ميج وميراج - 12
د . خالد الأحمد
مضى شهران والقواتُ المصرية في حالة تأهُّبٍ حَرَمَها من الحفلة الشهرية، فضجر الطيارون ونفد صبرُهم بعد أن اعتادوا عليها لعدة سنوات تطالعهم مع بداية كلِّ شهر فيعيشون مع آثارها وفي انتظارها بقيةَ الشهر، أمَّا وقد خَفَّتْ حِدَّةُ الاستنفار الكامل إلى الثلثين، فالوقت مناسب للحفلة، وأصبحت الحفلةُ هي الشغل الشاغل لـ (آرام نوير) الذي كادتْ نفسُه تُمسك عن الطعام، لأن التفكيرَ في الحفلة مَلَك عليه نفسَه.
- الحفلة يا سيادة الجنرال.. لا تنس أن نُسُورَنا في حالة تَأَهُّبٍ منذ شهرين. قال (آرام).
- لكن أما سَمِعتَ التقريرَ عن سيناء اليوم؟
- ماذا ؟ وكاد قلبُ (آرام) يخرج من صدره.
- ثلاثة ضباط كبار مع وثائقهم ضَلُّوا الطريقَ بسيارتهم وضاعوا في سيناء.
- ولماذا أنتَ قَلقٌ ؟! سوف يحرقون ما عندهم وانتهَى الأمر.
- معهم وثائق كثيرة وخطيرة ، ولم تُعلِنْ إسرائيل أنها أَسَرَتهُم.
- سيعودون غداً إن شاء الله.. المهم أن نعود إلى الحفلة.
- أين نقيمها ؟
- أقترح أن نُوَزِّعَها على مكانين، أنشاص في الداخل، وبير كفكفا في سيناء، مائتان من النسور في كل واحدة، والثلث الباقي سيكون في إجازة ليلية، وقد يحضرون معنا في أنشاص إن شاءوا.
- كما تريد يا (آرام).
نشط المفتشُ العام خلال عدة ساعات، فأرسل كميات من الويسكي والشمبانيا إلى كل من نادي أنشاص وبير كفكفا ، كما وصلت (سهير زكي) إلى أنشاص، و(نجوى فؤاد) إلى بير كفكفا ، وتَمَّ شحنُ أكثر من مائتي فنانة وراقصة ووصيفة إلى بير كفكفا ، وأكثر من ذلك إلى أنشاص.
- وافَقَ جميعُ قادة القواعد على الحضور، ما عدا (شحاتة عبد العظيم) قائد قاعدة أسوان. قال (آرام).
- لا ، إن شاء الله ما يأتي إلى هنا، إذا وافق يذهب إلى بير كفكفا ولا يأتي معنا.
- لم يُوافقْ ولم يَسمَحْ لأَحدٍ من طياريه.
- دَعهُم ، لا يضرون ولا ينفعون، وسوف ينقم عليه طيارُوهُ لأنه حَرَمَهُم ما عَوَّدناهم من رفاهية وسعادة.
- الحفلة يجب أن تكون في ليلة الخامس من يونيه سيدي الجنرال.
- كما تريد يا (آرام).
* * *
(8)
عندما يعتاد الآدميُّ على سلوك معيَّن ثم يُحرَمُ منه تتشكَّلُ لديه رغبةٌ قويةٌ تتناسبُ قوتُها طرداً مع قوةِ العائق الذي يمنع هذه الرغبةَ من الإشباع، فالحرب أو التأهب للحرب كان عائقاً أمام رغبة الطيارين المركَّبة في الحفلة المعتادة، حيث يَشبعون من الطعام والشراب والجنس والاجتماع وحب الـذات وتوكيدها بطرق منحرفة جعلها التَّكرارُ مألوفةً لديهم، لذا كانت فرحتُهم كبيرةً جداً عندما اجتمع في قاعدة أنشاص مائتا طيار وأكثرُ من مائتين من الضباط الجوِّيين، جاءوا من قواعد مصر الداخلية، وكذلك مثلُهم أو أقل في قاعدة بير كفكفا في سيناء، اجتمع بها عناصرُ القواعد المتقدمة.
