رياح ورقة يوليوز
أرى ما أريد وأكتب ما أحب
شعيب حليفي
كان آذان الفجر المنبعث من مسجد السنة ،في علو كُدية الرياض العالي وحي الأندلس بالدار البيضاء ، يسري في ظلام بدايات شهر يوليوز مثل نور سماوي..صوت رخيم وحنين يدعو منذُ ألف وخمسمائة سنة إلى لقاء الله والحياة.
كنتُ ما زلتُ مُمدَّدا على الفراش استمع إلى ابتهالاته الطالعة من قلب كبير يخاطبنا ويتأملنا . ثم نهضتُ مع بدء الآذان ؛لبستُ التْشَامير وبي رغبة في الصعود إلى السطح .صعدتُ فلفحتْني ريح روحانية لا شرقية ولا غربية قادمة من السماء .لم أدرِ كم بقيتُ من الوقت متأملا ومصيخا إلى صوت يناديني .
مع مطلع شهر يوليوز،تتغير الحياة وتصبح الأيام والليالي جزءا من ذكريات فاضت عن أزمان سابقة .شعرتُ بالتعب في مساء اليوم الثاني ، لبستُ لباس البيت ، ثم جاءتني زوجتي بسطل ماء دافئ به بعض الملح، غطست فيه رجليَّ لبضع دقائق .قمتُ وأكلتُ أكلا خفيفا وصعدتُ للنوم ؛تمددتُ على فراش فوق الأرض وقد بدأ إحساسي بحرارة وحريق بعيني ،تفحصَتْهُما الزوجة الفاضلة وقالت لي بأنهما مثل جمرة دم .بعد ذلك هيأَتْ لي ضمادتين من الكتان في حجم قطع طماطم مشطورة بحجم العين محشوتان ببعض البابونج وورق الشاي الأخضر، وبعد تدفئتهما بالبخار ، مرَّرَتْ على عينيَّ مرودا خشبيا عتيقا ، من عود الكركاع ، بعدما غمَّسَته في كُحْلٍ دمناتي أصيل .أحسستُ بمذاقاته حينما أعقبتْ ذلك بوضع الضمادتين، ثم ارتخيتُ أصيخ السمع إلى سريان الكحل بكل عروق رأسي والى ما يصلني من أصوات أطفالي وقد التفُّوا حول أمهم التي ظلت تأمرهم بصوت خفيض أنْ يوقفوا ضجيجهم .
مع شهر يوليوز تتغير بعض عاداتي بالبيت ، حيث نتحرر من عُرف توقيت النوم ، وتُصبح وتيرة رؤية التلفاز أكثر من ذي قبل ، كما نتخلى عن النوم على الأسِرَّة وننتقلُ ، رُحَّلاً، إلى الصالونين الواسعين والمتقابلين بمدخل البيت ، نُفرشهما بما يُلائم الأرض لننام في راحة واستمتاع.
الحج إلى البلاد
ركبتُ السيارة رفقة أبنائي وزوجتي نحو مدينة سطات لقضاء أسبوع كامل مع بويا وأمي .
سطات ، عاصمة بلاد الشاوية ، وروحها الحية .مدينة صغيرة كانت قبل بداية القرن الماضي عبارة عن تجمعات هنا وهناك، يطلق عليها النزالة حيث ينزل أفراد وعائلات من دواوير وقبائل الشاوية جاءوا للاستقرار قرب عيون المياه العذبة ، أشهرها عوينة الحاجْبات ..أما وادي بوموسى فانه يخترق المدينة ، على غرار المدن الأوربية الكبرى والشهيرة .وطاب للنازحين الاستقرار أيضا إلى جوار القصبة الإسماعيلية وبين ضريحي بويا الغليمي وسيدي بوعبيد ، عالمان صالحان ووليان يحرسان مطلق الخير في مطلق الخيال .
وستعرف المدينة منذ ثلاثينيات القرن الماضي نموا جديدا وحركة مازالت قائمة حتى الآن، فراكمتْ تاريخا اجتماعيا باذخا بأحداثه وشخصياته وأساطيره مازال مُبدَّدا في الذاكرة والحكي الشفاهي .
