فوضى الفصول(3)
فوضى الفصول(3)
“ خريف آخر “
محمد باقي محمد
- 1 -
مترنّحاً وعاجزاً عن الفهم وقفتَ أمام العبارة الراشحة بالألم، وراحت الأنباء المتضاربة من كلّ لون تتوالى، وتزيد الصورة بلبلة، فيما ظلت الأسئلة تضجّ وتتلّمس طريقها بصعوبة، لتعرف إن كان ما حصل حقيقة أم كابوس، فهجستَ:
ولكن كيف حدث هذا!؟ وهجستَ:
لقد تركنا الأمور على عواهنها، ولو أننا احتكمنا إلى الحوار، وضربنا على أيدي المخربّين لكان هذا أجدى لنا!
كان هيكل المشفى الكبير ـ المُزمع افتتاحه ـ يربض على مربّع واسع من أرض "العزيزية"، وعلى قدم وساق كان العمل قائماً في الأبنية السكنية عند التخوم الشمالية للأرض الموسومة بحي المطار، إلا أن الناس تاهت عنها، ربما لأنها لم تعد تسمع صوتاً غير صوت جوعها، وما كان باليد حيلة، فهمستَ:
لله الأمر من قبل ومن بعد، ثمّ من يدري، فقد يكون العام المقبل علينا عاماً خيّراً، يعّوض ما أصاب الناس من ضيق وعنت!
وتهادى، لكن مقدماته لم تكن أمينة للأمنيات التي تدارت في الصدور، فتضاءلت الناس، وضجّت، وأخذت الهمهمات تدخل مدار الاتهـام الواضح:
قلنا إنه غضب، لكننا لم نجد أحداً ينصت إلينا!
وقلتَ: ولكننا كسرنا الطوق الذي فرضه الغرب علينا، وهانحن نستقدم السلاح من الدول الاشتراكية! بيد أنهم تابعوا احتجاجاتهم:
لقد أهلكنا تسلّط الأجهزة، ثمّ أننا لسنا مُستعمرة لأحد!
غرباء عن بعضهم كانوا، منغلقين على وجعهم الخاص، فتاهت الأصوات والخطا، وفي الوقت الذي كان الكلام ـ فيه ـ يدور ويداور ويشتطّ ويرتطم؛ انتشرت على الملأ قوانين جديدة أدهشتهم، إذْ تقرّر وضع سقف للملكية الزراعية، ليُوزّع ما يزيد عن ذلك السقف على الفلاحين المحرومين من الأرض، بينما طالت قوانين التأميم الشركات الصناعية الكبرى، فكانت بلبلة عظيمة؛ غادر الكثيرون من أصحاب تلك الشركات ـ في خضمها ـ البلد في غفلة عن الأعين، لكنّ الحكومة لم تكتفِ بما تقدّم، بل وضعت يدها على عمليات الاستيراد والتصدير، متشدّدة في إبعاد كلّ يد عن ميناء "اللاذقية"! وعلى الرغم من أن "مصر" أيضاً كانت قد شهدت القوانين ذاتها، إلاّ أن الموضوع برمتّه ظلّ سابقة غير مألوفة، رأى فيها الكثيرون مخالفة لتعاليم الدين الحنيف! حتى أكثر المؤيدين حماسة تردّدوا، واستسلموا لصمت حائر له أكثر من تفسير، فيما لم يجرؤ الكثير من الفلاحين على الاقتراب من الأراضي المستولى عليها، إمّا لمكانة أصحابها الدينية، أو لأنهم كانوا ما يزاولون يتذكّرون بكثير من الخوف سطوة مالكيها السابقين، وفي كلّ الأحوال فإن المسألة لم تخلُ من حسّ مُبهم بالإثم!
للسنة الرابعة على التوالي استوطن المحل الأرض، فأضحت جديبة كامرأة عاقر! كان الجّو مشحوناً بالترقّب، فانكمشت الناس متطيّرة ممّا يحدث، وعلا صوت الحاجة على كل صوت، وراحت رائحة نذير مُبهم تزكم الأنوف، لكن التكهّن بما يمكن أن يحمله الغد لم يكن أمراً سهلاً، إلى أن جاء اليوم الذي استيقظ فيه الناس على نبأ "الانفصال" الصاعق، المبددّ لأحلامهم!
والآن!!؟!؟
ورحتَ تضرب أخماساً بأسداس، فالأمر كله لم يكن قابلاً للتصديق بتلك السهولة، فهمستَ بحنق:
متوحدّين كنّا، فهزمنا الدنيا كلّها يوماً، وتفرقّنا، فتكسّرنا على أصابع البلدان الأخرى!
لكنّ الصمت امتصّ كلماتك، رغم أنها شكلّت الحلم الذي وسوس للناس ردحاً من الزمن، فاندفعوا إليه بقوة، وحققّوا جزءاً منه، على أن تليه الأجزاء الأخرى، غير أن الرياح جرت باتجاه آخر!
كوعل محاصر في حضرة صياد لا يرحم بدوتَ، بينما كانت البلد تميد تحت أقدام المتظاهرين الرافضة، وبدا كل شيء قابلاً لأن ينفجر ثانية! كان العطب ينعكس على الوجوه الساهمة في كلّ مكان، بعد أن أبهظها الإحساس المؤلم بانكسار أحلامها، ربّما لأن الناس كانت تريد الوحدة، ولكنها ترفض أسلوب الحكم، وكان ذاك هو مأزقها!
أمّا أنت فكان أن تملكّكَ شعور حاد بالنكوص، بأنّ شيئاً ما ليس في مكانه! كان هذا واضحاً في وجوه الناس، وفي حركتهم، أمّا هل كانت البلد تعبر مخاضتها، أم تدخل جحيمها الخاص، فإنّ الإجابة لم تكن سهلة! إحساس ممضّ راح يلحّ في التعبير عن نفسه:
فهل هو نقمة!؟ أم أنه غضب!؟
وراحت الأسئلة تحاصرك، وراحت الوجوه تحاصرك، وراح الهواء يحاصرك، وفي تلك الأزمنة التي أشعرتك بأنها ليست لك كنتَ تهرب، إذْ لم يكن ثمة خيار آخر، ولم تجد مُتنفّساً غير العمل، فأخذتَ تعمل بطاقتك كلّها، ربّما لأنك لم تكن تودّ أن يكون في نهارك لحظة فراغ تتسرّب منها الهواجس، ومع ذلك فإنّ جزءاً من دماغك كان يعمل في اتجاه آخر، فكان أن انتبه "خليل" إلى حالتك تلك!
ـ ما الأمر يا أحمد!؟ لا تبدو على ما يرام!؟
وكنتَ عاجزاً عن التفسير!
ـ لا أعرف على وجه التحديد! لكن الأشياء من حولي تفقد معناها، وتبدو لي بلا طعم أو لون أو رائحة!
كان "خليل" قد تخرّج من كلية الحقوق مؤخرّاً، وراح يخطو خطواته الأولى في عالم المحاماة، في الوقت الذي كانت الحياة ـ فيه ـ قد دفعتك بعيداً عن الدراسة بتلك الصورة الدراماتيكية! إنه واحد من زملاء الدراسة الأقلاء الذين استمرّت علاقتك بهم على اختلاف الدروب!
ـ ولكن ما يحدث خارج عن إرادتنا يا أحمد! ثمة ظروف تفرض نفسها علينا في بعض الأحيان، فلا نملك إلاّ أن نكيّف أنفسنا معها، ولو إلى حين!
وكنتَ ممتلئاً بالمرارة، متمزّقاً، وعاجزاً عن المتابعة، ولكنك جاريته في الحدود الدنيا!
ـ ماذا تقصد بالظروف!؟ ثمّ لماذا نخضع لهذه الظروف خضوعاً كليّاً، بدلاً من أن نسهم في صياغتها وفق ما نريد!؟
ـ حسناً! أنا لست مختلفاً معك في الأساس، ولكن ماذا لو خرجت الأمور من أيدينا لفترة من الزمن!؟ هل نفقد توازننا بهذا الشكل، أم نتعامل مع الظروف المستجدّة بما هو ممكن، إلى أن تأتي اللحظة المؤاتية، فنغيّرها!؟
وأعيتك الكلمات، إذْ كيف لك أن تشرح له ما تحسّه بدقة!
ـ يا عزيزي ما يقال هو مجرّد كلمات، والكلام لا يغيّر من الواقع المناقض للأماني شيئاً!
ـ فماذا تقترح أنت!؟
ـ لا أدري! لا أدري! ثمة فكرة تدور داخل هذه الجمجمة، لكنها لم تتضّح جيداً بعد!
وراح شهر رمضان يدنو متئّداً، من غير أن ينتبه الناس السادرون في هواجسهم لمقدمه! كانت انتفاضة "حلب" في وجه الانفصال قد أخفقت، فقلتَ لنفسك:
لابأس، فقد يحمل الصوم للنفس العزلاء بعضاً من السكينة والهدوء!
