الغرام في القطاع العام

من الحياة اليومية لمواطن سوري

 هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي قصة حدثت معي شخصياً وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.

 كما ذكرت في قصص سابقة، فقد عملت قبل سفري في الثمانينيات كمهندس متدرب في مؤسسة عسكرية تنفذ مشاريعاً هندسية، وتم تعييني في رحبة الميكانيك لأحد الأفرع. فوجئت حين باشرت العمل بوجود موظفة في مكتب المحاسبة، وهذا أمر يدعو للاستغراب لكون جو الرحبات و(الميكانيسيانية) ليس مناسباً للاناث، واستنتجت حينها أنها ربما مغضوب عليها لسبب ما وبالتالي انتهت في ذلك المكان. دخلت مرة مكتبها لآخذ نسخة عن إحدى الفواتير لقطعة كنا بصدد إرجاعها لعدم صلاحيتها، فوجدت عندها موظفتين من نفس الفرع يزرنها في استراحة الغداء ويتناولن الطعام معاً. قامت المحاسبة بتعريفي عليهما وفي أي دائرة تعملان وأصرت أن أشرب الشاي معهن، وفعلت ذلك من باب المجاملة. كن جميعاً في بداية العشرينات من العمر، متحررات ويتحلين بروح النكتة وعلى قدر متوسط من الجمال.

 بعد عدة أيام أتت الفتاتان إلى مكتبي في استراحة الغداء وسألتا عن المحاسبة إياها، فقلت لهما أنها اتصلت وقالت أنها لن تأت إلى العمل بسبب مرضها، فسألتني إحداهما: كوننا وصلنا إلى الرحبة ولم نجد صديقتنا، ألن تعزمنا على شاي أو قهوة؟ فوجئت بالسؤال وأحسست أن تلك الفتاة يبدو وأنها ترسم على شئ. رفعت سماعة الهاتف واتصلت بالندوة وطلبت القهوة، وقامت الفتاة إياها خلال تلك الزيارة بحركات ملفتة للنظر جعلتني أجزم أنها أتت مع صديقتها إلى الرحبة وهي تعرف أن المحاسبة غير موجودة وبالتالي أتت لزيارتي وليس لزيارتها. ولم تخيب الفتاة حدسي، إذ اتصلت بي بعد أيام وقالت لي بأنها تفكر بي طوال الوقت وأنها ترغب بلقائي خارج المؤسسة لأن لديها (موضوعاً) تريد أن تأخذ رأي فيه! من جهتي، فقد كنت دائماً ضد إقامة علاقات خاصة في مكان الوظيفة لأن ذلك لاشك يؤثر سلباً على العمل المكلف به، بالاضافة لتأثيره على سمعة الطرفين. ولكن وكوني شاب في مقتبل العمر أيضاً ولدي اهتمام طبيعي بالجنس الآخر، فقد قررت أن ألبي الدعوة وأفهم مالذي يدور في ذهنها. خلال لقائي مع الفتاة في إحدى كافيتيريات دمشق، صارحتني بأن لديها عاطفة اتجاهي، وأني إذا كنت أبادلها ذلك، فهي ترغب بتعريفي على شقيقتها التي تكبرها إذا لم يكن لدي مانع، وبعد ذلك على أهلها. شعرت بالاحترام اتجاه الفتاة وقدرت جرأتها وصراحتها، ولكني أوضحت لها أني أخطط للهجرة خارج سورية قريباً وأن أي علاقة عاطفية رسمية وجدية ستكون عقبة في طريق ذلك، حيث إقتراحها تعريفي على أهلها لايحتاج لشرح الهدف منه، وافترقنا على أن نبقى (زملاء عمل) لاأكثر.

 ربما يظن القارئ أن هذه القصة إنما قصة غرامية من طرف واحد لاأكثر ولاأقل، وليس لها أي بعد سياسي، حصلت وستبقى تحصل لآلاف المرات، ولكني أطلب منه متابعتها حتى النهاية قبل أن يحكم عليها. بعد يومين أو ثلاثة، اتصل بي أحد مهندسي الفرع ودعاني لتناول الغداء معه في مكتبه في فترة الاستراحة. كان الشاب من المهندسين المتطوعين وبرتبة نقيب ورئيس دائرة. ما أن وصلت إلى المكتب وبدأنا بتناول وجبة الطعام حتى فاجئني بسؤاله: هل عرضت عليك (فلانة) أن تعرفك على أهلها؟ لاشك أن الجميع يعرف أن المخابرات السورية في كل مكان، ولكن لم أكن أتوقع أن يكون أحد عناصرها متواجداً في تلك الكافيتيريا حين كنت أجلس مع الفتاة. التفت إلى النقيب وقلت له بابتسامة هي مزيج من الاستغراب والاستهجان: لاأعرف عن ماذا تتحدث، هل بامكانك أن توضح أكثر؟ ضحك الشاب وقال لي: دعك من التظاهر بالاستغراب، فالجميع في الفرع يعرف أنك و(فلانة) في بداية علاقة غرامية وأنكما تتلاقيان خارج أوقات الدوام فلا داعي للانكار. أنا لاأحاول أن أقف بينك وبينها وإنما أحاول أن أنبهك في حال أنك لاتعرف. زادني هذا الكلام حيرة وقلت له أني لاأرى عيباً في أن تعرض فتاة معجبة بشاب أن تعرفه على أهلها، فهذا دليل على حسن نيتها واحترامها للتقاليد. لم أكد أنهي جملتي هذه حتى أطلق صديقي ضحكة عالية وكأني رويت له نكتة ثم قال: (مرحبا حسن نية وتقاليد، انشالله محسب حالك عايش بمكة على أيام الصحابة؟). بالرغم من أني وضعت يومها حدوداً لعلاقتي مع الفتاة كزمالة عمل فقط، إلا أني بدأت أشعر أن كلام الشاب يظلمها، ولكني قررت أن أتركه يتابع حديثه لأرى إلى أين سيصل.