قال لي بويا يوم وصولي، بأن واحدا من ورثة عائلة(...) والذين فوَّتَ أغلب أفرادها إلينا أنصبتهم المشاعة من أراضيهم الفلاحية بالسكوريين وأولاد شعيب وموالين الواد ، قد جاء إلى المقهى وهدده بالقتل .
بعد يومين وأنا جالس إلى جواره ومعنا عدد من الفلاحين، جاءت زوجة نفس الرجل الذي هدد والدي ، فسبتني أمام الجميع ثم هددتني بأنها ستستأجر اثنين من حي سيدي عبد الكريم كي يقوما بتصفيتي إن أنا لم أبتعد عن أرض الورثة .(وكان زوجها يطمع في غَصْب حقوق باقي إخوته).
قررنا دفع المسألة إلى النيابة العامة من خلال شكايتين ، وقد جعلنا مرجعنا في هذه المسألة أساتذة كبار :جلال الطاهر، محمد الصبري أحمد نور اليقين..استشرناهم ثم وضعتُ الشكايتين لدى السيد وكيل الملك،وفي الغد سجلنا أقوالنا وأقوال الشهود عند الشرطة القضائية بالمقاطعة الثانية .
إنها معارك عادية وضرورية لرفع تحديات الوقت .(في نهاية الشهر سيتدخل عدد من الأصدقاء للصلح بيننا بعد تعهد الرجل وزوجته والاعتراف بنا مالكين شرعيين ، وانتهى الأمر).
الطواف اليومي
كل يوم في آخر المساء ، أخرجُ رفقة علاء وزينب نمشي على أرجُلنا ،ننعطف على حمام اقْرابْ ثم نهبطُ مرورا بمقهى بوشتى قبل أن ندخل المسرى الأبدي للمدينة :زنقة القائد علي ، المسماة الذهايبية ؛وصولا إلى ساحة مقهى الساقية الحمراء سابقا والعمود الذي اشتهر بالجلوس تحته اضريسة بكُلاَّباته الصدئة ..دخولا زنقة مولاي يوسف حيث المسجد وقبالته فندق بَّا إبراهيم ،ندخله ونجلس رفقة أحمد، بنفس المكان الذي جلستُ فيه رفقة أصدقائي ونحن تلاميذ .ثم نقوم لمواصلة طوافنا انعطافا على اليسار بزنقة الشهداء قبل الدخول عبر زقاقين صغيرين يخترقان درب الصابون ويفضيان إلى مدرستي الأولى يوسف بن تاشفين /القشلة، ثم الشارع الكبير الذي نتوقف فيه أخيرا لنشرب عصيرا أو نأكل شيئا .
كل هذه المسافة لا تأخذ منا أكثر من عشر دقائق .ولكنها قد تأخذ مني كثيرا إن أنا طاوعتُ مخيلتي لتذكر كل الخطوات ،وهي كثيرة ، رسمتُها طفلا وشابا يافعا :
أرى نفسي بقامتي وشَعر رأسي الكثيف وملامحي السمراء ،رفقة أصدقائي :العربي الذهبي ، محماد المودن ، أحمد هادن ونور العابدين عبد الكريم ...نمشي نحن الخمسة مثلما كان يمشي الفلاسفة في اليونان .أحاول أن أقنعهم بأن هذه الأرض التي هبطنا عليها هي مقدسة ..فيضحكون وأواصل رسالتي فيهم وأنا أتساءل ، مثل عرَّاب ضليع،إذا لم أُقنِع أصدقائي فكيف سيقتنع العالم بعد ذلك ؟
مات محماد المودن في حادثة سير بالجنوب المغربي سنة 1987 ،وبعد عشرين عاما سيموت العربي الذهبي ، بدوره، في حادثة سير وهو في طريقه إلى بني ملال .
التذكر صعب ، وبقدر ما فيه من متعة ، فهو مخلوط بالحسرة .