ذلك أنّ رمضان كان ما يزال يحتفظ في النفس بشيء من بريقه القديم، ففي مطلعه كانت الدنيا ـ من حولك ـ تُشحن بألق شفّاف، والنهارات تكتسب بعداً آخر، بعداً غير منظور، مُستمدّاً من هالة القداسة التي كانت تحيط به ربّما، فيضحي كلّ شيء مُعمّداً بوهج من القناعة والرضا والنور! وفي مطلعه ـ أيضاً ـ كان أبوك يمّون البيت بالدبس والتمر والبطاطا، مستضيفاً على مائدة الإفطار بعضاً من الأصدقاء أو الجيران، فينقلب البيت إلى خلية نحل تمور بالحركة والنشاط والبشْر! إلا أنّ اللحظات التي لا تُنسى بالنسبة لك تظلّ متمثلّة في تلك الهنيهات التي كنتَ تتكّئ فيها على الحائط الغربيّ للدار في انتظار مدفع الإفطار، وحين ترتفع الغمامة السوداء الناجمة عن إطلاقه فوق تل "غويران"، متداخلة بصوت الآذان، كنتَ تسبق صوت المدفع نحو باب الدار، لتندسّ بين أبيك وأمك المتحلّقيَنْ حول سفرة الطعام، التي كانت تحمل صنفاً خاصاً برمضان من كلّ بدّ! أمّا العالم الأكثر نشوة وسحراً فيظل متمثّلاً في عالم السحور الذي كان بهاؤه ينداح على حواف النفس، فأن تفيق ليلاً، فتشارك أبويك طعام السحور، ثمّ تنهض أمك المتلفّعة بملاءتها إلى الصلاة، وتدعو الله أن يغفر ذنوبكم، فيما يتمتم أبوك ما يحفظه من أدعية، وهذا كلّه في هدأة من الليل ، شيء رائع لا يتكرّر؛ وأخيراً يهلّ العيد، فأيّ فرحة لها أن تعادل فرحتك بالثياب الجديدة والسكاكر و"العيديّة" التي تخشخش في الجيب! أمّا إذا أبدى أبوك شيئاً من التباطؤ أو المماطلة في شراء ثياب جديدةلك، متعلّلاً بظرف ما، فإنك تحرد عن الطعام، وتتضامن أمك معك، حتى يضطر إلى الرضوخ لرغباتك، فإذا جاءت ليلة العيد؛ أخرجت أمك الستائر البيضاء المُزّينة بشغل الأبرة، وغطّت بها النوافذ والجدران، ومن يدري! فقد تبيّض الجدران نفسها بالكلس الأبيض، وتزنرّها بالنيلة الزرقاء، ثم تفرش البساط الصوفي ذا الرسوم الجميلة الملوّنة على الأرضية، فيبدو بيتكم شبيهاً بالجنّة التي كان أبوك يتكلّم عنها دوماً!
وفي صبيحة العيد كنتَ تفيق بعد نوم مضطرب، مليء بالأحلام العذبة، وكانت تلك الأحلام تختلط بأحلام اليقظة، بما يتعّذر ـ معه ـ فصلها عن بعضها، فتُخرج بنطالك من تحت الفراش الذي كنتَ نائماً عليه، فإذا به مكويّ كسيف صقيل! وتلبسه على عجل بعد أن فقد الصبر سطوته على النفس المتلهّفة، وتخرج على الرغم من أن الظلمة لمّا تمحّي تماماً، فتدخل مع أترابك بيوت الحي بيتاً بيتاً، من غير أن تسهو الذاكرة عن بيت واحد، إلى أن تمتلئ أكياسكم بالسكاكر والأحلام الملوّنة!
قُبيل العصر كنتم ترجعون إلى بيوتكم مُنهكين، جائعين، وسعداء بآن، وكانت أمك تنتظر أوبتك بفارغ الصبر، فلقد تأخّرتَ عن موعد الغذاء!
ـ تعالَ يا حبيبي! تعالَ، لقد جعتَ، تعالَ وكُلْ!
إنك جائع لا شكّ، ومُتعب، ولكنك مشغول بما هو أهمّ، فلقد عاد أبوك من صلاة العيد، وعليك أن تتحصّل على "عيديّتك" أولاً؛ على أن تزيد عن تلك التي أخذتها من الآخرين!
إيه! أيّ ذكريات، ولكن الغياب يقوّض الأيام في الذاكرة، فلا تتكرّر، بحيث يبدو الإمساك باللحظة المتصرّمة كمحاولة للإمساك بالسراب! حتى أمك ما عادت تلك الصبيّة المسكونة بالحركة، التي كانت تنفخ في الأشياء بعضاً من روحها، لتنبض بالحياة! لشدّ ما كسرها رحيل أبيك المبكّر! وهاهو شهر الصيام يلّوح بيديه مودعاً، وعيد آخر لا كالأعياد يجيء، ربما بتأثير من مواجع الفترة الماضية، فتناهض ممنياً النفس القلقة بجديد بدا موغلاً في النأي! وتتفكّر:
ربّما كان علينا أن نستفيد من القرارات التي أصدرتها الحكومة حول إعادة مصادرات التأميم إلى أصحابها في تعبئة الناس ضدّها!
وتتفكّر أيضاً: إذا لم نستطع أن ننظّم تلك التظاهرات والإضرابات التي عمّت البلاد في تيّار، فعلى هذه الأرض السلام!
وكان عليك أن تترجم ما يدور في ذهنك بصورة ما، فقلتَ لنفسك: أن نخطو خطوة واحدة، خير من أن نمضي العمر كلّه في الكلام!
وكان أن ضمّك "الاتحاد الاشتراكي" الوليد تحت جناحه، فانشغلتَ تماماً بما يجري!
-2-
وعلى نحو مفاجئ وقاصم هاجمك المرض، لكنك عرفتَ ـ فيما بعد ـ أن الواقعة لم تحدث بغتة كما تراءت لك لأول وهلة، وأن الكثير من الإشارات كانت تفصح منذرة، إلا أن جهلك بالعواقب من جهة، وميلك إلى تبسيط الأمور من جهة أخرى، حجبا عن ناظريك حقيقة ما يجري، فكان أن وصلت الأمور إلى مفترق صعب!
في البدء راحت آلام شديدة تغزو أسفل الظهر، بحيث لم تعد قادراً على ثني جذعك، أو رفع يديك إلى الأعلى إلاّ في حدود ضيّقة! بعضهم تكهّن بنقص في التكّلس، فيما تكهّن آخرون بلمعة في الظهر! هؤلاء اقترحوا أن تشرب بيضة نيئة كلّ صباح لمدة أربعين يوماً، واقترح أولئك نوعاً من اللبخات؛ التي ما عدتَ تتذكّر المواد الداخلة في تركيبها، بيد أن الألم تشدّد في ضغطه، وكان لا بدّ من عرض الموضوع على الطبيب، الذي أكدّ على الراحة التامة، فتمددّتَ على ظهرك أياماً عشرة، إذْ لم يكن ثمة خيار آخر! كان الأوان لدفع فاتورة وقوفك المديد في العراء بصيفه الخانق، وشتائه القارس قد أزف، وابتداءً بصبيحة اليوم الخامس أخذ الألم يتراجع موحياً بالشفاء! فالتحقتَ بفرقتك ثانية، وغرقتَ في دوامة العمل، ذلك أنك كنتَ تجهل بأنّ مرضك علّة ميكانيكية؛ ستتفاقم إن رجعتَ إلى الأعمال المجهدة، ولم يلبث الألم أن هاجمك متشدّداً في ثورته، بحيث أضحت أي حركة معادلة للموت، ولم يقتصر الألم على أسفل الظهر في هذه المرة، بل اتخّذ لنفسه مساراً آخر يتفرّع عن العمود الفقري نحو المفصل الحرقفي، فامتداد العضلة الخلفية للفخذ والساق! ولم يكن ثمة مناص من مراجعة الطبيب ثانية! لم تكن قد سمعتَ بالتهاب العصب الوركي، أو فتق النواة اللبيّة من قبل، و لهذا أقلقك الاقتراح الغريب !
ـ أخ أحمد، أنصحك بأن تعرض نفسك على أخصائي في الأمراض العظمية أو العصبية! سافر إلى "حلب"، واستشر طبيباً هناك!
وتهاويتَ على المقعد متفكّراً، لكنه لم يتركك لهواجسك طويلاً!
ـ لا شيء مهمّ يا أخ أحمد! فقط أريد أن أطمئن عليك!
ـ ولكن إلامَ تذهب أنت في حالتي يا دكتور!؟
ـ لستُ متأكّداً! ربما تكون مصاباً بالديسك!
كانت التسمية غريبة عليك، فتململ الخوف الهاجع تحت الجلد، وتساءلت بحيرة:
ولكن أين العلاقة بين العمود الفقري، والألم المنتشر على امتداد القدم اليمنى!؟
وانتبه الرجل إلى شرودك، فقال:
ـ أخ أحمد، لا تتوهّم مسبقاً! سافر أولاً، وعندما تعود سنرى!
وغادرتَ العيادة ذاهلاً! في الخارج كانت الشمس شعاعاً واهناً يمتصّه ضباب خفيف، غير أنك كنتَ منشغلاً عمّا حولك، فأنت لم تسافر خارج حدود المحافظة من قبل، ولا تعرف كيف ستتدبّر أمورك هناك! كان السفر إلى "حلب" معادلاً لأن تدفع سبع ليرات في الذهاب، ومثلها في الإياب، وربما استتبع الأمر ليرتين أو ثلاثاً للفندق عن الليلة الواحدة! ثم أن الطبيب سيطالبك بعشر ليرات على سبيل الكشف، هذا إذا لم يطلب صوراً وتحاليل مختلفة! أنت لم تتفكّر في الطعام طبعاً، ربما لأن رغيفاً من الخبز كفيل بحلّ المشكلة، ولكن ماذا لو جنحت الأمور نحو العمل الجراحي!؟
وراحت تلك الأسئلة تلهج في طلب الأجوبة، لكن "خليلاً" تدّخل ليمنعك من الاسترسال فيها!