 انطلق النقيب بعدها بكلام عن الفتاة هو من أقسى ماسمعت، فقد أكد لي ومع ذكر الأسماء أن تلك الفتاة قد أقامت علاقات (عميقة) مع الكثير من شبان الفرع وأنها كانت تعرض على الجميع وسريعاً تعريفهم على أهلها. وتابع قائلاً أن هدفها من ذلك واضح وضوح الشمس وهو بالتاكيد أنها كانت تلهث لايجاد زوج يستر (فضيحتها). ثم تابع قائلاً: أنا أنبهك كي لاتنخدع بكلامها وأن لاتقع بغرام وحدة (شرمو...)، افعل معها ماتشاء ولكن دعها لغيرك ليتزوجها. كان الدم قد بدأ يغلي في عروقي من سفالة محدثي، وبعد صمت قصير سألته: ألا تعتقد أنه من الظلم التكلم على فتاة في مقتبل العمر بهذه القسوة، من دون براهين أو حتى مع براهين، وخاصة في مجتمع كمجتمعنا يعتبر هكذا أشياء محرمات قد تؤدي إلى جرائم شرف؟ سارع الشاب وأجاب: ماذا تقصد من دون براهين، مارأيك أني شخصياً كنت على علاقة (عميقة) معها وأنها عرضت علي تعريفي على أهلها فقلت لها أن (تذهب وترمي بلاها على غيري).

 كانت فترة استراحة الغداء قد شارفت على الانتهاء ونهضت للعودة إلى مكتبي في الرحبة حين أطلق النقيب آخر رصاصاته القاتلة وقال لي: حتى لانظلم تلك الفتاة كثيراً، وكوني أقدم منك هنا، فلتعلم أن كل فتاة في الفرع أو المؤسسة، وعلى قدر مقبول من الجمال، لاتتجاوب غرامياً مع رئيسها، من المدير العام إلى أصغر مدير، إن كان بوعد للزواج أو لمجرد علاقة عابرة، فهو سيجد سبباً لطردها أو لنقلها إلى فرع بعيد انتقاماً منها. وإذا تجاوبت الفتاة معه، سيتركها بعد أن يمل منها لتبدأ محاولاتها لأن تجد زوجاً، إن من ضمن المؤسسة أو خارجها، لتستر فضيحتها. فالتفت إليه وقلت له: يعني باختصار فان هذه الفتاة وأمثالها هن إما ضحايا خداع أو ضحايا ابتزاز، وفي الحالتين لسن (شرام...) كما وصفتهن. فمن الواضح أنه ليس هناك قانون يحميهن من هؤلاء المدراء (الذئاب) والذين بغالبيتهم من العسكريين أم المحسوبين على الأمن، وبالتالي يتمتعون بسلطة مطلقة على الموظفات، باستثناء من كان لها (واسطة) تحميها من نزوات وتسلط هؤلاء الرؤساء. هنا شعر النقيب بأنه معني بالكلام الذي سمعه، فقال ببساطة وعدم مبالاة: لاأحد يجبرهن على الوظيفة، فإذا كن غير مستعدات لذلك، فالأحسن أن (ينقلعوا) على البيت، إذ لايمكن لمدير أن يرى فتاة جميلة موظفة عنده دون أن (يلحس إصبعتو). ثم صمت للحظات وتابع بعدها: (مو الحق عليك، الحق على يللي حب ينصحك).

 هذه هي سورية الأمس واليوم للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا). ففي (سورية الأسد) ينعدم القانون وتنقلب النزوات الحيوانية للمسؤولين مصائباً على الموظفات، فيتم استغلال الحاجة للعمل والراتب ليحصلوا منهن على مايريدون لتجد الواحدة منهن سيرتها بعد ذلك وقد صارت على كل لسان.

وسوم: العدد 764