في سطات أشعر بمعنويات عالية ،كما أشعر بالأمان وبأني ،كما لو كنتُ نبيا حجته في وِجْدانه الذي يسع الأرض بترابها وصهدها وناسها،وحجته الكتابة ،بل الرواية وهو أول روائي بالمدينة،هو صوت قبائل المزامزة وأولاد سيدي بنداود وأولاد بوزيري وأولاد سعيد بعاصمتنا الأثيرة سطات ؛فيما القبائل الأخرى لها أولياؤها وروائيوها الفرسان :أحمد المديني صوت قبائل أولاد حريز شرقا وغربا ؛ومبارك ربيع صوت قبائل أولاد عبو وبن معاشو ؛ والميلودي شغموم صوت قبائل امزاب كلها ..وهم أخوالي بما يجري في عروقنا من دم واحد وما نحمله من خرافات العصر .
لم تُنجب الشاوية فلاسفة ؟ لأن الحكمة عندنا ضاعت وتبددت في شفاهيات شعبنا ، ولم يتبق منها سوى أقل من واحد بالمائة في الأمثال والحكايات والأغاني وفي كل كاشوش (صدر)..ومثلما أنجبت أرض الفلاحين وخزان إفريقيا من الحبوب حكائين شعبيين كبار في تاريخ المغرب ، أنجبتْ أيضا وما تزال،علماء وعالمات يعملون في لانازا الأمريكية وفي أكبر المؤسسات العلمية والإستراتيجية بأمريكا وأوربا فضلا عن الآلاف من علماء الرياضيات والطب وغير ذلك من العلوم .
الأمر لا عصبية فيه وأكيد أن مثله وأكثر في كل المناطق المغربية الأخرى سهولا وجبالا .فقط الواقع يحتاج إلى بحوث دقيقة لتصحيح صور نمطية أُلصِقتْ بالفلاحين وبأبنائهم .
أمي وزينب
لا أعرفُ لماذا يحب بويا وأمي زينب ومريم حبا كبيرا ، فيما يُعامَل علاء بحب لا إفراط فيه، لأن تكوين الرجل يحتاج إلى تربية تجعل منه رجلا صلبا يعرف كيف يتحكم في عواطفه ولا يغتر بالكلام أو يؤثر فيه.
أرى أمي ،كما لو عادت إلى طفولتها، تُلاعب مريم وتحكي لزينب كل الأحاجي والحكايات التي ملأت بها راسي حتى ابتُليت ...
عوَّدتُ أولادي على طريقة طبيعية في علاقتهم بي وبأمهم وبعائلتي ،فهم ينادونني " بَّا" وفي مرات أخرى، للتعبير عن فرحهم القوي، ينادونني "بويا".كل صباح أو أثناء دخولي البيت يُقبِّلون يدي اليمنى قبل الارتماء عليّ َبالعناق والبوس ..أما مريم التي ما تزال في طور تعلم هذه العلاقات ،فكلما عدتُ من سفر أو دخلتُ البيت في أوبتي من العمل، وتسمع صوت الباب فإنها تصرخ فرحا ولا تعرف ماذا تفعل فتجري وتسقط على الأرض ثم تقوم لترتمي في أحضاني باحثة عن وجهي لتبوسه ثم تشرع في البحث داخل جيوبي علها تجد شيئا مما وعدتُها به .ولابد أن تنام في كل عودة من سفر، في أحضاني فرحة سعيدة وكلما اقترب مني أخواها إلا وتصرخ ،كما لو كنتُ مِلْكها الخاص بها حتى تبرد وحشتها .
هناك سر بيننا جميعا أفشى به إلي علاء، وهو أنني في كل سفر لي داخل المغرب أو خارجه ، تختلي زينب بنفسها يوميا داخل المكتب وتأخذ كتاب الله الموجود في أحد الرفوف تفتحه لوحدها وتُخرج من بين صفحاته صورة لي، تنظر إليها ثم تُقَبِّلُها،فتعيدها إلى الرف وتخرج لتنخرط من جديد سعيدة ممتلئة القلب والروح .وكلما فاتحها أحد في الأمر تشرع بالبكاء..لأنه سرها الحميم .
دائما، ومنذ أن وعيتُ ، تقول لي أمي، لي وحدي دون أخوتي السبعة، بأن الله يحرسني من شياطين الأرض وأنه خصَّ ملاكا بي ،كانت تراه لما كنت رضيعا ،يجلس بالقرب مني ،وقد صدَّقتُ الأمر عن حب وطيب خاطر ، وأصبحتُ مع الأيام أؤمن بهذه الكرامة الإلهية ،كلما رأيتُ بعض العلامات العجيبة التي تحصل معي ،أحتفظ بها لنفسي ولا أحكيها إلا لأمي .
