في الذكرى الثامنة للثورة .. الفساد يحلّ مكان الاستبداد
إثر "انتحار" المراسل الصحفي عبد الرزاق الزرقي في ولاية القصرين،احتجاجا على الوضع التنموي الهش بالجهة، أثارت عديد القنوات التلفزية معضلة التنمية في الجهات. وتساءل العديد من المحلّلين طارحين السؤال التقليدي : من المسؤول عن عملية تهميش التنمية، وخاصة بالجهات، ونحن على مسافة ثماني سنوات من الثورة ؟ على اعتبار أن لو بذلت السلطة القائمة المجهودات المطلوبة من أجل رفع نسق التنمية في الجهات وتركيز مشاريع نموذجية تكون نواة ومنطلقا للإقلاع الاقتصادي الحقيقي لتفهّم النّاس ذلك ولأمهلوا أصحاب القرار مزيدا من الوقت. إلاّ أنّه لم يحدث من ذلك شيء. بل إنّ السلطة القائمة لم تنجح حتّى في زراعة الأمل كما أشار إلى ذلك المحلل السياسي منذر بالضيافي(في برنامج الحصاد السياسي : قناة الزيتونة).
ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد أنّ هناك من أرجع الأمر،لأسباب سياسية حزبية،إلى الترويكا وتحديدا إلى حركة النهضة التي أضاعت ثلاث سنوات من أجل الصراع على السلطة والسيطرة على مفاصل الدولة ثمّ أسست لنظام برلماني أربك الأمور وأدخل رأسي السلطة التنفيذية في صراع محموم(منجي الحرباوي –نداء تونس- في برنامج الحصاد السياسي-قناة الزيتونة). ومنهم من قال "كلّ الأحزاب التي تداولت على الحكم بعد الثورة آثرت مصلحتها الحزبية الضيقة وحقّقت مكاسب حزبية على حساب التنمية"(وليد جلاّد -الائتلاف الوطني- الحصاد السياسي). ومنهم من قال "أنّ الفشل في إدارة الحكم وإحلال التنمية بالبلاد مردّه بالأساس إنّما هو الصراع من أجل الاستيلاء على الحكم وليس من أجل إحلال التنمية بالبلاد"(زهاد رقاب-آفاق تونس- برنامج الحصاد السياسي). وإحقاقا للحق فإنّ العديد من المحلّلين أتوا على بعض الحقائق الموضوعية ولكنّهم لم يلامسوا كبد الحقيقة(ربّما تستّروا على الحقيقة ). ذلك أنّهم انطلقوا من فكرة أساسية مفادها أنّ الأحزاب التي انتخبها الشعب من بداية الثورة إلى اليوم ليس لها برامج سياسية واقتصادية واضحة قادرة على إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة أو لعلّها في أحسن الأحوال لم تستطع أن تترجم ما وعدت به الناخب التونسي إلى إنجازات ملموسة وفشلت في ذلك فشلا ذريعا. بما يوحي أنّنا نعيش استقرارا سياسيا منذ عشرات أو مئات السنين ولا تعوزنا إلاّ البرامج. في حين أنّنا لا نزال في فترة الوضع الانتقالي. والمعركة الأساسية إنّما هي بالأساس بين ثورة وثورة مضادّة لا غير. والتنمية الشاملة لا يمكن أن تكون في ظلّ حرب قائمة،سواء كانت علنيّة أو خفية،بين الثورة والدولة العميقة. فالتنمية الشاملة تقتضي مشاريع ثورية وتقتضي إجراء عمليات جراحية وعدم الاكتفاء بالحلول الترقيعية السطحية أو المسكّنات. والعمليات الجراحية غير مسموح بها في ظلّ معركة خفية بين ثورة وثورة مضادة.
