عينان مطفأتان ، وقلب بصير(8)
عينان مطفأتان، وقلبٌ بصير
عبد الله الطنطاوي
الفصل الثامن
كانت أمّ صالح تنظر إلى الأثاث في انبهار، فهي لم تدخل قصراً من قصور الكبراء قبل
اليوم، ولهذا كانت مأخوذة بكل شيء في قصر الوزير، وما دخلت حجرة إلا رأتها أجمل من
أختها، وكانت لا تملك لسانها من التعبيـر
- هل هذه الكراسي الجميلة من صنع العميان عندكم؟
ضحكت أروى من هذا السؤال، فحدجتها أمّها بنظرة عتاب، فوضعت كفّيها على فمها، وابتعدت عن أمّها التي أجابت:
- يا أختي أمّ صالح.. هذه الكراسي يصنعها المبصرون الحاذقون، أمّا العميان فلا يستطيعون، لأن صناعتها دقيقة جداً.
- ولكنّ ابني صالح عمل ورشة في الطيبة لعميان القرية، من أجل صناعة كراسي القش، وكراسي الخيزران أيضاً.
قالت نفيسة:
- شيء حلو والله.. أرجو أن يتمكّنوا من صناعتها.
- العميان، يا حاجة نفيسة، أذكياء، ماهرون، عوّضهم الله عن عيونهم بأشياء أخرى.. ولدي صالح مثلاً أعمى، ولكنه أذكى من كل أهل الطيبة، وما يعمله، لا يستطيع كل أهل الطيبة عمله، مثلاً حفظ القرآن وهو صبي صغير، وغيره من (المفتحين) لم يحفظوه.. حتى أبوه لم يستطع حفظ ربع القرآن الكريم.
قالت نفيسة:
- بارك الله لكم في ولدكم، فقد عرفت عنه الكثير من زوجي.
- زوجك الوزير مثلاً.. هل يحفظ القرآن؟
- لا.. يحفظ بعض أجزائه وبعض السُّور.
- ولكنه يحبّ الشيخ صالحاً، ولا يحسده كأولاد الطيبة.
ابتسمت نفيسة ابتسامة خفيفة، وقالت:
- زوجي يحبّ الشيخ صالحاً كما يحبّ أولاده.
قالت أمّ صالح:
- وأكثر!.
نظرت السيّدة نفيسة إلى أمّ صالح، وقرأت البراءة في وجهها، والصدق في لهجتها، والبساطة في تصرّفاتها، فلم تستنكر كلامها، وادّعاءها بأن زوجها الوزير يحبّ ابنها أكثر من أولاده، بل قالت:
- سمعت منه أنه سوف يسعى ليستكمل صالح دراساته العليا، ولن يتركه يضيع لحظة من عمره، فأمامه الماجستير، والدكتوراه، بعد الليسانس.
قالت أمّ صالح:
- سمعت هذا الكلام من الشيخ صالح، ولكنني لن أوافق.
- لماذا؟
- يا أختي نفيسة.. متى سيتزوج؟ هل سيتزوج تلك الشهادات التي يحلم بها؟ أريد أن أرى أنا، وأبوه أيضاً، نريد أن نرى أولاده يملؤون علينا الدار بصياحهم وألعابهم.
قالت نفيسة:
- يجمع بين الأمرين.
- كيف؟
- يتزوج ويتابع دراسته.
اعترضت أمّ صالح:
- كيف؟ المفتّحون لا يستطيعون أن يحملوا بطيختين في يد واحدة، فكيف يستطيع هو، وهو أعمى كما تعلمين؟
نهضت نفيسة، فنهضت معها أمّ صالح وهي تقول:
- عند أبي معن بنت مثل القمر ليلة البدر. أدعو الله أن يجعلها من نصيب ابني الشيخ صالح، وإن كان -يا حسرة- لا يستطيع أن يرى جمالها وحُسنها.
فيما كانت المرأتان تسيران في حديقة القصر، كانت أمّ صالح تطري ولدها، وجماله، وتقول:
- والله لو حصل النصيب، وتزوّج ابني صالح من بنت أبي معن، ورزقهما الله أولاداً، فسوف يكونون في مثل حُسن سيّدنا يوسف.
قالت نفيسة:
- عليه الصلاة والسلام.
وتابعت أم صالح:
- ولكنْ، يا حسرة، أبو معن رجل غنيّ، ونحن مستورو الحال، ولذلك، فهمتُ من أمّها أنهم لن يزوّجوها إلا لولد من أولاد الأغنياء.
- يعني.. خطبتِها منها، فقالت لك هذا الكلام؟
- لا.. لم أخطبها صراحة، ولكني عندما أبديت إعجابي بها، قالت:
»تقدّم لخطبتها أكثر من عشرين شاباً، ولكنهم لم يعجبوها، فرفضت أن تزوّج ابنتها من أيّ واحد منهم« فسكتُّ، ودعوتُ أن يرزقها الله ابن الحلال الذي يعجبها ويسعدها.