أصبحتْ مهمة الملاك نفسه ،بالإضافة إلى حراستي ،القيام بتدوين كل ما أقوم به وأقوله وما أفعله ، وسيقدم الدفتر للمولى عز وجل في اليوم الموعود .
خَطَرَ لي خاطر ، ماذا يا ترى يكتب عني ؟لماذا لا أُدَوِّنُ بنفسي ما أعلمه ويكتبُ عني ملاكي ما لا أعلمه ؟ كان بودي أن أحاوره في بعض ما يكتب عني وتآويل كل ذلك .
حوار الملائكة
عدت إلى الدار البيضاء ، وفي الخامسة صباحا استفقتُ متأخرا عن موعدي الطبيعي .. فأخذت الماء وسقيتُ شجرة الليمون وباقي الأحواض في الحديقة الشرقية للبيت ، ثم عدتُ وارتديت لباسي الرياضي واتجهت نحو حديقة لارميطاج .كانت غاصة بالرجال والنساء الذين يمارسون رياضة الجري والحركات .دخلت بينهم لساعة إلا ربعا قبل أن انسل إلى الملعب المجاور في الجهة الأخرى ولعبت لساعة مقابلة ودية في كرة القدم مع أصدقاء لا أعرفهم .
رجعتُ إلى البيت واستحممتُ ثم تسللت بجوار مريم وهي لا تزال نائمة ،أخذتُ برفق يدها اليمنى وبدأتُ أَعُدُّ في أصابعها بما سأجلب بعضه لها في المساء ، شرعتُ أنطق الكلمة فتكررها ورائي وهي مغمضة العينين بعدما أَحَسَّتْ بوجودي وأرادت الدخول في اللعبة ، وبين الهنيهة والأخرى تتلصص علي من خلال فتحها الضيق لعينها اليمنى . أقول الكاوكاو فتردد ورائي :كاكاو ، سويتيس /سيتيس،بيمو /بيمو، دانون /دانون،فورماجة /موماجة .ولما أتمم الحساب في يمناها ،أواصل كما تواصل معي في أصابع اليد اليسرى ،بينما تبقى اليمنى مضمومة الأصابع .أقول مسكة /ك،فنيد/فنيد،رايبي /غايبي،زريعة /زغيعة.تجمع أصابع يسراها، هي الأخرى ثم تَمُدُّ إلي أصابع رِجْلها اليمنى لأواصل العد فأمرر أناملي على بطن رِجلها فتضحك وتتلوى ثم تفتح عينيها وتقوم فتجري إلى المكتب وترتمي على الكنبة بحثا عن اللعبة اليومية .
نحن في عطلة ، يكرر علاء الجملة، فأؤكد له الأمر .يقوم فيستخرج كل لُعبه القديمة ، ومحفظة خاصة بأدوات العمل المنزلية،يصلح ، يكسر ، يرمي ثم يقوم معي لنصلح بعض ما تعطل في البيت ..جهاز البارابول الذي لا نرى برامجه إلا قليلا أثناء الليل،وحينما ننتهي نأخذ الكرة وندخل الصالون لنعيث فيه كما نشاء من خلال مقابلة بيني وبينه ،أُمثل فيها فريق النهضة السطاتية ، فيما يمثل ابني فريق الرجاء البيضاوي .
منذ ثلاث سنوات، حينما كان في السابعة من عمره بدأ يحب الكرة واللعب وفريق الرجاء بشكل سري قبل أن يعلن لي ذلك صراحة هذه السنة وأصبح يعلق على الحائط المجاور لمكتبه مقالات مضادة للوداد اقتطعها من الجرائد التي أجئ بها وكلما كانت هناك مقابلة بين الرجاء والوداد أسأله سؤالا روتينيا واحدا : من سينتصر .يفكر مليا ثم يقول لي : النهضة السطاتية .