كان (آرام) و(الفريق لطفي) و(سهير زكي) في أنشاص، ومَن يمثِّلُهم مع (نجوى فؤاد) في بير كفكفا ، وبعد أن توارت الشمسُ هلعاً مما ترى، ومن الخطر المنتظَر، صعد المفتشُ العام المنصةَ يُعلنُ عن برنامج الحفلة، وقد أشار إلى مفاجأة خبأها إلى حينها، ثم صُفَّتْ أصنافُ الأطعمة، وتوزَّعتِ الزائراتُ اللاتي كان عددُهُنَّ يَفوقُ عددَ الضباط الحاضرين، وانتقتْ كلُّ واحدة شريكَ دعارتها تلك الليلة، وَوُزِّعَتْ زُجاجاتُ الويسكي وقطعُ الثلج التي نُقِلَتْ جَوّاً من القاهرة إلى بير كفكفا وأنشاص.
وتنافَسَ اللحمُ بين المحمَّر على الموائد، والمحمر في الوجوه الشاحبة، والمضطرب في أجساد الراقصات، وتطايرت رائحةُ أُمِّ الكبائر تُفرغُ الرؤوسَ من بقايا عقلٍ وحياء، فتمتدُّ الأيدي والأَرجُلُ معاً، تماماً مثل ذَواتِ الأربع!.
* * *
بين الحين والآخر يتَّصلُ (آرام نوير) هاتفياً ببير كفكفا لِيَطمَئنَّ على سَير الحفلة هناك كما خَطَّط، ويسمع من خلال الهاتف عَزفَ الموسيقى وقهقهة السُّكارَى، ثم يُعَبِّرُ عن أَسَفِهِ لعدم تَمَكُّنه مُشاركتهم، لأنه لا يستطيع أن يحضر في مكانين بآنٍ واحد، لكنه يَثِقُ بأعوانه المُخلِصِين الذين يهمُّهم الترفيه عن سلاح الجَوِّ المصري.
* * *
كان (شحاتة عبد العظيم) يتقطَّعُ أَلَماً وغيظاً وحسداً على هذا الحمق الذي يجري في أنشاص وبير كفكفا ، وهو الذي أُبعِدَ عن سلاح الجَوِّ إلى باريز ثم أُعيدَ إليه، لكن قائداً لقاعدة أسوان البعيدة عن القاهرة وعن قصر القبة ومنشية البكري، كان (اللواء شحاتة) يكره (الفريق لطفي ) كثيراً، ويظنُّ أنه غيرُ سَوِيٍّ وغير طبيعي، حتى أنه لم يستبعد عمالتَه لليهود، لأن الملذات عنده أهمّ ما في الدنيا، وأكثر ملذَّات الدنيا عند اليهود، لذلك اتَّصلَ عدةَ مرَّات بالفريق (محمد فوزي) رئيسِ الأركان العامة، يحثُّه فيها على عدم الموافقة على إقامة الحفلة، كان آخرها عندما قال له (فوزي):
- يا ابني ، أنت مهمـوم أكثر من اللازم ليه؟ هو أنـا وأنت مسئولون عن مصر وحدنا؟ لقد أقامها (الفريق لطفي حبيب) وهو فريق مثلي، ولم يرجع إلى أحد.
- غريب ! كيف لا يرجع لك يا سيدي الفريق؟!
- لا غريب ولا عجيب يا لواء (شحاتة)، (الفريق لطفي ) من المقرَّبين ومدعوم بدون قيود من المفتش العام، ولذلك كلمته كلمة واحدة وليست كلمتين.
- سيدي مَن هذا المفتش العام بالله عليك؟ وما هي رُتبتُـه؟
- سامحك الله (يا شحاتة).. أنت صحيح كما قال (لطفي) عنك، أنت مثالي، المفتش العام يا (شحاتة) مدعوم بالدولار، وأي رتبة تَقِف أمام الدولار، إنه يملك رصيداً غير محدود من الدولارات...!!
- يا سيدي نحن في حكومـة ولاَّ بورصـة؟!
- لا ، حكومة، لكن حتى الرئيس و(زكريا محيي الدين) يَثِقُون به، أليسَ الرئيس هو الذي عَيَّنَه؟
- نعم .
- إذن هو المفتش العام لسلاح الجوِّ المصري.
- وهل نبقى الآن مكتوفي الأيدي والطيارون يشربون الخمر الآن؟
- لا ، لا ، سنحاول تفريقَ الحفلة بالحكمة.
عندما اتصل الفريق (فوزي) بالفريق (لطفي) يرجوه أن يُوقِفَ الحفلةَ فوراً، وأن يذهب الطيارون إلى النوم، أجاب (لطفي) بصوت مخمور:
- أنا فريق ولاَّ عربجي؟! يا سيدي !!! أنا قائد السلاح الجوي أم طرطور؟!
