أصدقاء وأعداء
موضوع، شائك، يخض العقل، ويرج القلب، وَيُيَبِس الفؤاد، فيه من ملامح اليسر ما يوحي بالبساطة التي تجري جريان الماء في الأنهار والغدران، وفيه من العسر المضاف الى العسر، ما يقود الى الحذر المُجْدِب في صفحات القلب، ونبضات الروح.
كيف لا، وانا أقف على رؤوس دبابيس وإبر مستدقة مسنونة شديدة الصلابة والمتانة، كمن يريد ان يفتح بيديه غيبا مغلقا، وهو متيقن باستحالة إمكاناته وقدراته على ذلك، او يريد أن يسحب الماضي الى مفصل الحاضر والمستقبل، كي يُثبَتْهما معا على محور ينفصل عن قاعدة التبدل والتغير التي تجري عليها مكونات الزمان والمكان، النفوس والاجساد، الفصول والأيام، الحقب والعقود والدهور.
قلت: كإنسان،إنسان فقط، تتملكه التغيرات والانقلابات والطوارئ، ويفتك به النقص، علي أن أعترف قبل مباشرة الدخول في التفاصيل، بأن ما كتبته سابقا، عن أي صديق، أو أي فرد من أفراد العائلة، ليس بثابت من الثوابت البعيدة عن الانقلاب والتبدل، أو حتى الاختلاف من النقيض الى النقيض، بل وأريد ان اسجل، بانني ربما، وربما في كتاباتي من أعز الأصدقاء والكلمات التي رافقت انفعالاتي وافكاري، مرافقة الرقيب الحذر، الذي يخشى علي اكثر من خشيتي على نفسي، أقول: بانني حين كتبت عن أصدقائي، وما سأكتب الان، كانت هناك مجموعة من مكونات المبالغة والوهم والخيال وربما بعض التهويل الذي كنت اعلم بأني اضفيه على تلك الشخصيات، استنادا الى مشاعر الوفاء والمحبة والايثار.
هو خطأ قاتل، مميت وساحق، أعلم ذلك، لأني لم أقف امام ذاتي وذوات الاخرين لأستعيد الزمن وما رافقه من تقلبات وإرهاصات وخفايا، بل أندلثت بكل العواطف المشحونة بسبب الغربة التي تمكنت مني الى حد الإنهيار، لأرسم صورا خالية في معظمها من الحقيقة والمنطق والأمانة والحذر. وأنا الآن اعتذر للحكمة والتأني والصبر، اعتذار الصحراء للهمي، حين ظنت انها لم تكن بحاجة الرذاذ.
يقول البير كامو:(هل لاحظت ان الموت وحده هو الذي يوقظ مشاعرنا؟ وكيف اننا نحب الأصدقاء الذين غادرونا لتوهم. وكيف نُعجب بأولئك الأساتذة الذين لم يعودوا يتحدثون، بعد ان ملأ التراب افواههم! حينئذ ينبثق التعبير عن الاعجاب طبيعيا، ذلك الاعجاب الذي كانوا يتوقعونه منا طيلة حياتهم، ولكن اتعرف لماذا نكون دائما أكثر عدلا واشد كرما نحو الموتى، السبب بسيط، فليس هناك التزام نحوهم، انهم يتركوننا أحرارا)
الغربة نوع من أنواع الموت القاسي، لأنه يجرك نحو هوة الماضي، وبريق الذكريات المنصرمة، ليقودك الى عالم مخصص، يحيط به الخيال، ويغلفه الوهم، ويستبد به الانفعال المركب من حزن الغربة ووطأتها الشديدة وصدمتها الناشفة، ليحملك لتأكيد الاعتقاد الجازم بأن ما كان، هو أفضل مما هو كائن أو سيكون، فتنفلت المشاعر، بمساندة الوهم لتصب في ابتكار جنان وحدائق وخمائل، تتمكن من الذات العاقلة، فتشلها بسموم بطيئة التأثير، لتلقيها في اقتناع وقناعة، بصدق الوهم وحقيقة الخيال.
