هذا الجدل عن طارق رمضان
تجدّد الجدل بشان المفكر الإسلامي السويسري الجنسية، المصري الأصل، طارق رمضان، مع قرار القضاء الفرنسي، الأسبوع الماضي، إطلاق سراحه مقابل كفالة مالية، في انتظار استكمال التحقيقات بشأن تهم الاغتصاب الجنسي الموجّهة إليه من عدد من النساء. لم يكن مردُّ الجدل المعاملة الظالمة والعنصرية التي تلقاها من التحقيق والقضاء الفرنسيين، والتي بسببها قضى في السجن أكثر من تسعة أشهر، من دون افتراض براءته حتى ثبوت التهم عليه، كما ينص القانون. ما أثار الجدل هذه المرة اعترافاته، الشهر الماضي، بعلاقات جنسية، بالتراضي، غير مشروعة إسلامياً، جمعته بنساءٍ يتهمنه باغتصابهنَّ. وعلى حدَّ تعبير الصديق والمفكر الإسلامي، محمد مختار الشنقيطي، عبر مدونته على موقع الجزيرة.نت، فإن: "طارق رمضان.. كان صرحاً من خيالٍ فهَوَى".
حكم الشنقيطي قِيَمِيٌّ، يشاركه فيه كثيرون ممن صدمهم اعتراف رمضان، بعد أشهر طويلة من الإنكار، خصوصاً أنه يمثل أحد أهم الرموز الإسلامية في الغرب. وهذا ما دفع أغلب المهتمين بقضيته، إسلامياً، إلى اعتبار ما يجري معه مؤامرةً لا تستهدف تدميره فحسب، بل وكذلك ضرب صورة الإسلام بين أتباعه في الغرب، والذين يقدّرون طارق رمضان عالياً. ولا أنكر أني لا أرتاح شخصياً لمحاولة إعدام رمضان حياً، خصوصاً أن ثمَّة استهدافا حقيقيا للرجل وما يمثله. ولا ينبغي لأحدٍ أبداً أن يسيء الفهم هنا على أني أبرّر لرمضان أي فعل شنيعٍ وغير أخلاقيٍّ وغير شرعيٍّ، إن ثبت في حقه. ليس هذا المقصود وليس هذا المراد، ولكن سلخ الرجل من إنسانيته أمر لا يقل خطورة على الإسلام مما يتهم به طارق رمضان. وقبل أن أشرح أكثر ينبغي توضيح جملة من المسائل هنا:
أولاً، إذا ثبتت تهم الاغتصاب، أو واحدةٌ منها على رمضان، يتحول الأمر إلى جريمة شرعية وقانونية مكتملة الأركان، لا عذر له فيها، ولا مجال للدفاع عنها أو الاعتذار عنه.
ثانياً، إذا ثبت ارتكابه جريمة الزنا فهذا يمسُّ مكانته وقيمته الأخلاقية والمرجعية، فلا يمكن أن تنهى عن خلقٍ وتأتي مثله.
ثالثاً، ثبوت أي من التهمتين السابقتين عليه لا ينفي أن ثمّة حملة تستهدفه لما يمثله. ومن ناحية
ثانية، لا يقوّض ذلك قيمة فكره الإسلامي في فضاء الغرب. الرجل مفكر عميق، قدم طروحاتٍ إسلاميةٍ قَيِّمَةً تروم تجسير الهوة بين الوجود الإسلامي في الغرب وثقافة مجتمعاته، كما أنه تصدّى بمنهجيةٍ وعمقٍ يشهد له بهما، مفكّكاً وناقضاً كثيراً من مقولات وجدليات الإسلاموفوبيا والتيارات اليمينية العنصرية المتطرّفة، فضلاً عن تحدّيه النفوذ الصهيوني السافر في دول غربية كثيرة، ولذلك رماه هؤلاء كلهم عن قوسٍ واحدة. ولم تتوقف السهام التي تستهدف الرجل على هؤلاء، بل شارك فيها محور الثورات المضادة عربياً، وخصوصاً في مصر والسعودية والإمارات، الذين يكرهونه لأنه حفيد لمؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، ولأنه ابن أحد قياداتها التاريخيين، سعيد رمضان، فضلا عن أنه ناقد لسياسات ذلك المحور التخريبية في المنطقة وانقلابه على خيارات الشعوب. ولعل المتابع لزفّة التشفي برمضان في إعلام دول الثورات المضادة يجد ما يغني عن كثير شرح، فهم وجدوا في سقطته فرصةً للتشنيع على ما يصفونه بالتيار "الإسلامي السياسي" وتقويض مصداقيته.