سحبتها السيدة نفيسة من يدها إلى أرجوحة قرب البركة، وجلست وحاولت أن تجلسها معها، فأبت، وقالت في شبه غضب:
- ما هذا يا أختي نفيسة؟ هل نحن صغيرات حتى نركب الأرجوحة؟
ابتسمت السيدة نفيسة، وجرّتها من يدها، وهي تقول:
- اجلسي يا أمّ صالح، فهذه للكبيرات مثلي ومثلك، وليست للصغيرات.
وأشارت إلى أرجوحة الصغار وقالت:
- تلك الأرجوحة للصغار.
ابتسمت أمّ صالح، فقد شعرت بارتياح، ورفع الكلفة، ثم قالت:
- عفواً يا ست نفيسة، ظننتك تمزحين معي، وتريدين أن تضحكي عليّ أنت وبناتك.
قالت نفيسة في سعادة، وهي ترى طيبة القلب التي تتمتع بها هذه المرأة التي لم تعرف لها من تماثلها من النساء اللواتي تعاشرهنّ وتصادقهنّ:
- لا يا أم صالح. أنت أختي، وحقّ الأخت على أختها أن تكرمها، لا أن تؤذيها.
انتفضت أمّ صالح، وحاولت أن تقفز من فوق الأرجوحة، فلم تستطع، فنظرت إلى نفيسة وقالت:
- يا ويلي ويا سواد ليلي يا ست نفيسة.. أنا أسحر منك؟ أنت أختي، أنا أحبّك كما أحبّ أختي الوحيدة خديجة، بل أكثر، فأنت إنسانة رائعة، لا تسبّين أحداً كأختي، ولا تتكلمين إلا بخير، فكيف لا أحبُّك؟
طمأنتها نفيسة، وقالت:
- هكذا الأخوات يا أمّ صالح.
قالت أمّ صالح:
- والله الذي لا إله إلا هو، ذكركم أطيب من رائحة الورد الجوري.. ولدي الشيخ صالح يذكركم دائماً وأبداً بخير، وكذلك أبو صالح، حتى غرت منكم.. أنتم، والله، في القلب قبل أن نعرفكم، فكيف بعد أن عرفناكم، وقضينا هذه الساعة الحلوة بينكم؟
وهكذا استمرّ الحديث بين المرأتين الطيبتين، بينما كان الوزير مع صالح وأبيه، يتحدثون حول مشروع مركز الأبرار، والمراحل التي قطعوها في تنفيذه، والأموال التي جمعوها له.
تذكّر الوزير أمراً أضاء وجهه، فقال:
- نسيت أن أخبرك يا صالح، ويا أخي أبا صالح، بأن الدكتور قد تبرّع هو وزوجته وأطفاله تبرعات سخيّة جداً، سوف تغطّي كثيراً من النفقات، وقال لي: سوف يؤسس وحدة صحيّة في المركز، وسوف يشرف هو بنفسه عليها.
فهتف الشيخ صالح في همس وقور:
- الله أكبر..، الله أكبر..، الحمد لله الذي وهبنا هذا الطبيب الفاضل، الذي اختصر لنا الطريق، وحقّق ما نحلم به.. الحمد لله.. ألف الحمد لله على ما تفضّل به وأنعم.
قال الوزير في سعادة:
- كلّ هذا التوفيق ببركة إخلاصك وصدقك يا شيخ صالح.
بكى الشيخ صالح من شدّة الفرح، حتى علا نشيجه، ودمعت عيون الوزير وأبي صالح الذي قال:
- أرجو أن يكون ولدي مباركاً.
قال الوزير:
- هذا ما استيقنتُه من خلال ما مرَّ بنا من أحداث يا أبا صالح.
قال صالح بصوت باكٍ متهدج:
- أنا عبد فقير قليل يا أبي ويا عمي، ولكنها بركتكم وبركة الصالحين من أمثالكم.. كالإمام العابد المتبتل، والحاج فاتح التاجر الغني الشاكر الذي يبذل للمشروع بسخاء من لا يخشى الفقر.
قال أبو صالح:
- الحاج فاتح، حفظه الله وإياكم، يبذل للمشروع وغيره، وأريد أن أطلعكم على سرّ ما أظنّ أحداً يعرفه من أصحابه غيري..
سكت أبو صالح، فحثّه الوزير على الكلام، فقال:
- أخشى أن يزعل إذا علم أني أفشيت هذا السرّ.
- هل دعاك إلى كتمانه؟
- لا.. ولكني لاحظت حرصه على أن يبقى سرّاً بيني وبينه.
قال الوزير:
- إذا كان الأمر كذلك، فلا بأس من الحديث عنه.