ولهذا المقال وضع يكاد يكون من ترتيبات الغيب، فقد كان من المقدر له ان يظهر قبل أعوام كثيرة، بنفس الصورة التي اعتذرت عن الكتابة فيها سابقا، وربما أكثر غوصا واغراقا وحميمية مع الخيال المبتكر صفات واحداث ليست من الواقع، لكن ظروف العالم الإسلامي والعربي، اخذاني الى منحى بعيد كل البعد عن اتمامه، وانا الان اعتقد اعتقادا جازما، بأن التأخير كان فيه من الخير ما فيه، فالتأجيل منحني فرصة التدقيق والتحقيق والتحقق من أشياء كثيرة، والسنين منحتني نضجا بفعل التجارب التي عدت بها للوطن بزيارات متلاحقة لاختلط بالماضي الذي توهمته، واخلطه بنفسي من جديد، فوقفت أمام إنتباهات سقطت فوق رأسي كنقطة ماء زلال لتقودني الى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وسورة يوسف عليه السلام، فتفجرت بداخلي تصدعات وانخسافات، عاتبتني عتاب الوردة البيضاء للوردة البيضاء، وكان الفوح، ينتشر في خلايا دماغي، يهمس برفق خوافي بلبل حط فوق مآذن القدس فهمست له برفق الإيمان.
كيف لم تتنبه بما تملك من مسميات وأفكار لهذا الحديث الشريف؟
وكيف لم تنتبه وتتنبه الى سورة يوسف عليه السلام وقصته مع اخوته؟
يقول علية الصلاة والسلام" أحْبِبْ حبيبَكَ هوْنًا ما، عَسَى أنْ يَكونَ بَغيضَكَ يومًا ما، وأبْغِضْ بغيضَكَ هوْنًا ما، عَسَى أنْ يكونَ حبيبَكَ يومًا مَا".
وقفت مشدوها، وأقرب الى الممسوس، وتساءلت بيني وبين نفسي: كيف وصلت في كتاباتي تلك الى الفجاجة والسطحية التي جعلتني أغل الماضي والمستقبل بأغلال حاضر ثابت راسخ دون ان اتنبه للسيرورة والصيرورة التي تحيط بالماضي والحاضر والمستقبل؟ وكيف انزلقت الى مثل هذه الكبوة التي لا ينزلق اليها عاقل او جاهل؟
وفورا ذهبت الى المرآة، حاملا معي مفردة "ربما" التي شكلت بطولة قصتي القصيرة "جذور ألم". وقفت، ومعي حفنة من صور وعادات وتقاليد ومشارب ومناقب ومثالب، عرضتها على المرآة كلها بتأن وصبر وطول نفس، بتجرد وتجريد، في خلوة لا أخشى فيها كشف كل بصائري ورؤاي، فشاهدت التداعيات والتصدعات والتردمات، الأشخاص الذين حملوا اسمي وصفاتي وذواتي معي عبر سنوات متلاحقة، حتى أنى انكرت في أحيان أنهم مني وانهم انا، ووقعت في شك ان اناي هي ليست أناي، وأن ذاتي لا تمت بأي صلة لذاتي، تحرك تحتي زلزال، ومن قدمي اندفع بركان، وفي رأسي دارت عواصف وزوابع وأعاصير.
ألهذا الحد كنت غرا حين كتبت ما كتبت؟ نعم. بذلك أجابت الذوات والبصائر والرؤى والأنا التي توالدت من الأنا.
قلت: سأكتب الان، متحريا الدقة، وسأختار الالفاظ والمفردات، وأخضع العواطف والانفعالات الى قيود الفكر الممنطق بالوعي والادراك ما استطعت الى ذلك سبيلا.
وقبل أن أبدأ بذكر أصدقائي، أجدني واستنادا الى القرآن الكريم والسنة النبوية، والأعراف والتقاليد والأخلاق، أن أوطد حقيقة تخصني أنا على الأقل، وهي: أن أبي وأمي هما استثناء كامل، لا يخضع لقانون التغير والتبدل والاختلاف، وأن ما كتب عنهما سابقا، وما سيكتب لاحقا، لا يشكل اقل مقدار من حبة خردل او أصغر من ذلك بكثير، لانهما كانا وسيبقيان درة وجودي ماديا وتاج تكويني معنويا، حتى يقضي الله جل شأنه في وجودي.
ما هي الصداقة؟ وكيف تُسْتَوفى واجبات الصديق، لن اتبع هنا أسلوبا يتغيبا الريبة أو التعصب، ولا أسوق أو أساق إلى مثاليات وكماليات تعلو فوق إمكانات الانسان كإنسان، ولن اتجه نحو رؤية فلسفية أو أكاديمية، بل سأحاول الاجتهاد أن أكون بين منطق مؤتلف مع تقلبات النفس، وطلبات جل ما يمكن أن يقال عنها، أنها بين الواجب والاحترام والتقدير والتواضع.