في آخر ديربي هذه السنة ، انشغلت عن السؤال فبادرني :
- بَّا ،شكون غادي يربح الرجاء أو الوداد؟
- أجبته : نون سين ...أتعرفها؟
- نعم ، النهضة السطاتية .
حلم في يوليوز
حفاظا على روابطنا المغاربية ، الثقافية ، سافرت رفقة عزيزي عبد اللطيف محفوظ إلى طرابلس للمشاركة في لقاء ثقافي ، ليبي تونسي .قضينا ثلاثة أيام ثم عدنا على عجل .
في أوبتي أحسستُ بإرهاق شديد ، وفي الليل زارتني حمى شديدة ،لم تنفع معها الأدوية المستعجلة ،وخلال الصباح كنتُ عاجزا عن الحركة ومنهكا ، وعرفتُ أن اللوزتين ملتهبتين ، فزرت الطبيب ، وهي أول مرة في حياتي أمرض بسببهما . أقعدني المرض لمدة أسبوع وأنا تناول أدوية حيوية مضادة ، وأشرب صباح - مساء شرابي المفضل من عصير البرتقال الممزوج بالليمون والقرفة.
في اليوم الثاني من وعكتي الصحية ،هاتفني صديقي عبد اللطيف محفوظ ليطمئن على صحتي فأخبرته عدم قدرتي على السفر إلى صنعاء، وطلبت منه الاعتذار نيابة عني، فأخبرني أنه سيراسلهم كونه هو الآخر لن يسافر.
بقيت بالبيت وقد تحولت إلى طفل هادئ في نظر زوجتي ، التي تجلب لي بين حين وآخر أكلة خفيفة أو مشروبا من عصير يخفف عني الحرارة، ولا تتوقف عن لف رأسي بضمادات تحشو تحتها قطع الليمون والخيار والمخينيسة.
اليوم الثاني كان صعبا حرارة وعرق بلَّلَ كل ملابسي ،في الليل رأيتُ حلما مزعجا ،كنت أراه دائما كلما مرضتُ ،حتى أني صرت حافظا لتفاصيله .
رأيتُ نفسي ماشيا في شارع فارغ لا حركة فيه .أمشي دونما التفات ، وفجأة أحسست بسكين حادة تنغرس في ظهري عميقا ،فأشعر ببرودة مفاجئة تسري في كل مفاصلي ، شلل يُطبق على تفكيري فارتخي وأبدأ في التهاوي .أجاهد كيْ التفتَ لرؤية من طعنني ..فأعجز عن الرؤية لأن عيني كانتا قد امتلأتا بالدموع أو الدم .
لست نادما على شئ فقد عشتُ كما أردتُ ،فخورا بحياتي وشجرة أنسابي من أبي وأمي وقبيلتي ،ولست خاشيا الموت وإنما يؤلمني الغدر.
حينما استفقتُ مذعورا ، وكان الظلام دامسا وثقيلا ، كانت الدموع ما تزال تملأُ عيني .لم أتبين كم الساعة .استغفرتُ ربي العظيم ،ثم قمت وحملتُ بين ذراعي ابنتي زينب إلى جواري ونمتُ حتى الصباح .
قمتُ حزينا وصامتا لا أُكلِّمُ أحدا .
لو فكرتُ في القيمة الوحيدة التي لا أقايضها ولو بروحي ، ولا أبحثُ لها عن مبررات مهما كان الوضع ،لوجدتُ أنها الإخلاص وعدم الغدر بكل أشكاله وتفاصيله وفي جميع مناحي الحياة؛ وهو المبدأ الذي يؤسس بيتي ويجمعني بأصدقائي ..الإخلاص التام .بينما فرَّقني ويُفرقني عن بعض الأصدقاء الآخرين هو الغدر الذي يمارسونه يوميا وبدون أي رادع أخلاقي أو اجتماعي أوثقافي .
إن من يطعنك غدرا ،يمكن أن يفعل أي شئ ويمارس كل الموبقات لكون نفسه ذليلة وبها عطب لا يبرأ ،فقيمة الإخلاص هي السمو بالنفس التي تجعلكَ تشعر بامتلاءٍ كاملٍ ودائمٍ بالحب والطمأنينة .