وأغلق سماعةَ الهاتف، بينما ضرب الفريق (فوزي) كفاً بكفٍّ وهو يقول: لا حول ولا قوةَ إلاَّ بالله.
بعد أن أغلق (لطفي) الهاتف في وجه الفريق (فوزي) قال للمفتش العام:
- الفريق (فوزي) يطلب مِنَّا أن نذهب إلى النوم، غريب والله، نحن صغار ولاَّ تحت الوصاية؟! لازم ننام الساعة التاسعة، هو يظن أننا في الكلية ؟!
ويرفع الكأس ويردِّد: ... وما أطال النومُ عمراً... فتقترب الراقصةُ منه تُنَمِّي عندَهُ الموهبـة، وتشجعه على تَفَتُّحِ ميولـه.
في تمام الواحدة ليلاً نفدت صناديقُ الويسكي المستوردة بالعملة الصعبة لحساب القوات المسلحة ومِن ميزانيتها، لكنَّ الظَّمَأ لم يُطفَأ، ولم تكفّ الدولارات المقتَطَعة من قُوت الشعب المحروم الذي يُعاني الألم والحرمان والقهر، وَتَلَفَّتَ الشاربون إلى كؤوسهم الفارغة، فأشار المفتش العام إلى أحد أعوانه الذي صعد المنصة، وقال:
- لأنكم ما زلتم عطاشـاً، تُمعِنُونَ النظرَ في كؤوس فارغة وقد نفدت مُخَصَّصاتُ الحفلة من الشراب، إلاَّ أنَّ...! (وصمت برهة).
فهاج الحاضرون يُرَدِّدون (إلاَّ أنَّ...!) ، فيتابع:
- إلا أن المفتـش العـام أحضَرَ لنا من حسابه الخاص عدداً من صناديق الشمبانيا لنشـربَ ونتابع الحفلة في هذه الليلة العظيمة، ليلة الفرح والطرب ونُحييها حتى الضُّحَى.
فَيُرَدِّدُ القطيع : عـاش المفتش العـام، عـاش عـاش.
وكان الهتاف متكسِّراً في أفواه السُّكارَى، بينما وُزِّعت صناديقُ الشمبانيا لتفرغ في البطون المسعورة.
بدأت فرحةُ النصر تعبثُ بانتباه (آرام)، فها هو تَمَكَّن من تَسكِير أربعِمائة طيار في ليلـة كــوثـر، هذه الليلة الفريدة في التاريخ، بل فريدة في الدهر كله، ليلة سَيُذَلُّ فيها العربُ والمسلمون إلى ما شاء الله، بل لم يكن يَحلُمُ أن يخلط الطيارون الويسكي بالشمبانيا حيث يصيبهم خبل لا ينفك عنهم قبل أربع وعشرين ساعة، وعند ذلك بدأ دماغُه يدور، فقام إلى صنبور الماء وغطس رأسَه بالماء البارد لمدة دقيقة، فعاد إليه الانتباهُ، وقال لنفسه:
- كيف أتأكد أنني في واقع وليس حلماً، لقد حلمتُ طيلة ستة عشر عاماً بهذه الدقائق، فهل ما زلت أحلم؟ أم أن الحلم أصبح واقعاً؟ أصحيح أنني تمكَّنتُ من ذلك كلِّه؟ أنا.. أضحك على مصر كلِّها، وأُسكِرُ أربعَمائة طيار في هذه الليلة؟! كـوثـر.. حيث يبدأ الهجوم الجوي الإسرائيلي بعد بضع ساعات ...!!!
ويعود إلى الماء البارد ويستحم به لِيُذهب الدوارَ الذي بدأ يحسُّ به، ثم يقول لنفسه:
- لقد أحسستُ بالدوار، وأنا الذي اعتاد الشرابَ وتخليطَ الشراب منذ عشرات السنين، فكيف هؤلاء الأولاد الذين يشرب بعضُهم للمرة الثانية أو الثالثة أو حتى الخامسة؟ ومعظمهم يخلط الشرابَ للمرة الأولى في حياته؟ إنهم الآن لا يُمَيِّز أحدُهم بين رجله أو ذراعه أو عصا قيادة الطائرة....!!!
ويتأكد (آرام) أنه في واقع وليس في حلم، ويبدأ بتحاشي الشراب، لكنه يتظاهر به، فيرفع الكأسَ ثم يُعيدها على حالها بعد أن فَقَدَ الجميعُ ملكةَ الإدراك والملاحظة.