وأول الحقائق التي عليً اثباتها ذاتيا، انني قبل أن امنح صداقتي لأحد، عليً الحرص بيقين مطلق، لحظة التفكير الأولى بأن اتخذ صديقا أو خليلا، أن احتفاظ بكرامتي كاملة غير منقوصة، فليس من اللائق او المقبول أو المعقول، أن احفظ كرامة "صديق" لا يحفظ أصلا وعن يقين مطلق كرامتي، فكرامتي فوق كل صداقة وأخوة وزمالة ورفقة، وما ينبثق عن ذلك من مسميات ومصطلحات. فإن اصطدمت بغرور، أو إعجاب بذات، يكاد يصل الى التقليل شخصيتي، ولو مقدار ما تحمل النملة من زاد، فإنني اتنازل بكل ثقة وإصرار ورحابة صدر وعقل، عن ذلك الشخص، دون أسف أو ندم، مهما امتدت العلاقة بيني وبينه من سنين.
ولكن، يبقي لكرامتي وشخصيتي حق علي، ألا أذكره بسوء، أو أحمل له ضغينة أو حسد، وأن أحفظ سره حتى وصولي الى القبر حيث الصمت المطلق والسر النهائي. حتى لو ذكرني بسوء خلف سوء، وإن أفشى اسراري وشهر بسريرتي، ليس وفاء لمن لا يستحق الوفاء، ولا التزاما بخلق لم يلتزم به، بل لعهد من عهود كنت قد مزجتها بشخصي وكرامتي، فليس من المروءة أن أفقد مروءتي كرد فعل، لأن الفعل هو الابقى والاقوى من ردة الفعل الناجمة عن غضب او انفعال او استشاطة.
وفي هذا تناغم وتطابق واندماج مع ما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((لا يكن حبك كلفاً ولا يكن بغضك تلفاً)) فقلت: كيف ذاك؟ قال: ((إذا أحببت كَلِفْتَ كلـف الصبي، وإذا أبَغضت أحببَتَ لصاحبك التِّلف)).
وعليه أنشد هدبة بن خشرم :
وأبْغِـضْ إذا أَبْغَضْتَ بغضــاً مقـارباً فإنك لا تدري متى أنت راجعُ
وكن معدناً للخير واصفح عن الأذى فإنك راءٍ ما عمــلت وسـامعُ
وأحــبب إذا أحبـــبت حبـاً مقــارباً فإنك لا تدري متى أنت نازعُ.
وما تقدم، ليس فلسفة اريد منها اثارة استهجان، أو استنهاض دهشة، لأن عرفي وتقليدي، وما ورثته من اب لا يشبه الإباء، وأم لا تشبه الأمهات، يقودني ذلك كله الى الالتزام بما أفكر وما أسجل، فلست اطلب مستحيلا، ولا اريد أن أشق على نفسي أو غيري، ممن أدعي صداقته، أو يدعي صداقتي، بل أقف بين ما أريد وما أستطيع، وبين ما أكتشف ما هي معادن من أدعى صداقتي، عبر تجارب، قد تكون ادق من رأس دبوس، أو أصغر من حبة سكر ذابت في فنجان شاي.
وأستطيع أن أدعي بثبات وقوة، انني إن أحببت، فإنني تطبيقا لوصية الرسول عليه الصلاة والسلام، اعلن حبي، دون أن اعير ذلك خوف أو رهبة أو حتى حذر، ومن ثوابت قناعاتي انني لم انظر يوما الى صديق نظرة فيها تعظيم او اكبار أو عكس ذلك، لعلم يعلمه، او جهل يمسك به، ولم انظر لجاه او مال او منصب او شهادة، فصديقي الجاهل لا يقل مكانة عندي عن صديقي المتعلم، بل وربما امنح الجاهل أكثر من المثقف والمتعلم، لأنه بطبعه وحدسه يسير على فطرة فيها من التواضع ما يبعده عن الغرور، ومن الاعتراف بقدراته ما يبعده عن الادعاء والتفاخر ونشدان ما ليس فيه وليس من مكوناته.