ـ يا أحمد أنت تنظر في الأمور مجتمعة، فتعظم في عينك! ثمّ من يدري يا أخي، فقد لا يحتاج موضوعك في النهاية إلى أكثر من زيارة للأخصائي!
ـ ولكن! فاحتدّ:
ـ دعك من "ولكن" هذه! تدبّر أمرك في السفر الآن، وفي ما بعد سيكون لكل حادث حديث!
فسافرت إلى "حلب"، لتخطّ الذاكرة في سِفْرها ذهول الروح أمام أبهّة مدينة ملأى بالعمارات الشاهقة، مزدحمة بالعربات المختلفة، وقرميد المدن ذي الأصول القديمة! كان الطريق إليها طويلاً، فاستيقظت هواجسك ثانية، لتسطّر أسئلة الغريب في ذاكرة السفر، في حيرته من مثل أين تنام!؟ وكيف السبيل إلى عيادة الطبيب!؟ ماذا لو تهتَ في بحر هذه المدينة الكبيرة!؟ وهل ستكفيك النقود التي تحملها معك!؟ وهكذا ظلّت الأسئلة تأخذك وراءها، إلى أن توقفّت السيارة في ساحة "باب الفرج" التي عرفتَ اسمها فيما بعد، فنزلتَ منها مُشعثاً، مُنهكاً، وتلفتَّ حولك بحيرة!
أين أنت!؟
ومن فوره تمطّى الذهول في وهاد النفس!
من أين تجيء كلّ تلك الحشود!؟
كان الناس يتدافعون من حولك جماعات، فتغلبّتَ على تردّدك؛ و استفسرتَ عن فندق تنام فيه! وبدوره راح الجوع يضغط، فرشوته ببضع لقيمات، ثمّ أويتَ إلى غرفتك بالفندق لترتاح! ولمّا جاء الصباح؛ قصدتَ عيادة الطبيب القريبة من الساحة، فنهض رجل كان قد تجاوز العقد الرابع من عمره بقليل من خلف الطاولة!
ـ أهلاً، أهلاً سيد أحمد، تفضّل!
ونابت الرسالة التي كان طبيبك قد كتبها في الكلام بدلاً عنك!
ـ لابأس يا سيّد أحمد، ولكن هل تتمدّد قليلاً!؟
وتأملّ في الصورة الشعاعية التي كنتَ تحملها مليّاً، ثمّ رفع قدمك اليسرى إلى الأعلى، فلما جاء دور اليمنى؛ أبت أن ترتفع، وراحت مكامن الألم تنزّ، فربت على كتفك!
ـ حسناً، حسناً، هلاّ جلستَ!؟
وأنشأ يتحرّى المنعكس العصبي عندك بوساطة مطرقة صغيرة مُغلفّة بالبلاستيك الأسود!
ـ آهّا، سيّد أحمد أريدك أن تتمّشى على رؤوس أصابعك!
فمشيتَ بشيء من التعثّر!
ـ يكفي يا سيّد أحمد، يكفي! والآن امشِ على عقبيك لأرى!
وامتثلتَ، فتنهّد قائلاً:
ـ سيّد أحمد، ثمة انقراص في المستوى الواقع بين الفقرة القطنية الخامسة والعجزية الأولى! حالتك واضحة تماماً، ولا أعتقد أنك تحتاج إلى صورة شعاعية جديدة! باختصار يا سيّد أحمد فأنت مصاب بالديسك!
وكانت المسألة تشكو شيئاً من الغموض بصورة ما، فسألته:
ـ وماذا تريدني أن أفعل يا دكتور!؟
ـ قبل كلّ شيء عليك أن تبدّل العمل الذي تقوم به!
ـ كيف!؟
ـ لا تخف، سأزوّدك بتقرير طبيّ، وعندما تعود إلى بلدتك عليك أن تتقدّم بطلب إلى دائرتك، لكي تحولّك إلى اللجنة الطبية لفحص الموظفين، وفي ضوء التقرير الذي سأكتبه لك، فإنها ستقرّر نقلك إلى عمل إداري!
وكان ذهنك يشتطّ في اتجاه آخر، فسألته بقلق:
ـ وهل تعتقد بأنني سأحتاج لعمل جراحي!؟
ـ أوهّو! لا … لا! لقد شطحتَ بعيداً يا سيّد أحمد! أنت ما تزال شاباً، و في مثل حالتك نفضّل أن نجرّب العلاج المحافظ، أمّا المداخلة الجراحية، فلا نلجأ إليها إلاّ إذا فشل العلاج المحافظ! على كلّ حال تلك أمور يعود تقديرها لي؛ فدع عنك هذه الهواجس! سأصف لك بعض الأدوية، ولكن عليك أن تتذكّر دوماً بأن الراحة هي نصف العلاج! وأنا أفضّل أن تتمدّد على فراش قاس، وألاّ تنهض إلاّ لقضاء حاجة، وبعدها سنرى!
وتركتَ "حلب" وراءك! كان كلامه قد بعث في نفسك شيئاً من الطمأنينة، من غير أن يخلو الأمر من بعض المنغصات التي تتعلّق باللجنة الطبيّة، وتغيير العمل، لكنك أرجأتَ المسألة إلى ما بعد عودتك!
-3-
ثم ماذا بعد حساسيتك المفرطة تلك!؟
الإحساس بالعجز، أم المرض، أم الانقطاع المديد عن الناس والحياة الاعتيادية!؟
ترى أيّهما يأتي قبلاً، وأيّهما بعد!؟ أيّهما السبب الذي يفضي بالآخر إلى تلك الحال، وأيهما النتيجة!؟
ساعة إثر ساعة كان الوقت يمضي وئيداً، وأنت مستلقٍ على ظهرك، عاجز عن الحركة تقريباً، إذْ باستثناء قضاء حاجة ما كانت الحركة محظورة عليك تماماً، ربّما لأن التحسّن كان شديد البطء هذه المرة، فراحت الأسئلة تتلاحق، ليتضافر اليأس مع الملل، ويتراكم بكلّ سواده ومرارته في سراديب الذاكرة المكتظّة بدماملها!
ثمّ ماذا لو أقعدك المرض!؟
وعند هذا السؤال- على وجه التحديد- كان كلّ شيء يلبس سواده الخاص، بينما يرين سكون مميت على الروح المتشرنقة بيأسها وخوائها! إلا أن بقعة ما، بقعة نائية في الأعماق ظلّت تدرك بأن إحساسك بالعجز ما هو إلاّ نتيجة وليس سبباً، ذلك أن المـرض كان قد فرض عليك فسحة إجبارية طويلة تتفكّر خلالها في حالك، وفيما تخبئّه لك الأيام، فأخذتَ تدرس الاحتمالات كافة، لكنّها بعيداً عن كلّ مؤشّر بدت لك مؤسية! لم يكن مرضك هو السبب الوحيد في حساسيتك تلك، إذْ هاهي الأيام التي تلت عودتك من "حلب" تفاجئك بكل غريب، ربّما لأنّك كنتَ تتوهّم بأنك تعرف دائرتك جيداً، لكنك اكتشفتَ بأنك مخطئ، فلقد رفضت طلبك الذي تلتمس فيه عرضك على اللجنة الطبيّة!
والآن!؟
أنشأ السؤال يسطّر نفسه كهمس حائر ينثّ من مسام الجلد، وفي غمرة الذهول جاءك الحلّ الذي تاه عنك من أحد الزملاء:
أنْ وسّط أحد المتنفذيّن بالموضوع!
ولمّا لاحظ حجم الدهشة التي انداحت على ملامحك، أردف:
ـ ما بك!؟ ألستَ من سكّان هذه الأرض!؟ ألا ترى إلى ما يجري من حولك!؟
ولكن حالتي واضحة وضوح الشمس في يوم قائظ!
هذا ما أرادت النفس أن تجهر به في ردّة فعلها الغاضب! بيد أنك ما إن هدأتَ، وتفكّرتَ في كلامه ملياً، حتى وجدتَ فيه الكثير من الصواب، فالتجأتَ إلى عبّ الصمت هامساً:
هكذا هي الأمور إذن!
كنتَ تتوهّم بأن الأيام المكفهرّة قد رحلت عن حياتك، لكن الأحداث الأخيرة أثبتت العكس، وأخذت صورة مُضبّبة للأيام المقبلة تلوح في الذهن، وتدفع الأحاسيس الغافية نحو الحافات، إذْ كان عليك أن تتفكّر في حلّ يحفظ لك ماء الوجه، فلم تجد مخرجاً آخر، وفي هذه المرة وافقت الدائرة على ما سبق لها أن رفضته! فتساءلتَ:
ولكن ماذا لو وقع لك أمر مماثل أمام اللجنة الطبية لفحص الموظفين!؟
وبحسب ما جرى، فإن هواجسك لم تكن بغير أساس، إذْ ما الذي تتوقّعه من أناس لا تعرفهم، إذا كانت دائرتك قد تصرّفت بما يخالف واقع الحال!؟ هنا استطعتَ أن توسّط البعض في المشكلة، فماذا ستفعل هناك!؟
وراحت أعصابك تتشظّى في فضاء تساؤلاتها خلف الاحتمالات المختلفة لإمكان ما قد يحدث، لكن موافقة اللجنة على طلبك أعاد لتلك الأعصاب شيئاً من هدوئها!
