن أختار حياتي من جديد، لما اخترت إلا هذه الحياة، التي ارتبطت بها في بداياتي، ولا أجدني أتراجع عنها.
سألتها أحلام:
- والأفكار التي تنادي بالتغيير والتطور؟
- إنها جزء من مؤامرة للتعتيم في العالم العربي على قيمنا، وللأسف الجميع مصر على الصمت.
عضت أحلام على شفتها، هل كان غيظاً أو قهراً؟.. لم تكن تدري حين راحت تدور مع سمير في أفكاره التحررية، وهما بين الأزهار والأشجار، والعيون تراقبهما، حتى أصبحت قصتهما ذائعة الصيت ضمن البيئة المحافظة.. ثم كادت تسقط من فرط الاضطراب، بخوف تساءلت:
"كيف أدفن خطيئتي بعد أن سقطنا فيها؟
هل أعترف لأمي ولأختي؟.. ربما في يوم من الأيام".
ربتت ليلى على كتفها متسائلة:
- مالك؟.. وجّهي عقلك نحو مشكلتك، اهتمي بحلها.
- هل تدرين شيئاً عن مشكلتي؟
- الفشل في الحب، أليس كذلك؟ اذكري الله، وتكيفي مع المحيط.
- لا أقدر أن أذوب بالتقاليد، أراني كل يوم أزداد إصراراً على موقفي.
بعجب سألتها ليلى:
- لم تعرضين عن ذكر الله وكأن في أذنيك صمماً؟.. أدعوك إلى الهداية، وتتشبثين بأفكار مظلمة، وتبتعدين عما ينفعك.
كانت الأم تسمع تحاورهما، ضحكت ضحكة جافة، ثم قالت:
- إذا كنت لا تخشين عقاب الله، ألا تخشين كلام الناس، نحن في بلد له قيمه، تتحدينها بحريتك المطلقة.
- ناس تافهون.. لا أهتم، لي مبادئي في الحرية، وكثير من الشباب والشابات يقلدونني.. أريد أن أجري، أن ألهو على هواي.
- أفكارك غريبة، حرية بلا قيود، وتنادين بتحرير فلسطين، وتبكين عليها.
- التخلف هو السبب، لماذا نتخلف، وينهض المستعمر؟
كان الاتجاه المحافظ ذلك الزمان يتراجع، وفي حال انحسار وتقوقع، وكان الاتجاه التحديثي يدعو إلى اللحاق بالدول المتحضرة، والمتقدمة في الغرب، وكان الكثيرون يتجاوبون معه، كما لو كان جزءاً من فلسفتهم في الحياة.
في ذلك الزمن كان عموم الناس يشعرون بأنهم مقبلون على تغيرات كبيرة تمس كل جوانب حياتهم، وأنهم سوف يفقدون الكثير مما ألفوه من عادات، وتقاليد، وأوضاع معيشية، وأشياء أخرى صغيرة وكبيرة، ولا يعرفون للحياة من دونها طعماً ولا معنى.
بالرغم من الإغراءات المتنوعة التي كانت تلوح لهم في الأفق، وتعدهم بمستقبل جميل يضع حداً لشظف العيش، والحياة التي كانوا يعانون منها بعد رحيل المستعمر، إلا أنها ما كانت لتُحجب عنهم التخوف من المجهول الذي سينقلهم من حال عرفوها وألفوها، إلى حال أخرى لا عهد لهم بها، لذلك كانوا بحاجة إلى ما يسكن روعهم، ويطمئنهم، فوجدوا ضالتهم في تطوير عاداتهم وتقاليدهم في بيئتهم الأصيلة، وهذا ما يكشف سر إقبال الشباب على التغير، وسر ارتياحهم لها، ويتساءل الكثيرون:
هل يا ترى سيحافظون على القيم؟
ويقولون:
التخلف يسخر منهم، وهم يسخرون منه، ولا يزال يسخر ويتحدى الضجة الهادرة.