فمن هو صديقي الذي أعتز به؟ هو الذي قال محمود درويش فيه (الصديق مسمى لشخص معك بكل الظروف، وليس حسب الظروف). وهذا ما يؤكده محمد علي كلاي في تعبيره القوي: (الأصدقاء بالمواقف وليس بالسنين، حقيقة ستدركها يوما ما). ومن هذين يمكنني استلال التوافق الذي يؤدي الى فهم عملاق الفكر العربي محمود عباس العقاد للمفهوم الذي يجب التعلق به وصفا وحقيقة، فهو يقول: (الأصدقاء هم الأوطان الصغيرة، الوجه الثاني للحب الذي لا يتغير).
وأقف امام البارودي، فحل الشعر العربي، ومن أعاد له عاموده، لأدقق في قوله عن ذاته، وهو المعروف عنه التصاق الفعل بالقول في أصعب وأقسى مآسيه. يقول:
فانظرْ لقولي تجدْ نفسي مصورة ً فِي صَفْحَتَيْهِ؛ فَقَوْلِي خَطُّ تِمْثَالِي
ومن هذا الايضاح المجسد لتوافق القول بالعمل، يقول معتدا بما يملك من وفاء وحميمية ووداد مركب للصديق، قول واثق لا يخشى اختبارا أكان آنيا أو مؤجلا:
واختبرني تجدني صديقاً حميماً.. لم تغير وداده الاهواء
صادقاً في الذي يقول وان.. ضاقت عليه برحبها الدهناء
ويأتي نزار قباني بتجربته الزاخرة في الانفعالات والعواطف والمشاعر والأحاسيس، ليعبر بصورة صادمة وواضحة عن قلق مشوب بثقة غير معهودة حين يقرر (الصديق الحقيقي هو من تستطيع ان تكون معه غريب الاطوار يكل ثقة). وهو قول فيه اندفاعة واضحة لاعتبار الصديق الغطاء الذي يمكن ان تكشف كل عيوبك تحته دون التفكير ابدا بان لك عيوب رآها غيرك.
وجاء باولو كويلو ليقرر بتواضع وبجملة واحدة بصورة تحتاج الى إطار من فيروز كي تعلق فيها، فقال: (الصداقة ليست شيئا كبيرا، الصداقة ملايين الأشياء الصغيرة).
ومن هنا ينبع سؤال ممض ثقيل، فيه من خفايا الحياة وحنايا التجارب، ما يدفعنا قسرا نحو التعمق قليلا بالنفس البشرية واضطراباتها، تقلقلها وتمخضها، انفجاراتها وانهيارتها، والسؤال:(هل للصداقة تاريخ ابتداء وانتهاء)؟ (وهل يمكن الركون الى صديق بما تحمل كلمة الركون من معنى)؟
يجيب على ذلك فيودور دوستويقسكي:( إنك لا تستطيع ان تتصور كم عذبوني، جميعا، جميعا، الأعداء والاوغاد والأصدقاء، حتى ان الأصدقاء عذبوني أكثر من الأعداء).
ونأخذ البارودي، الذي خاض غمار الحياة بطريقة لم يخضها مثله الا قلة من البشر، فهو من تلك التجارب، المنفى، القهر، الهزيمة، فقدان الزوجة والوالد والابنة، العمى وهو في المنفى، يقول بألفاظ تعتصر الوعي وتلفح الادراك وتصوح العقل:
وَلَقَدْ بَلَوْتُ النّاسَ في أَطْوارِهِمْ ومَلِلْتُ حتَّى مَلَّني الإِبْلاءُ
فَإِذا المَوَدَّةُ خَلَّةٌ مَكْذُوبَةٌ بَيْنَ الْبَرِيَّةِ والوَفاءُ رِياءُ
كَيْفَ الْوثُوقُ بِذِمَّةٍ مِنْ صاحِبٍ وَبِكُلِّ قَلْبٍ نُقْطَةٌ سَوْداءُ
لَوْ كَانَ فِي الدُّنْيَا وِدَادٌ صَادِقٌ مَا حَالَ بَيْنَ الخُلَّتَيْنِ جَفاءُ
فانْفُضْ يَدَيْكَ مِنَ الزَّمانِ وأَهْلِهِ فالسَّعْيُ في طَلَبِ الصَّديِقِ هَبَاءُ
فهل أنا مع الاقوال التي ذكرت، نعم ولا، وربما، أقول: "ربما" يأتي الزمن ليفصل اللا عن النعم، أو النعم عن اللا، وربما يدمجهما معا، فالتجارب التي مررت بها اسقطت الكثير ممن كنت اظن انهم أصدقاء، ورفعت أناس لم أكن أظن اني سأصادقهم يوما ما، وما زال غربال الزمن بين يدي يذهب هنا ويهتز هناك، لأن أهم الدروس التي استقيتها من سجني، ومصيبة يدي، وغربتي، وفترة العوز التي سحقتني لزمن طويل، كل هذا وذاك، تسلل إلى كل ما فيً موشوشا برفق نسمة ربيعة مرت من فوق بيت الله الحرام، والمسجد النبوي، معانقة المسجد الأقصى، ملتحفة بياض زهر اللوز والنرجس، بأن المطلق الوحيد هو الله سبحانه وتعالى، وكل شيء دونه قابل للتحول والتغير والتقلب.