سكت الوزير لحظة كمن يفكر، ثم قال:
- نحن نقرأ في الكتب عن ورع الصالحين، وعن كرمهم، وبذلهم، وشجاعتهم، وعلمهم، وسمّو هِمَمِهم، ولو لم يتحدّث الذين يعرفونهم عنهم، لما قرأنا تلك المآثر والأخبار الرائعة التي تدعو إلى التأسّي بهم.
قال أبو صالح في فرح:
- إذا كان الأمر كذلك، فاعرفوا، باختصار شديد، أن الحاج فاتحاً يعول سبع عشرة أسرة فقيرة مستورة، وأنا أساعده في ذلك بجهدي، وهو يبذل لها بسخاء.. وتلك الأسر تظنّ أني أجمع لها من الحاج فاتح ومن زملائه التجار، ولا تعرف أنّ كلّ ما يُقدّم إليها، إنما هو من حُرِّ مال الحاج فاتح.
فهتف الوزير في إعجاب:
- الله أكبر.. ما أروعك يا حاج فاتح.. تجلس معنا فلا تتكلم إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وتتبرع للمشروع على استحياء، ولا نكاد نعرف ما تتبرع به إلا من خلال اللجنة التي تنظر إليك في تقدير وإعجاب.. ما أروعك.
قال أبو صالح:
- كم قلت للشيخ صالح أن ينظم قصيدة في مدح الحاج فاتح، ومدحك يا معالي الوزير، فكان يأبى، مع شدّة حبّه لكما، ومعرفة مآثركما.
قال الوزير:
- حسناً فعل، وإلا.. أذهب حسناتي بكلام ننتشي بها لحظات، فتأكل تلك النشوة العارضة، ما يقدّم الواحد منا من حسنات.. هذا إذا كان ما نقدّمه حسنات..
قال أبو صالح:
- قلت له: يا ولدي يا شيخ صالح، سيفرح معالي الوزير، وسيفرح الحاج فاتح بشعرك فيهما، ولكنه كان يقول:
"لا.. لن يفرحا بشعري، بل قد يستاءان مني ومن شعري، وقد يعدّاني منافقاً وممالقاً ومرائياً".
قال الوزير:
- القسم الأول من كلامك يا شيخ صالح صحيح.. ما كنا لنفرح بمدحك لنا، والقسم الثاني غير صحيح، فما يخطر على بالنا أن تكون منافقاً أو مرائياً.. حاشاك يا ولدي، فأنت أكبر من هذا وذاك يا ولدي.
سكت الوزير لحظة، ثم نادى الخادم، وقال له:
- هات الهدية للشيخ صالح.
سأل صالح عن الهدية ومناسبتها، فقال الوزير:
- أما المناسبة، فظهور شيء جديد تستفيد منه في حياتك الدراسية، فقد ظهر شيء جديد ومهمٌّ جداً يا ولدي، وهو القراءة بطريقة الأوبتكون.
- قرأت عنها في مجلة المكفوفين التي تأتيني من لندن، وقالوا في المجلة عن ذلك الجهاز العجيب: إنه ظهر عام ،1971 وقالوا إنه يتكوّن من كاميرا صغيرة، وشاشة صغيرة، وجهاز بحجم آلة التسجيل الصغيرة، فيه فتحة تسمح بدخول الأصبع السبّابة فيه، من أجل القراءة.
قال الوزير:
- بارك الله فيك يا ولدي، ظننت أني سأفاجئك بهذا الجهاز العجيب الذي وصل إلى العاصمة قبل شهر واحد فقط.. هاتفتني الشركة المختصة بعد وصوله بأيام، فحجزت لك جهازاً.. وقد قالوا لي: إن هذا الجهاز يساعدك على قراءة المواد المطبوعة، من كتب وصحف ومجلات وسواها، وذلك بتحويل الرموز المكتوبة إلى رموز محسوسة تحت السبّابة، فأنت تستطيع أن تحسّ بشكل الحرف المقروء بوساطة الكاميرا الصغيرة التي ذكرتَها قبل قليل.. قالوا: وفي الوقت نفسه يظهر الحرف المحسوس على الشاشة الصغيرة، بحيث تسمح للمعلم بمراقبة ما تقرأ أنت أو أي متعلم.
سأل أبو صالح عن ثمن هذا الجهاز العجيب الذي سيجعل الأعمى كالبصير في القراءة والمطالعة، فقال الوزير:
- كلّ شيء يهون في سبيل تذليل الصعوبات التي تعترض ولدي الشيخ صالح، وتعينه على أن يكون كفئاً لزملائه في الجامعات.
هجم أبو صالح على يد الوزير، وأخذ يقبّلها ويدعو لصاحبها، والوزير يحاول سحبها من بين كفّيه القويين، فلا يستطيع.
يتبــــع