غبّ أيام كلفّوكَ بعمل إداري في مديرية الزراعة، فابتعدتَ عن مرسح الأحداث الأخيرة قليلاً، لكن ذلك الابتعاد لم يفلح في كبح مخاوفك، فأنشأتَ تتأمّل في الدلالات والمعاني التي تكشّفت عنها أحداث الأيام القليلة التي تصرّمت، وفي غياب من حسّ الأمان أخذتَ تتساءل عن المصير الذي ينتظر عائلتك فيما أنت عاجز وأعزل! كان قلقك ينصبّ بالدرجة الأولى على ابنك، لأنّ أمك امرأة كبيرة في السن، قليلة المطالب، وكسرة من الخبز تسدّ حاجتها! وزوجتك امرأة صابرة، مدبّرة، ولن يُعييها الرغيف أبداً، أمّا ابنك الصغير الذي عرفتَ بوجوده في لحظة تختصر العمر كلّه في خانة النشوة، وآنَ جاء ملبيّاً لهفتك ، كان للأرض رائحة عشب الغابات وشذى الزيزفون! أمّا ابنك ـ هذا ـ فهو صغير ما يزال، وأنت تخشى أن تظلمه الحياة كما ظلمتك! لذلك ربّما أخذ إدراك مبهم يتململ، ثمّ يتبلور ويتضح تدريجياً، إدراك راح يقرّ بأن "خليلاً" و "إبراهيم" كانا محقيّن في ما ذهبا إليه حول ضرورة انضمامك إلى النقابة، وأخذ هذا الإدراك يكبر شيئاً فشيئاً، إلى أن انضممتَ إليها!
لم يكن ثمة مَلْمَح واضح للعمل النقابي في الذهن، فأنشأتَ تجتهد في ذاك الاتجاه، متوهمّاً بأن الأمور مُيسّرة، مرهونة بالإرادة والتصميم، إلا أن الواقع العملي فاجأك بأنّها ليست كذلك، وببطء وعناء شرعت صورة ابتدائية للعمل النقابي تلملم نفسها،
بينما راحت القراءات والحوادث المستجدّة تصقل تلك الصورة يوماً بعد يوم، ثمّ أنّ "خليلاً" لم يأل جهداً في كشف ما استغلق عليك من مفاهيم، ولم تكن المثابرة لتنقصك،ربما لإحساسك المرمض بالظلم والفوات!
فهل كان الزمن قد ظلمكَ حقاً!؟
لكنّ الإجابة على سؤال كهذا لم تكن مجدية، فيما النفس ما تزال ترزح تحت وطأة شعور كذاك! شعور يرى بأن العالم المسكون بالعدل والسلام ما يزال بعيد المنال! ثمّ أنها لن تكون إجابة محايدة وموضوعية، لكنها ستقف على سرّ تعاطفك مع المظلوم تارة، وسخطك على النفس العاجزة؛ المتألمة من ضآلتها تارة أخرى، وستفسّر لك ارتفاع صوتك في وجه مظلمة أصابت عاملاً هنا، أو حيف لحق بعامل هناك، من غير أن تأبه بالنتائج، لتفتقد علاقتك مع الإدارة إلى المودّة! وكان غياب التفاهم بينكما مُتوقّعاً، لكن الذي بدا لك غير مفهوم، هو ذلك التماثل المقيت بين موقف الإدارة ذاك، وموقف غالبية أعضاء اللجنة النقابية، بما كان يدفع الأعصاب إلى حافات اشتعالها!
ولكن أليست مهمتّهم هي الدفاع عن حقوق العمّال!؟
بيد أن صمتاً عاجزاً عن التبيان كان يجابه ذاك السؤال، فتزداد عناداً، وتزداد صبراً، وتزداد إصراراً، ويوماً بعد يوم كانت الأرض تشتّد تحت قدميك، ترسخ وتتوطّد، ومن كلّ مكان، من فرق المساحة التي كانت تركب شفق الدروب، إلى لجان توزيع أراضي أملاك الدولة والاستيلاء التي لم يُكتب لمهامها إتمام الدرب بعد، فورشات الميكانيك، وجموع السائقين راحت العيون التي كانت قد أضحت موئلاً لعروق التعب الحمراء، والظهور التي كانت أعباء الحياة قد أحنتها؛ تدفعك إلى كفكفة مشاعر الإحباط، فلقد بدأتَ تلمس بوضوح التفاف العمّال من حولك، ما منحك ثقة كبيرة بالنفس وبالآخرين، فرحتَ تغزل صورة بهيّة للأيام المقبلة، تتعزّى بها عن أيامك الكالحة!
- 4 -
إنّه يوم من تلك الأيام التي يقال فيها بأنها لك، وليست عليك!كان شباط يجّر مؤخرته فوق الثلوج مندحراً، وقزعات من الغيوم البيضاء الصغيرة تتناثر هنا وهناك في سماء عميقة الزرقة، بينما راح آذار ينساب زلالاً من بين السطور، أمّا الأخضر الذي كان حتى الأمس القريب قد فقد ملامحه تحت وطأة عبث ثقيل للطين، فلقد راح يفتّر بالتدريج، وأنشأت الحيوانات التي نذرت نفسها لسبات طويل تستيقظ!
متوتراً قدام فسحة الدار أخذتَ تذرع المكان جيئة وذهاباً! كان الانتظار قد نال من الأعصاب المشدودة، فيما كانت الدار قد انقلبت إلى خلية تعجّ بحركة محمومة، لكن الصغيرة التي أصرّت على استهلال حياتها بالبكاء أخيراً، أطفأت رماد الأعصاب المشتعلة بقلقها، فدخلتَ بلهفة:
ـ الحمد لله على سلامتك يا أم خالد!
وانخفضت عيناها بذلك الخفر الأنثوي الذي ابتدأ بأمنّا حواء ربما، وشعشعت ابتسامة ذاوية فوق الوجه المُنهك بآلام الطلق والولادة!
قلتَ: لن يشعر "خالد" بالوحدة بعد!
وقلتَ: ترى ما الاسم الذي يليق بهذه القادمة التي ملأت الدنيا صراخاً!؟
وانشغلت الأسرة باستحضار الأسماء التي يمكن أن تُطلق عليها، ولمّا تبرعم الاسم في المخيلة؛ شقّت ابتسامة عريضة طريقها إلى زوايا الفم والعينين!
"سورية"! نعم "سورية"، فليس ثمة أسم أبهى من هذا الاسم!
ولم يلق اقتراحك أي اعتراض، فتفكّرتَ: إنْ يأتِ الخير يأتِ فرادى، و إنْ يأتِ الخراب فإنه يعمّ! فمن يدري!؟ لقد كان ما مضى في مجمله انكساراً، وقد تسطّر هذه الصغيرة خاتمة لذلك الانكسار!
كان الذين قادوا ثورة آذار ضدّ الانفصال قد أطلقوا الأحلام والفراشات الملوّنة على أعنتّها، غير أن أكثر تلك الوعود ملامسة لشغاف القلب تمثّل في إعادة الوجه الوحدوي للبلد، فأخذتَ ترفل في طيوفك الملونة، وقلتَ: نحن أبناء اليوم، فلنر أي جديد يخبئه لنا! ورميتَ بأيام السجن الذي أطلقوا سراحك منه خلف ظهرك، أو هكذا خُيّل إليك، ذلك أنّ مؤشر الذاكرة راح يمّر على الأحداث سريعاً، مؤكّداً أن ثمة أحداثاً في الحياة لا يمكن للنسيان أن يمحوها!
ليلاً كان الوقت! وكانت الكائنات الحية قد تدثرّت بالصمت، حين أفقتَ من النوم على خشخشة خافتة، وأصختَ السمع جيداً، لكنك لم تستطع أن تتبيّن إن كان ما سمعته من دبيب فوق السطح هو وقع أقدام، أم خشخشة جرذ، فاستويتَ في فراشك!
ـ ما بك!؟ سألتك زوجتك!
ـ لا شيء! أريد كأساً من الماء!
كان السكون العميم يسرّ بنذير مُبهم، وفجأة علا صوت قرع على الباب، فالتقت العيون الدهشة متسائلة عمّن يكون الطارق في مثل ذلك الوقت، وارتفعت أمك بجذعها الأعجف!
ـ ولكن من الذي يمكن أن يقصدنا في هذه الساعة!؟
أمّا ما حدث بعدهــا، فلقد عبر الشاشة مُشوّشـاً، مُبهمـاً، فسقطت بعض
التفاصيل في شقوق الليل والنسيان، بحيث لم تتمكن الذاكرة من تسجيلها في دفترها المهترئ!
من يا ترى!؟
تمتمتَ، وفتحتَ الباب، وبسرعة؛ وقبل أن تستوعب الموقف امتدّت اذرع كثيرة من قلب الظلام، وجذبتك إلى الخارج، لكنك تمكنتَ ـ خطفاً ـ من التقاط الرسم الخارجي لأشباح بشرية متدثرّة بالعتمة فوق السطح، وخلف النافذة، وأمام باب الحوش، فتساءلتَ بدهشة:
كلّ هؤلاء جاؤوا للقبض عليك!؟ ثمّ تساءلتَ:
هل ولولت أمك بعد أن استوعبت المفاجأة!؟ وهل صرخت زوجتك بعد أن ندّت عنها تلك الشهقة!؟
لم تكن تعرف كيف جرت الأمور من بعدك في البيت، فلقد انطلقت عربة الجيب خبباً عبر الدروب المتدثرّة بالوحشة والظلام، بما لم يسمح لك بمعرفة المزيد!