فهل هناك تاريخ صلاحية وانتهاء للصداقة والأصدقاء؟ نعم، بكل ثقة مسحوبة من ثقة، ومن انتهت صلاحيتهم عندي دليل مؤكد ملموس بفعل التجربة وتواترها.
لكن هناك من ثبت، وبقي رغم كل التغيرات منتصبا كصديق اعتز بصداقته، ويعتز بصداقتي، فهل سأحزن ان تساقطت بعض الأوراق التي اعتبرها ثابتة الان؟ لا. لن أحزن أبدا، فمن يختار السقوط لأسباب واهية، وحركات نفس مريضة وعكرة، فانه يمنحني الفرح والحبور والسعادة، لأنه من بدأ باختيار السقوط، فأنا أحاول دائما، لا عن ضعف، او عدم قدرة على رد، ان آخذ بوصية لقمان عليه السلام حين أوصى ولده: (يا بني، إذا ان تعرف صديقك، فهو الذي يعد حسناتك ولا يعد سيئاتك). ولكن للعد أيضا حدا من الحدود، عندها يمكن ان اختار رد الصاع صاعين، أو أنسحب بهدوء ضوء لامع حفاظا على ذمة الوفاء والعشرة والأيام التي خلت.
ولكني أقول اثناء انسحابي ما قاله شكسبير: (تحبني او تكرهني جميعها مفضلة لدي، إذا كنت تحبني، سوف أكون دائما في قلبك، وإذا كرهتني سوف أكون دائما في عقلك). والتزم مع تجربة دوستويفسكي حين أكد بطريقة بسيطة: (ستصل النضج الذي يجعلك ترفض التورط بعلاقة مؤقتة او صداقة باردة او جدال أحمق او التعلق بالزائفين). ومنه أيضا:
(الأمر ليس بكثرتهم حولك، إنما بمن يأتيك دون أن تناديه، ومن يربت على كتفك دون أن تخبره بأنك مثقل). وأيضا:( هذا درس سأنتفع به في المستقبل، وهو ألا احكم على الناس قبل ان تكون لي خبرة بهم)!
ومن الاقوال التي شحذت توهج الوعي لدي من الناحية الذهنية والعاطفية، قول الدكتور مصطفى محمود بطريقة سلسلة مذهلة: (من اشكال احترام الذات ان تبتعد عن أي شخص لا يقدر قيمتك). وأقول بكل أناة وروية ورفق لمن تسقطه التجربة البينة اللامعة الثابتة من حياتي:( اعتقد بي ما شئت، فأنا لم آت لهذا العالم لإرضائك). ميلان كونديرا. و(خسارة بعض البشر، مكسب لصحتك النفسية. يورغن هابرماس. و(عندما تكتفي بنفسك يصبح وجود الناس في حياتك لطيفا، وغيابهم لا يضر). تشي غيفارا. و(من أراد البقاء فابسط له قلبك، ومن أراد الرحيل، فابسط له الطريق). سيجموند فرويد.
ليس هناك أقدر على كشف ما في اللُب وِالوجْدَانّ من صُنَان و نَشْر مثل الزمن. فهو المعلم والأُسْتاذ، والشَيْخ، والمُؤَدِّب، والمُدَرِّس، والمُلَقِّن الذي لا يكل ولا يمل. وهو الذي أوحى لطنطاوي جوهري بالقول: (يعرف الصديق من العدو بسقطات اللسان ولحظات العيون). وكذلك لجورج برنارد شو: (كلما زاد نضج الانسان كلما قل عدد من حوله من الناس، فالعقل الناضج لا يحتمل المجاملات).