اتسمت فترة الترويكا بكثرة الاحتجاجات والاعتصامات المسيّسة وتعطيل الانتاج وتعطيل إنجاز المشاريع وتعطيل المسار الثوري، ولو بالاغتيالات(اغتيال شكري بالعيد ومحمد البراهمي لمنع المصادقة على قانون تحصين الثورة). ثم استعادت المنظومة القديمة السيطرة على أغلب مفاصل الدولة(رئاسة الدولة،رئاسة الحكومة،رئاسة مجلس النواب) سواء بالصندوق أو من خلال التوافق. ولم تستطع أو لم تسع هذه المنظومة بالقدر المطلوب لتحقيق كل ما وعدت به المواطن التونسي. ولسائل أن يسأل لماذا ؟ ويعود ذلك إلى أنّ أغلب قادة هذه المنظومة خرجوا من رحم الاستبداد. وهم متورّطون بشكل أو بآخر في الفساد من زمن المخلوع بن علي إمّا بالسكوت عنه أو بالمشاركة فيه. لذلك لا يستطيعون استصدار قرارات مصيرية لأجل التنمية. لأنّ ذلك سيعود عليهم بالوبال. فالفساد لم يطل علينا برأسه فجأة بل له رواسب قديمة. وهو من صنع لوبيات فساد مرتبطة أساسا بالمنظومة القديمة. ويستتبع ذلك أنّ كل مشاريع الاقلاع الاقتصادي والتنموي ستبقى معلّقة إلى أجل غير مسمّى إلى حين هزم هذه المنظومة والقضاء عليها سياسيا ونهائيا. فمشاريع الإقلاع الاقتصادي تستدعي أموالا وإمكانيات ضخمة لا يمكن توفيرها في ظلّ سياسة الاحتجاجات والتواكل وفي ظلّ التهريب والتجارة الموازية والتهرّب الجبائي. فالتقارير الرسمية تفيد أنّ ما يفوق الخمسين ألف مليون دينار من السيولة يتمّ تداولها سنويا في إطار التجارة الموازية. فلو سعت الدولة لتنظيم وتقنين التجارة الموازية لوفّرت إيرادات بما لا يقل عن آلاف ملايين الدينارات. وفي الإطار ذاته صرح عضو هيئة الحقيقة والكرامة خالد الكريشي أنّ 685 ملف مصالحة تمّ تقديمها لهيئة الحقيقة والكرامة(علما وأنّ هيئة الحقيقة والكرامة استرجعت 745 مليون دينار من جراء تسوية 8 ملفات فقط). ولكنّ المكلّف بنزاعات الدولة لم يحضر،بأمر من وزير أملاك الدولة مبروك كورشيد،جلسات المصالحة لعرض طلبات الدولة. وبذلك فوّتت الحكومة على نفسها استرجاع آلاف أو عشرات الآلاف من ملايين الدينارات. فكلّ هذه الأموال عند تجميعها كانت كفيلة ببعث العديد من مشاريع الإقلاع الاقتصادي. ويمكن أن تمتصّ البطالة ولو على مراحل. ولكنّ المنظومة القديمة تأبى ذلك لأنّ هذه القرارات ستكون في غير مصلحتها. فبعد أن كانت لوبيات الفساد تعيش في ظلّ الاستبداد أضحت اليوم تعيش في ظل الثورة تحت خيمة بعض الأحزاب الفائزة من المنظومة القديمة وتعمل في كنف الحرية والديمقراطية(عيني عينك) بكلّ جرأة وصحّة رقعة. من ذلك أنّ برهان بسيس أحد رموز المنظومة السابقة حكم عليه بالسجن سنتين وأودع السجن من أجل حصوله على أموال بدون وجه حق في زمن الاستبداد. ولكنّ رئيس الدولة أصدر في شأنه عفوا رئاسيا لم يشمله إلاّ هو. ومن ذلك أيضا أنّ دائرة المحاسبات قد أصدرت تقارير سنوية حول عديد ملفّات الفساد في عديد المؤسسات. ولكنّ الحكومة لم تفعّل مؤسسات الدولة من أجل ملاحقة المفسدين. بما يعنى أنّ لوبيات الفساد أضحت في حماية من تقلّدوا السلطة عن طريق الاقتراع الحر والشفاف في زمن الثورة بعد أن كانت في حماية الاستبداد. وكأنّ لسان حال المنظومة الجديدة القديمة يقول : أيها الحقوقيون والمحقّقون والمراقبون أعدّوا ما استطعتم من تقارير ضدّ الفساد. ويا أيها الجماهير يمكنكم أن تخرجوا للتظاهر برحيل المفسدين في كنف الحرية والديمقراطية. إلاّ أنّنا نحن الماسكون بزمام السلطة التنفيذية نستطيع أن نصمّ آذاننا عن صرخاتكم ونقرّر ما نشاء ونعفو عمّا نشاء. ونغضّ الطرف عمّا نشاء.
في خلاصة القول يتبيّن لنا أنّه لا يمكن الانتصار على الفساد ولا يمكن إحلال منوال تنموي حقيقي إلاّ بأحد أمرين : إمّا بتحمّل الوضع الرّاهن والصبر عليه إلى حين القضاء سياسيا على المنظومة القديمة أو بابتكار سبل مواجهة ومعارضة جديدة تكون كفيلة بفك الارتباط العضوي بين السياسيين ولوبيات المال والفساد لتعبيد الطريق أمام احترام أحكام القضاء واحترام قرارات مؤسسات الدولة.
وسوم: العدد 806