وخالد!؟ فجأة قفز الوجه الطفولي البريء إلى ساحة الذاكرة!
ترى هل أفاق على ما جرى!؟ هل رأى شيئاً!؟ أنت لم تسمع له صوتاً، إلا أنك ـ الآن ـ لم تعد متأكّداً من شيء! يا الله! أيّ رعب سيتغلغل في مسامات الطفولة إن كانت عيناه قد وقعتا على شيء من المشهد!؟ ثمّ ماذا عن الجيران!؟ لماذا لم يخرج أحداً منهم من باب الفضول على الأقل!؟ إذْ من غير المعقول أن تكون أمك وزوجتك قد صمتتا بعد أن جرّوك بتلك الطريقة، ولا بدّ أنّ صراخهما قد زرع جنبات الليل بالرعب واللوعة، ولا شك أن الجيران قـد اجتمعـوا علـى صراخهمـا، فلمـاذا لم تسمع حركتهم!؟
لقد غادرت السيارة المكان مسرعة، وربّما لهذا لم تقع عيناك على أحدهم!
ولوّحتَ بيدك كمن يحاول أن يطرد ذكريات غير مُستحبّة، لكنها ظلّت تلحّ، وتطغى على السطح باندفاعات غير مُنتظمة! في ما بعد عرفتَ كيف تصرّمت ليلتهم المرتعشة بالرعب والعزلة! ذلك أنّهم لم يناموا، وكان ما يحدث غريباً عليهم، ولم يتبيّنوا جلية الأمر إلاّ حينما أسرّ إليهم أحد الجيران بحقيقة ما حدث! أمّا الأيام التي تلت، فلقد تحوّلت إلى سؤال مضنٍ عن مصيرك، سؤال ممضّ وجارح راح الصغير يلهج به في وجه المرأتين، مضاعفاً بذلك قلقهما، فيما هما عاجزتان عن القيام بأيّ خطوة!
كان البعثيون قد شاركوا في حكم "العراق"، بينما كان نصفهم السوري يقلب الأرض من تحت أقدام "الكزبري"، منادياً بتوجه التوأمين إلى "مصر" بشتى الوسائل! إنهم يسعون لإعادة الوحدة، وذلك بعد تنظيفها من أساليب حكمها الخاطئة! هذا ما كانوا يزعمونه على الأقل!
فهل هم بصدد ثورة!؟
وحده الزمان سيكشف عمّا يحدث! المهمّ ـ الآن ـ أنك عدتَ إلى حضن عائلتك، على ألاّ تتكررّ تلك التجربة مهما كان الثمن أو الظرف! أمّا تلك الأسئلة التي تدور حول مسائل من قبل "أين تجتمعون، ومن هم رفاقك في الخلية الحزبية، من هو المسؤول المباشر عنكم!؟" تلك الأسئلة التي راح المحقق يلاحقك بها، مدعيّاً النصح تارة " هاتوا قهوة للأخ أحمد!" و "هل ترغب في لفافة" و "أخ أحمد أنت عامل بسيط، ونحن لا نريد بك أذى! نحن نريد الرؤوس التي غررّت بك! فكّر في عائلتك وأولادك! إنهم يحتاجون إليك، وينتظرونك بفارغ الصبر!" حتى إذا أدركه اليأس من صمتك، توارت لغة النصح خلف تهديد مُبطّن "إذا كنتَ تظنّ بأنك ستصمد، فأنت واهم، وهذا العناد لن ينفعك في شيء! إنهّم في الخارج ينتظرون إشارة منّي، وعندها سترى ما لم تكن تتصوّره أبداً، أنا لا أريد أن أسلمّك إليهم، إنني أرأف بحالك، فلا تدفعني إلى مسلك لن يسّرك!" أمّا تلك الأسئلة فلقد تركتها وراءك، بيد أن الأمر لا يخلو من اندفاعات كريهة هنا أو هناك بتأثير ممّا تراه أو تسمعه، وعندها تستعيد تلك الإضاءة التي كانت تُسلَّط على عينيك، والعرق الذي كان ينشع عبر الجلد برائحته النتنة، والخلايا التي كانت تضجّ بالألم تحت ضغط العصيّ المُنهالة على باطن القدم، والسياط التي كانت تلاحقك هنا وهناك، لتتحامل على آلامك مُكرهاً، وتحاول أن تتفادى اللسعات الكاوية المُعلقة بذيلها ما أمكن! إنهم يريدونك حيّاً، لكن صمودك وصمتك يزعجهم، ولذلك فهم يفكّرون في جولة أخرى، فيكرهونك على الحركة حتى لا تصاب قدمك "بالغرغرينا"! لكن تلك الهذيانات والكوابيس التي أثقلت عليك, بدأت ـ اليوم ـ بالتباعد، فلم تعد تستيقظ فزعاً إثر صرخة ندّت عنك، وما عادت زوجتك تفيق هلعة، لتسألك عمّا ألمّ بك!
ـ لا شيء، لا شيء، هاتي كأساً من الماء!
وتبسمل وتحوقل مغمغماً، متسائلاً عمّا إذا كانت تلك الفترة ستظلّ ندبة متقرحّة تنزّ! وقد تحضرك صورة "صالح"، فتتساءل عن البئر التي تمتح تلك الوحشية نسغها منها! وتتساءل أن كيف تأتّى لذلك المستطيل البشري الجبار أن يتشوّه على ذلك النحو،بحيث أضحى إيلام الآخرين مصدر نشوةله!؟
وأخيراً، هاهو فاصل التعذيب يقترب من خاتمته، إذْ لا بد للسجين ـ في
النهاية ـ من الاحتماء بالإغماء عندما تخونه قدرته على التحمّل، فيلجــأ
ـ عندها ـ إلى عالم ناءٍ مناقض للألم، لكن دلو الماء حاضر لتحقيق معادلة متناقضة، فتتحول نقطة الماء التي عزّت خلال ساعات العطش الطويلة إلى مادة مُهرقة مجاناً ومعادية، فيما الأسئلة ما تزال تتلاحق!
من، متى، كيف، ولماذا أو أين!؟
إلاّ أنك لا تجيب، وهذا لا يعجبهم، فيتفكرّون في وسيلة أخرى تجبرك على الاعتراف بما يريدون، بالكهرباء مثلاً، لتتزلزل الأرض والسماء من تحتك، وينتشر الألم المميت في الخلايا المتشنّجة، حتى تشرف على النهاية أو تكاد، فتتساءل إن كانوا لا يتعبون! ذلك أنك عاجز عن فعل أي شيء، عاجز حتى عن الإفصاح بأنّك جاهز للإقرار بما يريدون، وهم يعلمون هذا! إنهم لا يضيّعون وقتهم، إذْ يكفي أن تحرّك سبّابتك لكي يتوقّف الضرب في التوّ! وترتسم شارات النصر على الوجوه، ولكن الويل ثمّ الويل لك، إن كانت سبّابتك قد ارتفعت لكسب استراحة بين فاصلي تعذيب، لأن وسائل التعذيب التي قد لا تخطر لك على بال ستنهال ـ آنئذٍ ـ عليك، فتتمنّى في كل لحظة أن تموت، وتستريح، إلا أن الموت سينأى!
أعادتك يد خالد من الرجعى، فانتبهتَ! كانت الأصابع الغضّة مشغولة باكتشاف العالم على طريقتها، فراحت تداعب وجهك الخشن، موقفة سيل الذكريات عند سؤال رئيس:
هل كنتَ ستنهار وتعترف لو كنتَ تتحصّل على شيء تعترف به!؟
وتراجعت النفس مُجفلة قرفة مـن فحوى السؤال، فشددّتَ العظـام الغضّة بقوة إلى صدرك،من غير أن تعي تماماً فيما إذا كنتَ تحميها أم تحتمي بها!