بعد كل ما سبق، اود الانتقال السريع الى شيمة الوفاء التي احملها تطبيقا، بذكر مجموعة من الأصدقاء، كي أنزع غلالات قد أحاطت بالأسطر والأفكار السابقة، لأزرع جذور ذاتي بمروج من سندس وإستبرق، علها تمتد لتثمر في صدور آخرين اعرفهم ولا أعرفهم.
فخري محمد سليم العطاونه
صديق صدوق، اخ لم تلده أمي، رائق المحيا، تتقاطر منه صفات الوفاء وتتلاصق لتتماسك فتضحي جلمود صخر لا تنال منه العواصف والرياح او السوافي، يملك من المشارب والشنشنات ما يفيض عن الحاجة، ودود، اكثر ما يميزه التواضع المشحون بالتواضع، قليل الكلام، كثير العمل، منغمس في التقوى والبحث عن مرافئ الاخرة، لم يؤثر احد في حياتي كما هو، وحين كنت انظر من خلال اهاب الزمن إليه لأتفحصه، كنت ازداد يقينا بان الدهر قد اعد عدته، واحكم أمره، في تنقيته من رذائل الغدر، وصغائر الحسد، وتوافه الغرور، وكنت كلما دققت النظر بأعماق قلبه من بين ثنايا الأحداث والارزاء الشديدة، كلما اكتشفت عملا وإحساسا معنى الرجولة ومعنى الوفاء، معنى الشموخ ومعنى الإخلاص، كان دوما يخرج من مسامات ذاته ، إلى مسامات ذاتي، كريح من مسك ممزوج بعنبر، وكأنه وجد أصلا وهو يعلم دوره بين أيام حياتي وثوانيها، بين ملابساتها وقوانينها، فلم يتأفف يوما أو يتعوذ، بل اندفع مع اندفاع الأيام والسنين، ليكون لما ألمً بي من فواجع وآلام ودوافع كانت تدفعني حينا نحو قنوط، وحينا نحو جحود، كالسد الذي وقف ليفصل اندفاع سورات الغدر والحسد والضغينة ضدي، كما يوقف السد انهيار الحياة إذا ما سمح لها بتجاوزه.
ليس هو فقط، فمنه، ومن طيبته وحسن خلقه المهذب بالدين والصلاح والتقوى، أصبحت أحد افراد عائلته بما فيها من ذكور واناث، كنت أبا لهم وكانوا خير أبناء لي، وامتددت بينهم وصولا الى الأحفاد الذين تفاجأت بمعرفتهم وحبهم لي وتعلقهم بي قبل تمكنهم من رؤيتي أو محادثتي ولمسي. جمعتني به مصادفة غريبة، وعايشنا لحظات عسر ويسر، كان لي في وقت العسر سندا وسدا قويا لا ثغرة فيه ولا ثقب، تقلبنا معا على أوجه حياة وحياة، افترقنا والتقينا، وما زلنا نفترق ونلتقي، دون ان يؤثر الفراق في مودة او وفاء.
منتصر نجيب ابو حِسنْ
يصغرني سنا، لكنه يكبرني ويكبر جل أصدقائي بما يملك من إيمان ويقين وتفان في الدعاء والعبادة، خلاب الوجه بما يسكنه من توابع الايمان التي تضيء الوجوه بنور الالتزام واليقين والسكينة والهدوء والاطمئنان، مترفع عن كل ما ينبو بخلق او يجرح إنسانية، قليل الكلام حتى تظن بانه لا يتحدث، وان تحدث، فبشكل مقتضب وكلمات معدودة، فيه حكمة تفوقنا جميعا، وفيه وداعة تكاد تلمسها الحجارة قبل ان يلمسها الانسان، يؤثر على نفسه وبه خصاصة، له لسان مُنقى ومُصفى، تجتمع فيه صفات وخلال تمنيت يوما انا وغيري لو كان فينا قليلا منها، ان قلت اني احبه فاني اظلم مشاعري نحوه، بل هو فوق مستوى الحب عندي، حتى يصل الى درجة الغيرة والغبطة بما يملك ولا املك ولا نملك جميعا.