بعد التوضيحات السابقة، أعود إلى النقطة المشار إليها سالفاً، أن هذا المقال يروم التنبيه إلى مغبّة ظلم الرجل عبر نزعه وسلخه من سياقه الإنساني البشري. طارق رمضان، كأي شخصية مشهورة يتعرّض لضغوط كثيرة وكبيرة بسبب تلك الشهرة، بل كثيرا ما تكون الشهرة نقمة، وليس نعمة فحسب، على صاحبها. الإنسان ضعيف، وكلنا ضعيف. وينبغي أن نبقي في اعتبارنا هنا أن الرجل، بسبب مكانته وقيمته، قد يكون تعرّض لعمليات إغواء مقصودة، سقط
فيها بسفاهةٍ وفي لحظات وضع فيها درعه الأخلاقي. ولا أستبعد، كما يبدو من المعلومات المتاحة، أنه ربما استمرأ الخطيئة مرة بعد مرة. ومع أن هذا لا يبرّر الوقوع في الخطأ والخطيئة، خصوصاً لمن كان يقدّم نفسه داعيةً ومفكراً وَمُنَظِّراً أخلاقياً وفلسفياً ودينياً، إلا أن اختزال إنتاج إنسان وإنجازاته، خصوصاً الفكرية، في مسألة واحدة ظلم عظيم. وحتى أكون أوضح، أنا مع من يقول إن طارق رمضان سقط أخلاقياً وَقِيَمِيّاً بعد اعترافاته المعيبة، لكن إعدامه فكرياً وشخصياً أمر لا يستقيم أبداً. وبعيداً عن افتراض جريمة الاغتصاب، فهذه لا يمكن أبداً تبريرها وقبولها، فإن رمضان لو لم يكن "إسلامياً" لما كان تهمة علاقة، أو علاقات جنسية غير مشروعة، كاسحة له ولشخصه، وإن كانت بكل تأكيد ستكون مؤذيةً وضارة ومعيبة في كل حال وفي كل سياق.
باختصار، طارق رمضان، استناداً إلى المتاح من معلومات، فقد قيمته الأخلاقية رمزا إسلاميا في الغرب، ولا ينبغي أن يقدّم مرة أخرى في إطار الرمزية، لكن قيمته الفكرية لا ينبغي أن تكون ضحية لأخطائه، فالمسلمون في الغرب بحاجة إلى نظراته المتعمقة ومنهجه المعتبر. وبدل توجيه مزيد من الطعنات له، فلنتذكّر أن جُلَّ من يطعن فيه إنما يريدون هدم صورة الإسلام وإضعاف موقف المسلمين في الغرب عبره. وبالتالي، قد نجد أنفسنا لا نهدم "صرح" طارق رمضان الذي هو من "خَيالٍ"، وإنما نكون نساهم، من حيث لا نريد، في محاولات هدم صرح الإسلام نفسه في الغرب. بل وفي بلادنا عبر محاولات استثمار محور الثورات المضادّة في فضيحة رمضان المسيئة.
ندين علناً أفعال طارق رمضان وممارساته اللاشرعية واللاأخلاقية، حسب منهجه الذي يتبنّاه، ولكن لنعطه مساحة للتعامل مع مشكلاته القانونية وللتوبة أمام الله. "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر: 53)، فلا تحجروا على حق الرجل في التوبة. ولا ينبغي أبداً أن نساوي بينه وبين من منهج حياته إفساد وأذى وظلم. يظن بعضهم أنه يكون موضوعياً إن سَنَّ سكّينه على رمضان، كما يَسُنُّها على غيره من الفاسدين، لكن القاعدة الذهبية تقول: "ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأصابه".
وسوم: العدد 801