- 5 -
بكلّ المقاييس كان ذاك الصباح صباحاً عادياً؛ لا يختلف عن غيره من الصباحات التي كانت تتكرّر مع مطلع كلّ يوم، من غير أن يشعر المرء بها، أو يدرك أن عمره قد نقص يوماً آخر، فلم يكن حاراً ولا بارداً، ولم يك غائماً ولا صحواً، بحيث كان بإمكانه أن يمضي كغيره من الصباحات الباهتة التي لا لون لها ولا طعم، إذ أن خصوصية بعض الأيام مُستمدّة من الأحداث التي تلوح في أفقها، وتلوّنها بلونها، فلماذا اختارت أمك الرحيل في مُستهلّ ذلك الصباح من غير أن تزعج أحداً!؟ لماذا مضت بهدوء طيف من تلك الطيوف الكثيرة التي تمرّ بهذه الفانية من غير أن ينتبه إليها أحد، فلم تضطرب أو تصرخ، بل رحلت بلا تشبّث أو ضجيج، ليغيب مخلوق آخر من تلك المخلوقات التي يمتلئ العالم بها من غير أن يشكو منها أو يتأففّ!؟ ربّما لأنها بسيطة، متفانية، ومتواضعة في أحلامها، هذا إن لم تكن تلك الأحلام في الأصل مُنصبّة على أحبتّها من أخوة أو أولاد أو بنات، حتى أنّ موتها بدا كحدث عادي مُنتظر، إذْ لم يكن ثمة نواح زائد، ولم يكن ثمة ضجّة، لكن الأمر لم يخلُ من شعور بسيط بالذنب، ربما لأن المسكينة رحلت من غير أن يراها الطبيب! صحيح أنّها لم تكُ تشكو إليكم ، ولكن حالتها كانت واضحة لكم، وكنتم ترونها تدنو من منيّتها حثيثاً! كان هذا بينّاً في التهدّم الذي طال جسدها فجأة، وراح يعمل فيه كمعول حاد، في الذهول العميم الذي خيمّ على روحها وعقلها، في النوم القصير الذي كان يباغتها وقوفاً أو جلوساً، وفي أيّ وقت ، في الأحاسيس المرهونة لصالح ماض متسارع، والتي لم يعد يحرّكها شيء ـ اللهمّ ـ خلا تلك اللحظات القصيرة المتباعدة التي كان الصغيران يلجآن ـ فيها ـ لمداعبتها، وفي الذاكرة الملتاثة التي اختلطت فيها الأيام والأرقام والحوادث والتآريخ!لكنكم لم تعرضوها على طبيب، ومن غير أن تناقشوا الحالة في ما بينكم، تواضعتم على أنّ الحيّ أبقى من الميت، وأنّ مايُصرف عليها بغير فائدة قد يسدّ أفواهكم إلى حين!لم يكن تواطؤاً مُعلناً،بل كان نوعاً من الإجماع الُمضمر بأنّ دورها على المرسح قد انتهى، إجماع مقروء في عيونكم رحتم تدارونه لإدراككم بأن شعوراً كهذا لا يليق بالإنسان! وعليه فقد انقضت أيام المأتم بهدوء، إذْ أنكم كنتم تعلمون بما أضمرتم، فتحرّجتم من الموت ذاته في إحداث ضجة زائدة! ومن الماضي المتعرّج كلّه ظلتّ صورة واحدة تلّح على الذاكرة بإصرار، كانت تلك صورة الصبية البهيّة ـ التي كانَتْها أمك يوماًـ وهي تضمك في الحظيرة بقوة! وكان ذلك صباح يوم أقلّتكم فيه شاحنة إلى المدينة!
متحسّراً، مكفكفاً بداية إجهاش جاش في الصدر همستَ:
إنّا لله، وإنّا إليه لراجعون!
وقلتَ: لله الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول ولا قوة إلاّ به! ما مضى قد مضى، وما عليك إلاّ أن تعيد ترتيب أمورك،لكن اللغط الذي ترافق بمرور لواء "اليرموك" بالمدينة في ذهابه للقاء الأكراد، وإيابه لم يترك لك مثل تلك الفرصة!
ولكن كيف، ومتى!؟
وارتدّت الذاكرة إلى الماضي، صوب تلك السنوات التي أمضيتها هناك في "الجدَيدْة"! صوب محمد وطه وحسّو والمختار والفلاحين والنسوة و"الزركان"! ولكن أليس هؤلاء هم الناس الذين عشتَ معهم تلك الطقوس الرائعة المرافقة لذبح الخراف والعجول المُسمنّة؛ التي كانوا يشترونها صيفاً، ويسمنّونها حتى العشرة الأوائل من كانون، كي يبرد الجّو جيداً،فيأمنون فساد اللحم، ويعمدون من ثمّ إلى ذبح "الربائط"، ليرين على القرية جوّ من الأريحية والكرم، ويأكل الجميع من اللحم ما لذّ وطاب، ثمّ يُملّح الباقي أو يُفرم بشحمه، ويوضع على النار من دون ماء؛حتى يتحوّل إلى "قليّة"، فيرفعونها في صفائح أو دنان لأيام الشتاء الشحيحة!؟ أمّا إذا استمرّ الأزرق بغير منازع، ولم تتلبّد السماء بالغيوم الداكنة،تطيّر الفلاحون من تلك الهبّة الجافة لرياح الشمال الباردة، وخرجوا إلى القرية المجاورة في غزوة كاذبة، يلقون ـ خلالها ـ بسروال امرأة ثيّب في دنّ مختارها، ويسوقون ماشيتها على سبيل النهب المفتعل! وكان فلاّحو القرية الأخرى ـ بدورهم ـ يخرجون للتظاهر بالذود عن قريتهم، ثمّ يفرض الطرف المنتصر على الطرف الخاسر خروفاً! وربما عمدوا إلى التلّة بثيابهم التي ارتدوها بصورة معكوسة، يتقّدمهم إمام المسجد، وراحوا يتضرّعون إلى الله في طلب المطر، فإن تصادف خروجهم مع غيوم آخذة بالتلبّد، خرج الأولاد حاملين دمية خشبية تمثّل عروس المطر، وأنشأوا يهزجون:
عروسنا تطلب المطر!
وعجلنا يبغي العشب!
ونحن نرجو من الله مطراً!
وعندما يجتمع لديهم ما يكفي من البرغل ،كانت إحدى النسوة تطبخه لهم، فيأكلونه فوق البيادر!
كــان الأكـراد قـد تحركّوا ضدّ حكومـة المركز في شمال "العراق"، فأرسلت الحكومة لواء "اليرموك" لمعاضدة العراقيين، وأثار مروره بالبلدة لغطاً كبيراً، فأخذتَ تنبش في الذاكرة عمّا يشي بمقدمّات لذاك اللغط!
إذن فالأكراد ينظّمون أنفسهم،ولكن كيف سهت أذناك عن التقاط مؤشّر يكشف ما احتجب! لقد أقمتَ بينهم ردحاً،وعايشتهم لحظة بلحظة،فكيف لم توسوس لك الجدران بشيء!؟ هل حجبتْ براءة الطفولة عن الشبكية ما كان يدور في الخفاء، أم أنّ مطاليبهم لم تكن قد نضجت بعد!؟ أنت لا تنكر بأنّك أحببتهم، وأنّهم بدورهم أحبّوك، وعاملوك بالحسنى،وأنّهم آووك وحموك وأطعموك من خبزهم ولبنهم! كما أنّك لا تنكر بأنّك ابتعدتَ عنهم بعض الشيء بعد أن غادرتَ القرية، فلم تقم بينك وبين من عرفتهم هنا إلا أواصر محدودة! صحيح أن هذا طبيعيّ قياساً إلى نسبتهم من سكّان الحيّ، لكنّه في حال كحالك لا يبدو كذلك تماماً! بيد أنّك ـ في النهاية ـ لن تقبل بأيّ شيء يعيق مسيرة هذه الأمة، فهذا شيء وذاك شيء آخر، ولذلك ـ ربّما ـ فإنّ المناقشات المحتدمة كانت تنتهي إلى طريق مسدود، ذلك أنّ الآخرين قد يترسّمون خطاهم، فيما الانفصال ما يزال خرّاجاً مؤلماً في الصدر، وحتّى حين شكا أحدهم من الحيف الذي لحق به جرّاء إحصاء اثنين وستّين وتسعمائة وألف، فهو يشتري السكر والشاي والرز والزيت بسعر السوق السوداء، لأنّ اسمه لم يرد في عداد المواطنين، كما أنه لا يستطيع أن يعمل في المؤسسات الرسمية، فإنّه لم يلق منك أي تعاطف، بل انشغلتَ عنه بما يقلقك، ولم يكن ما يقلقك قليلاً!
- 6 -
قد لا تكتفي الأمكنة بشوارعها وأزقتّها وطرازها المعماري حتى توحي للآخرين بصورتها، فتروح تمتح من بشرها بأشكالهم وطباعهم وعاداتهم ما يعطي تلك الصورة ملامحها الخاصة، والبلدة التي شهدت شبابك واحد من تلك الأمكنة، فهي تتّسم بسمات خاصة تميّز أهلها عن سكّان البلدات الأخرى؛ إنْ على صعيد اللهجة، أو على صعيد الطباع الشخصية، رغم أنها ـ في الأصل ـ تنطوي في نسيجها البشري على فئات شتّى!
وإذا كانت الأعراف والعادات توحّد الناس في أنماط متقاربة، وتنسخهم على شاكلتها، فإن الأمر لا يخلو من شخصيات طريفة متفرّدة لا يطالها المنطق، أو التاريخ أو الذوق العام، شخصيات تعلو على الأعراف والتقاليد، فتخلط الحابل بالنابل، كما تخلط المزاح بالجدّ، وتبوح بالحقائق عارية، من غير أن ينالها العيب أو الإثم أو العقاب، وبمعنى ما فإنّ تلك الشخصيات تبدو في طبيعتها النفسانية، وسلوكها اليومي أقرب إلى التغريب في المسرح، مع فارق وحيد هو المكان، إذ أنّ المكان هنا هو تيار الحياة العريضة ذاتها! إنّهم ضمير المدينة التحتي وقاعها، فرسانها الذين لا يجدون أي فرق بين الهزيمة أو النصر، فلا غضاضة ولا نشوة، وبذلك يكسبونها علاماتها الفارقة! وقد لا يكون "فياض" أشهرها، لكنه بالتأكيد واحد من تلك الشخصيات التي لا تحتاج معها لأن تذكر اسم أبيها أو شهرتها، وذلك لأنه غنيّ عن التعريف، أمّا الذين يجهلونه، فلا شك بأنّهم سيتلمّسون الخلل في شخصيته، رغم أن تحديد مكمن ذلك الخلل خارج عن حدود الإمكان، إذ لن يستطيع أحد أن يتكهّن فيما إذ كانت العلّة تكمن في جذعه القصير المحنّي، أم في أطرافه القوية، وقد يتوقّف البعض عند شعره الخشن غير القابل للتسريح، أو عينيه الماكرتين اللتين لا تقدران على إخفاء مكرهما الصريح والحسّي، أو شكله العام الذي يقارب شكل القردة! وقد يصرّ البعض على التوقّف عند دواخل تلك الشخصية الغامضة وسلوكها المكشوف! و"فياض" هذا لا يستقرّ على حال، فهو اليوم يبيع الحلوى، لكنه في الغد سيعرض على الناس صحفاً ومجلات، في الوقت الذي كانت بضاعته ـ فيه ـ بالأمس مقتصرة على أوراق "اليانصيب"، لكن سبب شهرته لا يرجع إلى هذا الأمر أو ذاك، بل يرجع إلى المذياع الصغير الذي كان يحمله دوماً بالقرب من أذنه، ليسمع نشرة الأنباء، ثمّ يعيد قراءتها بصوته الجهوري في أزقة البلدة، مقلّداً في ذلك أسلوب مذيعيها! وما إن تقع عيناه على فتاة جميلة حتى ينساق وراءها من مكان إلى آخر، رافعاً من وتيرة صوته، على أمل أنْ تتنبّه إليه، ثمّ ينتهي به الأمر إلى زاوية تخفيه عن العيون قليلاً أو كثيراً، ليمارس فيها العادة السرّية من غير أن يأبه بانكشاف أمره!