سمير الحارون
عرفته بلحظة متأخرة من العمر، فيه تناقض وتضاد، غير متصالح مع الحياة او مع نفسه، له رؤى تختلف كثيرا عنا، اشفق عليه وارثي لحاله، ليس شفقة محتاج او رثاء مغادر، بل للظروف التي أحاطت به فأقعدت طموحاته واحلامه، وفي الى حد الوفاء، يخفي ذكاء متوهجا وقدرة رائعة على التشخيص، حذق ونبيه، يعبر بكلمات صغيرة هادئة وديعة عن فكرة بركان وزلزال، يحول الحزن الى فرح، والقنوط الى مزاح، بشوش الوجه والقلب، ذو نكهة لاذعة في عرض الندر والملاحة، حتى تظن وهو يتحدث ان الطرفة جزء من تكوينه وشخصيته، فان قيلت من غيره فلا قيمة لها على الاطلاق، روائي بالفطرة، متمكن من الرواية بطريقة تذهل المشاعر، وتستنطق الأحاسيس، فهو يمسك العقدة بغير تخطيط ليشعل الاحداث من طرفي الماضي والحاضر، وأنا كقاص وروائي، اراني الاحق المفردات والصور المتزاحمة بطريقة ترصع امام شاشة واسعة ترى فيها الاحداث تصويريا، ولو قدر له ان يقرأ الرواية بتخصص وشغف، لتوج كأفضل روائي في المحيط العربي. يعشق الحياة والجمال حتى الثمالة، لكنه لم يحقق الكثير منها ليصل الى ما دون الثمالة، هل احببته؟ بكل يقين نعم، فهو الصديق الوحيد الذي كان بينه وبين والدي علاقة، قبل ان تكون بيني وبينه علاقة، فانا لن أنسى ما حييت كيف كان يوصل والدي للبيت وهو يحمل عنه متاعه، ولن أنسي ما حييت كيف يوم عرفته والتقيته وتوطدت العلاقة بيننا، يكفي ما به من بشاشة وهشاشة حين تراه فتنس همومك وأحزانك.
محمد الصويص
لطالما نعته بالشيخ الازعر، توددا وتحببا، جميل الوجه ناصع المحيا، جريء وشجاع الى حد التضحية، مؤمن ملتزم مُحصن، لكن لم يكن طيبا الى حد الاستغفال، بل تتملكه نباهة وحذاقة، يكشف ما وراء الكلمات وما خلف الابتسامات، كيس فطن، لا تفوته شاردة او واردة، كثير الضحك والمزاح معنا، مفتوح ككتاب مع من احب ووثق، ناضل من اجل فلسطين، دفع من سنين عمره في السجون، ودفع جزء من ساقه في الأقصى، ابعد الى مرج الزهور مع من ابعد، بيننا وبينه علاقة وطدتها الأيام والحوارات والثقة المتراكمة، يعرف ما يريد من الدنيا، لكنه لم يملك الأدوات للوصول الى ما يريد، له شيطان يعتريه فيغضبه، غضبته تحول وجهه من الأبيض الى الأحمر، لكنها غضبة حق وذود عن كرامة، التقيته مرة في سجن النقب، زودني بالدخائن والقهوة، وزودني بالثقة.
جهاد إبراهيم صالح عطار
لا صلة له بفكر او كتاب او صفحة، تقاسيمه فيها من قسوة الجبال وقوة الصحراء، يميل الى بداوة متأصلة لكنها غير واضحة، لم يكن بينه وبين الدين صلة، وكان الناس يستغربون التصاقي به لحظة خروجي من صلاة او محاضرة دينية، كنت اعلم اكثر منهم الجوهر الكامن بأعماقه، فهو خليط من وفاء وأصالة وشهامة تتخفى وتتقلقل، تنتظر شرارة لتخرج بكل قوتها ووهجها وبريقها، وقد أثبتت الأيام صدق حدسي، فها هو جهاد، يرتاد المساجد، يؤدي عمرة مع اهل بيته، يقري الضيف، يصبر على فازعة ابنه اياد يوم تخطفه الموت وهو في اول ريعان العمر، وما زال جهاد، وسيبقى، بالنسبة لي صديقا اعتز بصداقته ما دام في نفس أتنفسه.
معتصم نجيب أبو حسن
يقع بين حيرة وحيرة، ناعم الملمس، نقي السريرة، وثاب الفكرة، تشعله جمله في رواية، وترهقه جملة في قصة، يحزن لبيت شعر، ويتأوه لمقولة، تربكه القراءة حتى تراه شخصا من شخوص الرواية، اعتاد ابداء اعجابه بما يقرأ بجملة مشدودة الاحرف، مضغوطة العاطفة، متوترة اللفظ، " الله وأكبر"، ذكي بتواضع الذكاء، مجتهد رغم تقاعسه عن الاجتهاد، فهو يقرأ البؤساء ليلة استعداده لاختبار في كلية الطب، اخذته الأيام كما اخذتنا، وطحنت ذكرياته في خضم لهاث موصول بلهاث في المشفى، لكنه معتصم بما في داخله من خير.