شُفِيتُ بعض الشئ رغم الإحساس المستمر بالإعياء الذي استمر إلى بداية شهر غشت.فذهبت ليومين إلى الرباط في ندوة اتحاد كتاب المغرب حيث التقيتُ بأصدقاء أعزهم ؛ ولما عدتُ يوم السبت عاودني التعب ونزلة برد حادة .بقيت يوم الأحد كله بالبيت وفي الغد سافرت إلى سطات مع الأولاد لثلاثة أيام .
بسطات ، التقيتُ بصالح الوراقي ،وكان قد كلمني هاتفيا في منتصف يوليوز حينما صدرت لي بالجرائد وشايات شهر يونيو، ووجد نفسه فيها ،فعبر لي عن إعجابه وقال لي بنوع من الجرأة بأنه بإمكاني كتابة اسمه الحقيقي.ركبنا سيارته الكاتكات . شعرتُ به سعيدا بسهرة تحولت من ليلة عابرة إلى حكاية صيفية.
وصلنا الضيعة بعدما عرجنا على مركز سيد العايدي ،دخل وجاءني بِقُلَّةٍ مُلِئَت عسلا حرا مع ديكين شامخين.وقبل انصرافنا ناديتُ على مْوِيلِيدْ من خلف الضيعة فجاء إلينا ،وكان صالح كما حكى ونحن في الطريق ، بأنه قد شرح له بالدارجة ما كتبتُه عنه ليلة السهرة ،وعن الوزراء والرسائل إلى الملك .
قال لي مْوِيلِيدْ: آسي الأستاذ، خَصْنَا نْدِيرُو ليك كل سيمانا سهرة ..وأنت تَكْتَبْ علينا حتى يعرفنا الملك ديالنا والملك ديال فرانسا والطاليان .
ضحكنا ثم انصرفنا إلى سطات التي لا أجد لها بديلا في هذا العالم.
طاب يومك جدي راعا
بقيتُ لوحدي مع أمي في المساء،بعدما خرجت زوجتي والأولاد في جولة بالمدينة .تحدثنا طويلا ونحن نشرب القهوة ،أشتكي لها وتشتكي لي ..تحكي لي عن أخبار كثيرة تراها بالتلفزة وتسألني عنها .
مرة قالت لي أني الأقرب إلى قلبها والأكثر معزة ،فلم أسألها في التفاصيل، لأنني أحسست بشعور المحبة القوية..وذاك يكفيني عن أي تعبير .
أمي امرأة ، الآن هي في السبعين أطال الله عمرها ، أمازيغية تزوجها بويا محمد بن عبد السلام بعد عودته من الحرب العالمية الثانية وانخراطه في حياة التجارة بالأسواق .رَوَتْ لي مرارا حكاية والدها الحاج الحسين وفيقي المكنى ب " راعا" والذي توفي في أواسط السبعينيات من القرن العشرين .
في هذا المساء كنت قد جئتُها بصورة كبيرة له ،وضعتها في إطار على الحائط بعدما قبَّلتْها ثم تذكرتُ مرة أخرى ما روته لي في السابق وهي تتأمل صورته:
كانوا ثلاثة أخوة فقهاء في عز شبابهم ، خرجوا ليلا من الساقية الحمراء بالصحراء ،موطنهم الأصلي ، في العقد الثامن من القرن التاسع عشر ،كل واحد منهم يحمل على كتفيه كيسا من الكتان مليئا بالكتب الدينية والمخطوطات .
خرجوا دون أن يعرف أحد لماذا غادروا الصحراء في اتجاه فضاءات أخرى ،افترقوا بعدما قرروا قرارهم ،فتوجه الأول إلى الحج دون أن يعرف له أثر بعد ذلك وحتى الآن ، أما الثاني فقد واصل سيرة إلى منطقة بْزُو حيث استقر ، فيما استوطن الثالث منطقة اسمها دمنات ، وهم أمازيغ يعيشون على الفلاحة والرعي وبعض التجارة .