أمّا مجموعة "حمّالي السّلة" في سوق الهال فهم حلقة مهمّة من حلقات تلك السلسلة، فهم يقومون بدور وسيط بين الباعة وزبائنهم صباحاً، ويقتصر ذلك الدور على إيصال الخضار واللحوم إلى بيوت أولئك الزبائن حتى تخوم الظهر، أمّا بعدها فلابأس بشيء من اللهو، إذْ هاهم قد انقسموا إلى فريقين متناحرين، لتبدأ الحفلة التي ليس لها نظير، فتغادر الطماطم المتعفنة حاوياتها، وتتطاير عبر الأزقّة المسقوفة، تلطّخ الجدران والأبواب والزوايا التي تدارى أفراد المجموعتين خلفها، وتنداح على الأرضية المغمورة بالسوائل والمياه العفنة، فتلقي فوق قذارتها بقذارة جديدة، من غير أن يستطيع أحد التدخل بينهم، أو تفريقهم! والويل ثمّ الويل لبدوي نسي نفسه، أو قاده حظّه العاثر إلى مقربة من المكان، إذْ أنه لن يفلت ـ حينئذ ـ من لطخة حمراء على الظهر أو الحطّة، وقد يرتمي العقال عن رأسه، غير أنه لن يجرؤ على الاعتراض! وعندما تتدثّر الأزقة الشاحبة بالعتمة مساءً، يرجعون إلى بيوتهم ملوحيّن مُنهكين، ويخلعون سلالهم عن ظهورهم، ثمّ ينامون من قبل أن يغسلوا أيديهم أو وجوههم أو أرجلهم! إنّهم ينتمون إلى زنّار الفقر الذي بدأ يحيط بالبلدة، وبدعة كهذه لم تصلهم بعد! لكنهم على الشقاوات التي يقترفونها لا يقربون حمّالي "كراج النجمة"، ذلك أن هؤلاء أكبر سنّاً، وأكثر تماسكاً، وهم فوق هذا وذاك مُسلّحون بخطّافات حديدية ذات مقابض خشبية تساعدهم في العمل، أو في المشاحنات!
ولا تتحرّج عصبة "الكراج" تلك من فرض أتاوات صغيرة على الدكاكين التي تسوّر الساحة، أو تتفرّع عنها! إنّها بمعنى ما منطقة نفوذهم، وقد يُقدم أحدهم على استعارة تفاحة من هنا، أو عنقود عنب من هناك، من غير أن يدفع الثمن، لكن أصحاب المحلات يغضّون النظر عن الأمر، فهم يعرفون بأنّه فرد في مجموعة متراصّة متعاضدة، وأنه يقترف تلك "الجرائم" الصغيرة تحت مظلّة الإحساس بالقوة المُستمدّة من انضوائه تحت لواء جماعة متكاتفة، قد لا تجد غضاضة في الإقدام على عمل أكثر عنفاً إن وجدت من يجابهها، أو يشجعّها!
وإذا أُخذت الأمور بعواهنها، فإنّ أحداً من أفراد تلك المجموعات لم ينجح في أن يكرّس نفسه مثلاً أو قدوة أمام الآخرين، ربّما لأنّ ملامحهم امحّت في ملامح مجموعاتهم، فخصوصيتّهم هي نتاج كلّ لا نتاج جزء! إنهم جسد واحد بأذرع وأرجل كثيرة، لذلك فهم عاجزون عن تأكيد حضورهم في أذهان مَنْ هم أصغر سنّاً، على العكس من "كرمو" و "غنّاوي" و"حنّا النجار" و "عثمان" و "إبراهيم علي الدرة "!
و "كرمو" هو تصغير لاسم "عبد الكريم"، بما لا يتضّح معه إن كان مرد ذلك التصغير يرجع إلى التحبّب أم إلى التحقير، بيد أنّ المنطق يقول أنْ لا سبب يدعو الآخرين إلى تحقير الرجل، وإذن فلا بد أنه تصغير موغل في سنوات طفولته، ولا ينتمي إلى صورته الراهنة في شيء! ذلك أنّ "عبداً" استطاع أن يحوز بطولة الجمهورية في كمال الأجسام ، في الوقت الذي بوّأته دماثته مكانة تعلو على الحزازات والخصومات المستفحلة بين الآخرين!
أمّا "عبد الغني " أو "غنّاوي" فهو لا يقلّ عنه شهرة! إنّه بطل آخر من أبطال كمال الأجسام في البلدة، وهو يستأثر بمحبّة وإعجاب الصبية الذين يتوقون من كلّ قلوبهم إلى امتلاك عضلات فولاذية كعضلاته! إلا أن "حنّا النجار" هو النموذج الأكثر طرافة في ذلك العقد، ربّما لأنه يتسّم بطبع ناريّ لا يخلو من بعض رعونة، في حين تعطيه لحيته المُشذّبة "كاراكتيراً" خاصاً، يؤكّده سلوكه المتعالي في الطريق! أمّا في الحفلات فهو يصرّ على القيام بكلّ ما هو غريب وصعب، كأن يلتهم نثار الزجاج مثلاً، أو يسحب عربة بأسنانه! وقد يلوي أطواقاً من الحديد السميك بيديه المجرّدتين، أو يكسر صخرة كبيرة فوق صدره العريض! فيما يمثّل كلّ من "عثمان" و "إبراهيم علي الدرّة" نموذجين مختلفَيْن عن سابقيهم، فـ "عثمان" بدوي صحيح الجسم، تمكّن من أن يحقّق لنفسه قوة كبيرة بالمران، لكن بدنه لا يخلو من بعض ترهّل، فهو يجهل كلّ شيء عن قواعد التغذية، لذلك تراه شرهاً إلى الطعام، متوهّماً بأنّه يمدّه بالقوة، من غير أن يميّز في ذلك بين البروتينات والنشويات مثلاً، والمسألة ـ في النهاية ـ تدخل في باب التباهي؛ على أساس أنه يستطيع ما لا يستطيعه غيره! أما "إبراهيم" فهو لا يقلّ عنه قوّة، إلاّ أنّ قوّته ـ تلك ـ تقترن بالكثير من التهوّر والحماقة، تلك الحماقة التي ستدفعه ذات ليلة إلى مهاجمة فتاة جميلة أثناء عودتها إلى دارها القريبة من خزّان المياه، لكن الفتاة ستعضّه في شفته السفلى، وستنجح في التخلّص منه، وترك ندبة دائمة على تلك الشفة، وسينتهي به المطاف إلى السجن لبعض من الوقت، إذْ أنّه من فرط حماقته لن يداوي شفته بعيداً عن العيون، بل سيقصد مشفى البلدة مدّعياً بأنّه سقط عن ظهر الحصان، فتضع الشرطة يدها عليه! ولا شكّ في أن تلك النماذج هي فتّوات بمعنى ما، ولذلك فإن العلاقة بينهم تفتقد إلى المـودّة، لأنهم لا يكتفون بمناطق نفوذهم، بل يسعون إلى بسط سطوتهم على الأحياء المجاورة، وعندها ينشب بينهم صراع مريّر! ثمّ أن البلدة ما تزال صغيرة، ولابدّ للوجوه ـ فيها ـ من أن تتقابل، فلا تخلو تلك المقابلات من جرح في زند "حنّا" إثر طعنة سكيّن من "إبراهيم" غبّ معركة صغيرة لا تستحق الذكر، أو سنّ أمامية مكسورة جزئيّاً في فم "إبراهيم" بعد عراك مع "حنّا" أو مع آخرين! وإذا كانت مجموعة "حمّالي السلّة" أو حمّالي مرآب "النجمة" لا تملك أن تضاهي هؤلاء الفتوات، فهي قطعاً لا تحوز الأساس الذي تتقدّم به على مجانين البلدة؛ الذين يستأثرون بعطفها وسخريتها بآن، وعليه فإن أسماء "فياض" و "سيبورة" و "عزيزو" و "قاسو" و "ظافر" هي نجوم حقيقية في سمائها! ثمّ أن هؤلاء المساكين هـم الـمادة الأولية التي ينصّب عليها لهو تلك المجموعات ومجونها، فقد يهربون بالحلوى التي يلتقط "ظافر" رزقه بوساطتها، و "ظافر" لا يستطيع اللحاق بهم، لأذيّة ما في جهازه العصبيّ ـ الحركيّ، إنّه بطيء الاستجابة، لذلك فإنّه يسترحمهم لكي يعيدوها إليه، مظهراً لهم المسكنة حيناً، والغضب حيناً آخر، ولكن بلا أيّ جدوى! وقد يعنّ لهم أن يخطفوا معطف "عزيزو"، ويستولوا على الدريهمات القليلة التي تصدّق بها الناس عليه، فيجنّ فوق جنونه، ويلاحقهم من مكان إلى آخر، تسبقه شتائمه