رجع الحنبلي يا عين لا تدمعي
فؤاد الخفش
لم يستطع رفاق الشهيد محمد الحنبلي تمالك أنفسهم وهم يتدافعون لحمل جثمانه الذي تحرر بعد أكثر من 11 عاماً أمضاها أسيراً في مقبرة الأرقام، فسالت من عيونهم الدموع وهم ينظرون للرفات محمولاً على الأكتاف.
التف الشباب الصغير الذي سمع عن الحنبلي في باحات جامعة النجاح حول المسجد الذي بني وحمل اسمه ينشدون: (هو الحق يحشد أجناده ويعتد للموقف الفاصل ) قبل أن يحضر الجثمان، وما إن وصل ذلك النعش الذي كان محمولاً على الأكتاف، حتى صدحت الحناجر وبكت العيون وهتف الجموع باسم الكتائب التي انضوى الشهيد تحت لوائها وقاد ركبها.
الكل يريد أن يحظى بذلك الشرف، وهو لمس جثمان الشهيد الحنبلي والمشاركة في حمل نعشه الذي يحوي بين جنباته رجلاً ليس كباقي الرجال، الكل يريد أن يتحدث له فالصورة المطبوعة في ذهن من لم يعرف الحنبلي هي صورة (مصعب بن عمير) الفتى الغني المرفه الذي ترك الدنيا وفر لجنة عرضها السموات والأرض.
لم يكن الحنبلي أول الشهداء الذي يقوم الاحتلال بتسليم جثمانه ولكنه من أكثر الشهداء الذين انتظرهم الرفاق والناس ولطالما تمنوا أن يكون محمد بينهم.
عاد محمد لقلب المدينة التي أحب، عاد محمد صاحب البسمة والثغر الذي لا يعرف الحزن والنكد، عاد محمد محبوب الجميع لنابلس وللمسجد الذي أوصى والده في حال استشهاده أن يشيده له.
لن أتحدث عن محمد القائد والفارس والقسامي والمهندس في كتائب القسام، فليس مثلي من يتحدث عن هؤلاء أصحاب الأفعال ولكني سأتحدث في مقالي هذا عن الإنسان محمد.
لا أظن إطلاقا أن أحدا مر من جامعة النجاح وتحديداً منذ عام 1995 وحتى بعد استشهاده ولم يعرف من هو محمد، فمحمد الأكثر شهرة بين جموع الطلاب والأكاديميين والعاملين في هذه الجامعة.
في كل زاوية له بصمة وفي كل معرض له إبداع ومع كل احتفال له وجود، تارة في المعارض الإبداعية وتارة في مجسمات الصواريخ المتحركة من مكان لآخر في كل مكان ومع كل إبداع هناك بصمة خاصة مختومة بختم الحنبلي.
(حنبول) كما كان يطيب لي أن أقول له صديق الجميع حبيب (الكل) بسّام مسرور سعيد لبسه متواضع لا وقت لديه ليشتري الملابس لا وقت لديه لتناول الطعام لا يحمل هاتفاً نقالاً، فلا وقت له للحديث مع أحد يتحرك في كل اتجاه وينجز مع كل حركة.
محمد حيا أرعب الاحتلال وميتاً أحيا الهمة والروح في قلوب الشباب، شاهدت رفاق محمد من طلاب جامعة النجاح يعانقون بعضهم البعض كل شخص يذكر صديقه بقصة أو حادثة جرت بينه وبين محمد والكل يقول عاد محمد.
محمد الذي كان يقود مسيرات الشهداء وآخر من نزل لقبر الشهيد أبو هنود يعود للمدينة بعد اعتقال لجثمانه استمر اثني عشر عاماً ليحمل على الأكتاف.
ما أصعبها من لحظات تلك التي دخل بها محمد بيته ومنزله وقت زغاريد النساء وغياب أخيه الكبير عمر المعتقل في سجون الاحتلال ، حتى العودة كانت ناقصة في البيت الفلسطيني القابع تحت الاحتلال، ولكن الجميع كان يصرخ ويقول كلنا نقف بدلاً منك أيها الأسير عمر .
محمد الذي كان يحيي أي نشاط من خلال مشاركته به أحيا ميتاً الروح في نفوس الشباب المعذب بالضفة الغربية من خلال جثمانه فعادت هتافات التمجيد للمقاومة والكتائب بعد غياب طويل ولسنوات للمدينة التي احتضنت المقاومة سنين وعقود .
محمد اعترف أني كنت أناني في السنوات الماضية لأني دعوت الله مرات أن يتأخر موعد الإفراج عن جثمانك وأنا في السجن حين كان يتم الحديث عن الافراج عن أي جثمان لأني كنت أريد أن أحظى بهذا الشرف شرف وداعك وحمل نعشك يا شهيد رفع الله به راية الحق على طول المدى .
محمد بحول الله لنا معك لقاء تحت ظل عرشه مع تلك الجموع التي هتفت باسمك ميتاً وأحبتك فارساً لكتلة حق أضحت الآن محظورة مع رجال صدقوا الله فصدقهم الله، والله أشهد فيما أعرف أنك سعيت للشهادة فنلتها لأن الشهادة تاج ليس يلبسه إلا تقي النفس مقدام وأنت المقدام والتقي ولا نزكي على الله أحد، فإلى اللقاء يا حبيباً ذكره عن العقل والقلب لن يغيب.