- لماذا كل ذلك؟
أجابت المعلمة مليحة ليلى:
- نريد أن نزيل العائق بين الكلام المنظور والتطبيق، بين ما نفكر وما نقرر، بين ما نقول وما نفعل في حياتنا، وفي مواجهتنا للاحتلال في فلسطين، ينبغي أن نرتدي رداء الأمل والعمل، فلا نتمسك بالأمل وحده، وإلا كان سراباً ووهماً، ثم يذبل ويموت.
بإيمان قالت ليلى:
- نرجو ألا نكون ممن شملتهم الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون مالا يفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون).
- التناقض يورث اليأس والشلل.
- ينبغي إعداد القوة، والتحلي بإرشادات ربنا، وتوجيهاته، ولا نجعل كتاب الله مهجوراً بحيث يصل إلى أسماعنا، ولا يبلغ عقولنا، نحتاج إلى الاتحاد في العقيدة والمنهج.
سألت أحلام:
- وأفكارنا التي تدعو إلى التجديد؟
برزانة أجابت مليحة:
- التمسك بأفكار الإلحاديين بُعْدٌ عن أصالتنا، وتخلف، واليقظة والتغير يحثاننا لتجديد عقيدتنا، وحمل راية التوحيد من جديد في هذا الزمن المليء بالفتنة والضلال.. ولا نستبعد إشراق الكواكب، لتزيل بضيائها وجهادها دياجير الظلام.
قالت ليلى:
- ولا قنوط ولا يأس مع الإيمان، بل نظرات صائبة، وآمال مترقرقة، وتورق الأرض بدماء الشهداء، وتثمر جيلاً آخر من الأبطال، فرحمة الله محيطة بالمؤمنين.
سألت أحلام:
- وإن قلّ الزاد والمؤونة.
أجابت ليلى.
- وإن قل وإن طال الزمن، فسيبقى جنود الله يزحفون فوق الأرض المقدسة، ويتغلغلون في أمن اليهود ليضرموه ناراً، والقلوب المؤمنة ترنو إليهم شوقاً من وراء كل أفق.
قالت مليحة:
- مما يدعو إلى العجب العداوة والبغضاء قائمة بين اليهود، ونصارى العرب منذ بعثة المسيح عليه السلام، ونجد النصارى الغربيين في عصرنا هذا يساعدون اليهود لبناء دولة لهم في فلسطين.
يتبادر إلى ذهني سؤال: هل بعملهم هذا يريدون أن يتخلصوا من اليهود، أم يريدون أن يتخذوهم سلاحاً يشهرونه ضد المسلمين؟
قالت ليلى:
- ربما يكون هذا، وهذا معاً.
- لا نشك بأنها قصة منسقة بين الجانبين، يحدوها الخوف، فالذئاب لا تأكل الذئاب، وفلسطين غدت مغارة للضباع والسباع، وجحوراً للأفاعي.
بثبات قالت مليحة:
- لا يرد الوطن السليب إلا الجهاد في سبيل الله، لنا في آبائنا، وأجدادنا الأسوة الصالحة، كانوا صامدين في المعارك، وعل خطاهم نسير.
تذكرت أحلام أباها فهمي، والدماء تنزف منه.. أخفت وجهها بكفيها، بكت بحرقة.. ضمتها ليلى إلى صدرها وهي تقول:
- كلانا فجعنا بأبينا، وبوطننا، وأمنا نراها تموت أمام أعيننا، تنزف روحها شيئاً فشيئاً.
مسحت أحلام دموعها، وقالت:
- هنيئاً لك يا ليلى.. أعيريني بعضاً من مشاعرك المتزنة.
- كيف يكون ذلك، وأفكارك الإلحادية لم تزل تغزو ذهنك بسرعة هائلة، وتبعدك عن الله، حتى تزداد حالتك سوءاً؟
- إنها تذوب في دمي.
- تباً لها، وتجعلينها تتهادى بين الأصدقاء، حتى لم تعد الأسر ترحب بك وتأنس، وتخشى على أبنائها من الانجراف معك. ألا ترينها تنفر منك؟.. عودي إلى الله لتهدئي، وتنعمي.
يتبع إن شاء الله..