البذيئة المصحوبة بحركات مشبوبة مؤكّدة، إلى أن يستردّ معطفه، وقد يفتعلون معركة مع "سيبورة" لكي يبعدوها عن كوخها، ثمّ ينهبونه، ويبعثرون محتوياته، مؤكدّين أن خطوات اليفاعة الهوجاء قد مرّت بالمكان! إنهم لا يعرفون لماذا يتصرفّون على ذلك النحو، ربما لأنّهم لا يعون بأنّ حياتهم بائسة وشقيّة، وأنهم بتلك الطريقة إنّما ينفسوّن عمّا في صدورهم، منتقمين من حرمانهم، من غير أن ترتبط الوسائل ـ في أذهانهم ـ بالنتائج، وتستمرّ حياتهم على ذلك المنوال رتيبة بطيئة ومملّة! لكنّ لوحة البلدة لن تكتمل إلاّ إذا مرّت العين الملاحظة على حشّاشيها، وصيادي الأسماك، وروّاد المقاهي الصغيرة ذات الكراسي الواطئة خلف كأس من الشاي، أو نفس من "التنباك"، حيث الدخان الُمفعم برائحة النميمة، وآخر أخبار السياسة والتجارة والدعارة والفضائح المالية أو الأخلاقية التي تجري في الخفاء! بيد أن الألق الذي لا يُقاوم يظلّ من نصيب لاعبي كرة القدم، إذْ هاهي البلدة الوادعة بصغيرها وكبيرها تنقسم بين ناديي "الحسكة" و "الخابور" ليقف نصفها في صفّ الأول، بينما يقف نصفها الآخر إلى جانب الثاني، فلا يستطيع نادي "الجزائر" أو نادي "الشباب" أن يثبتا موجوديّة إزاء الناديَيْن السابقَيْن! أمّا "أبو كربو" و "جورج مختار" و "فيزي خليل" و "نبيل نانو" فهم أقمار بهية تحلّق في فضاء المكان، وقد لا يدانيهم في شهرتهم ـ تلك ـ إلاّ سيمون كَروّم لاعب كرة السلّة العتيد!
ولكن هل كنتَ تدري أنّ تلك الوجوه ستغيب يوماً، أو تفقد ألقها، وتنزوي في ركن مُهمل، فيغمرها النسيان!؟ وأنّ هذا ربما تزامن مع ظهور قطب كبير في الشرق، راحت أفكاره تراود الكثيرين على حساب المكانة التي كان الغرب يتربّع عليها بشكل تقليدي، باعتباره مركز الحضارة العالمية في الأزمنة الحديثة، لا سيما حين طالت تلك الأفكار مسؤولين في مفاصل هامة من الدولة! ليس على مستوى القطر فحسب، بل على امتداد الخارطة التي كانت تنضوي على ما يُسمّى بالعالم الثالث، فتفتقد البلدة تلك السلال المعدنية التي كانت تتشبّث بخاصرة أعمدة الكهرباء، كي يلقي الناس بأوساخهم فيها، وتختفي المربّعات الترابية الصغيرة المخصّصة لزراعة الأشجار من أرصفتها!؟ ولكن هذا لا يعني أنّ ظهور ذلك القطب هو السبب الوحيد في غياب تلك المربّعات، فلا شك في أنّ يأس البلدية من صلاح حال الناس، وانعدام تفهمّهم لضرورة الحفاظ على نظافة البلدة؛ قد لعب دوره في غياب تلك السلال والمرّبعات، إذْ كم من سلّة غابت إثر ليلة ظلماء، وكم شجرة زُرعت في الصباح، ثمّ مرّ بها أحد مربّي الماشية في غدوه من السوق أو رواحه، فاقتلعها ليهشّ بها على دوابه، وحين أحاطت البلديّة الشجرة الجديدة ـ التي زرعتها بدلاً عن تلك التي اقتُلعت ـ بمشبّك حديدي يحفظها، غاب المشبّك نفسه مع الشجرة! فما عادت البلديّة تسعى إلى تقليد البلديات في الغرب، ولم تنجح في إرساء القواعد لبلدة نظيفة مثل المدن في الشرق الاشتراكي، وهكذا تحولت البلدة إلى مكان مُكتظّ وقذر، يسفّه الغبار صيفاً، ويغمره الطين شتاءً! وقد ترغب في أن تضمّ سبباً آخر إلى خانة الأسباب السابقة، ذلك أن قوة الدولة وحضورها في الحياة اليومية راح يزداد يوماً بعد يوم، كما ازدادت هيمنة شرطتها ومخبريها وموظّفيها وأجهزتها ومؤسّساتها المنظورة وغير المنظورة على كلّ مرفق، بحيث راح صوتها يعلو على كلّ صوت! كانت البنى العشائرية قد تراجعت كثيراً، وما عاد رجال من وزن "عبد العزيز المسلط"، أو "أكرم حاجو"، أو "آل مرشو" سادة مُطلقين في الريف أو المدينة، وتحوّلت البلديات بالتدريج إلى مجموعة من الموظفين يهمّها ـ أولاً ـ ما تقبضه في مطلع كل شهر، كما يهمّها أن تظلّ الوظيفة في حدود المفاهيم السائدة في البلدان المتخلّفة، ذلك المفهوم القائم ـ أساساً ـ على مبدأ الامتيازات، وألاّ تتحوّل إلى دورها الأساسي كقطّاع خدميّ، وبالتالي فإنّها لم تكن ترى كبير حرج في تراجع الخدمات القائمة!
وهكذا ستأفل عن سماء البلدة الكثير من الشخصيات التي وشمت أزقتها بعلامات مميِّزة، فيغيب "علو" أياماً ثمّ يكتشف الأهالي بأنّه مات في كوخه بصمت، وأنّ كلابه لم ترَ غضاضة في نهش جثته عندما أمضّها الجوع في الكوخ المُغلق، ولم تجد شيئاً تأكله، وتحصد المنيّة "أبو زهرة" درّة "كراج النجمة" اليتيمة، ودلاّلها الشهير، فيغيب قميصه المخطّط ذو المربعات، وتختفي قبّعته المتكسّرة الأطراف، ويغيّب الثرى جرمه الضخم المتناقض مع رأسه الصغير، وعينيه الحولاوين، يموت الرجل ذو اللسان اللاذع، فيرتاح مسافرو الريف من سخريته وقسوته! وتموت "سيبورة" في هدأة من الليل، فلا يشعر بهـا أحـد، وتنقلب العربـة السيـارة "بحنّـا النجـار" على الطريــق
القادم من "حلب"، فينهض مذهولاً، ويرى في تلك اللحظة الكاشفة السابقة على الموت منيّته، فيصرخ محتجّاً، أو مدهوشاً:
ـ حنّا يموت! لا..لا حنّا لن يموت!
كان شاباً قوياً، مُعتّداً بنفسه، فلم يصدّق بأنّه سيموت هكذا ببساطة، لكنه مات، وشهدت البلدة واحدة من جنازاتها الحافلة، التي طافت بشوارعها وأزقّتها على أنغام الموسيقى، فيما راحت الجموع تودّع صاحبها المطلّ من لحده ذي الغطاء الزجاجي المُكلّل بالزهور! واختطفت الغربة "سيمون كَروم" و "فيزي خليل" فتاهت الخطا بالأول خارج حدود القطر، بل خارج حدود القارة كلّها، إذ أنه استقرّ في واحدة من الأمريكيتين، وألقت بالثاني على أعتاب حاضرة البلاد بحثاً عن اللقمة ربّما، في حين انتهى " إبراهيم علي الدرّة" إلى أحضان جنون غريب أحاله إلى شخص خائف و مسكين، بعد أن كان يزرع الطرقات بجبروته وقسوته، واختفت ملامح "عثمان" طيّ بدانة مبكّرة تشي بالهرم، وتفرّقت الجماعات في دروب الحياة، فما عدتَ تصادف أحداً من "آل المرتضي" إلاّ إذا قصدتَ سوق اللحّامين، وما عدتَ ترى "غنّاوي" إلاّ إذا مرّ بك الدرب بحيّ "الناصرة"، ووقعت عيناك على صالة بيته التي حوّلها إلى ما يشبه نادياً لكمال الأجسام فيما درست آثار الكوخ الحجري الذي لم يكن يرتفع عن نصف قامة الإنسان، بعد أن تيبّس "قاسو" بداخله ذات صباح! غاب من غاب، وغادر من غادر، في الوقت الذي كانت البلدة ـ فيه ـ سادرة في هواجسها بعد أفول الزمن الذي كانت الأحلام ـ فيه ـ تبدو؛ كأنها في طريقها إلى التحققّ!
يتبع إن شاء الله