هذا الأخير، بدمنات، تزوج وأنجب الحسين والداودي ورقية.ويروي الحسين، جدي، إن أمهم ماتت وهم صغار فلم تمض غير أربعين يوما حتى مات أبوهم أيضا حزنا عليها .ووجد الأخوة الثلاثة أنفسهم ،في العشرية الأولى من القرن العشرين مع دخول الفرنسيين إلى الدار البيضاء، يتامى .. أوسطهم الحسين في الثالثة عشر من عمره أما رقية،أختهم الوحيدة ، ففي العاشرة من عمرها ، أخذها شيخ القبيلة منهم ضمن حريمه وستصبح بعد أربع سنوات زوجة من زوجاته، خلفت له دزينة أطفال لا نعرف منهم أحدا .وسينتظر الداودي بداية الحرب العالمية الأولى لينخرط جنديا ضمن الجيش الفرنسي ويرحل إلى أوربا ثم يبقي هناك ،ولم يعد يزور البلاد إلا لماما.. ثم شارك في الحرب العالمية الثانية حتى أصبح جنرالا واستقر نهائيا مع أولاده وزوجته الفرنسية ولا نعرف عنه شيئا الآن .
بقي الحسين وحيدا يعمل بمجهوده العضلي لما لم يستطع أن يكون مثل والده ، فقيها يحفظ كتاب الله ويعلم تأويله..ثم عمل في تجارة الخيل والبغال مع محماد ابن عمه الذي استقر ببزو ،لكنه لم يقدر على مغامراتها التي تُعرِّضهُما باستمرار للأخطار.فعاد واستقر بدمنات وسيجد امرأة مات زوجها وترك لها ابنتين توأمين إحداهن اسمها حليمة ،هي جدتي بعدما أصبحت زوجة الحسين . ولما تمادت الإقامة الفرنسية العامة في استعباد الأهالي ، باع جدي الحسين اثني عشر قنطارا من القمح وبقرتين ثم حمل ما خف من أثاث على حمار وشق الطريق من دمنات في اتجاه مراكش ثم واصل السير إلى مدينة تسمى سطات، وذلك سنة أربع وعشرين وتسعمائة وألف .
كانت سطات عبارة عن عراصي ونوايل ..شَعَرَ -كما سيبوح لأبنائه بعد سنوات ولما أصبح واحدا من رجالات المدينة – بالراحة والطمأنينة التي أشعر بهما الآن، فقال جدي لزوجته حليمة ، وكانت لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها بعد :هنا سنضرب الأوتاد ونخلف الأولاد.
أصبح فلاحا في العراصي التي كانت تنتج الخضر والفواكه عن طريق السقي، ثم مَلاَّكا لعدد منها .( وستعمد الدولة المغربية ممثلة في السلطات المحلية بمختلف درجاتها إلى اغتصاب تلك الأراضي من أبنائه دون وجه حق أو تعويض محترم ، وبعدما أصبحت تلك الأراضي ضمن نفوذ المدار الحضري للمدينة ، منها ما تحول سابقا إلى مقر ولاية سطات والملعب الرئيسي لكرة القدم وماتبقى جزء كبير منه تحول الى غنائم بين مسؤولين في المدينة ).
عاش جدي راعا سعيدا وسيتوفى إلى رحمة ربي في أواسط السبعينيات بعدما خلف خمسة أبناء : ولدان وثلاثة بنات ، بينهن أمي ، وحج مرتين على الباخرة .أما جدتي حليمة والتي حجت بدورها مرة واحدة ، فقد توفيت قبل عشر سنوات .
أُحِسُّ بأن دمي نهر شاوي جارف يجري بلا توقف، ترفده بقوة دماء صحراوية افريقية وأخرى أمازيغية ..تنوع وحياة في لقاء بويا بن عبد السلام بأمي بنت الحاج راعا خلال زواجهما سنة ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف.
صلاة مريم
في كل أوقات الصلوات،باستثناء الفجر، كانت الفقيرة إلى الله ، مريم، تجري حينما تسمع صوت الآذان، فتنتظر أمي التي تتهيأ للصلاة ثم تقترب منها وتفعل مثلها كما تفعل مع أمها بالدار البيضاء ..تصلي وتكرر بعض الكلمات ، لكن أهم مرحلة تعجبها هي التشهد والتسليم خصوصا في حركة سبابتها وإدارة رأسها يمينا وشمالا . فيما لا تجرؤ على فعل نفس الشئ مع بويا أثناء صلاته .