يوسف الحسن
من قرية صيدا، عرفته بظروف متناقضة موغلة بالترجرج، جريء، يعشق الحياة بطريقة تقطر شهوة، كريم الى حد الاغراء، وفي الى حد احراج الوفاء، فيه بساطة الفلاح وعفوية القرية، مجتهد في العمل، يطارد الفرح من مكان الى مكان، ويقصي الحزن ما استطاع الى ذلك سبيلا، يذكر من أحب وان شعر بانه منسي، ضحكته مفردات وجمل تشرح فرحته عند لقاء بعد غياب، لا يؤذي ولا يستطيع ان يؤذي، فيه عزة تتجه نحو كرامة تتجه بدورها نحو انفة. أدخلني أسرته كما أدخلني قلبه، فكل أولاده من ذكور وإناث، بالغين وغير بالغين، منحوني من الحب والاحترام العفوي النابع من فطرة مغذاة بزعتر الأرض وزيتها، ما يرتق الغدر الذي ألم بي من مقربين.
منتصر حبايب
كجهاد وسمير ويوسف الحسن، لا صلة له بكتاب، أسمر البشرة، فيه ملاحة وعذوبة، تقاسيمه تقود نحو الاطمئنان، حلو المعشر، يحسب الفاظه أكثر من مثقفين كثيرين، يحب بكل جوارحه، يظهر حبه باندفاع القول والعمل والعاطفة، شديد التعلق بالأناقة، خبير بها، غريب في القدرة على حفظ السر، فيه تواضع مركب من ذات تعجب بالبساطة والعفوية، ومن إحساس موطد بضرورة تقدير الصديق. عضته الدنيا من أطرافه، وزرعت في قلبه شوكة، وفي مشاعره وزعت التناقض والتضاد حتى كاد ان ينفجر، مكافح لا يلين ولا يستكين، له في قلبي منزلة خاصة، فهو بالنسبة لي، أنيق المظهر والجوهر، وأستطيع المغامرة والقول، بأنه لم يشذ معي بحرف أو كلمة، بقصد أو غير قصد تؤذي المشاعر، فمثل قمة الاحترام لمعنى الصديق والصداقة.
يوسف أبو طوق
يوسف سعيد أبو طوق، رجل عصامي، فيه ذكاء، في عينيه لمعان وبريق، مثابر ودؤوب، رائق الصفات والمزايا، وامتص رحيق السغب والتعب والنصب، حتى استطاع ان يخرج من بين كل الظروف بالرضى والقناعة، سانده بذلك وضع اجتماعي خاص لا يمكن تخطيه، وشخصية متزنة تعرف كيف تفصل بين المرارة والالم، والرضى والحبور.
أولئك أصدقائي، أما أعدائي، فان لهم صفة الشبح، الذي لا يعرف من صفات الناس والبشر شيئا، ولا يعرف من صفات الرجال إلا ما يعرف الجبان الرعديد من خلال جبنه ورعديديته، وهؤلاء بالنسبة لي، ليسوا سوى حالة من حالات المحاولة للالتصاق برجولتي وأنفتي وعزتي، ليحاولوا إثبات أنفسهم لأنفسهم وزوجاتهم وأولادهم وأوهامهم، بأنهم يملكون من القيمة والقدر ما يكفي غرورهم واعتدادهم بما يملكون من قدرة على التنقل في خفاء الجبن والخوف والاستسلام لنزوات تأبى الحمير على عزتها أن تمارسها.
سألني أحد الناس يوما، كيف انظر للأعداء؟ قلت: أي من الأعداء تقصد؟ فهم أنواع، يتوزعون بين ما يمكنهم وما يستطيعون، وبين ما لا يمكنهم ولا يستطيعون، وأما الفئة الأولى، فاني وان كنت اعلم بمدى العداء الرابض في نفوسهم نحوي، فإنني على اقل تقدير اعلم بأنهم يعلنون العداء مواجهة، ولا يلجئون إلى عتمة الغدر والنذالة والصغر، وان بهم من صفات القدرة على إعلان دسائسهم وخططهم بكل شجاعة الموقف وقوة اللحظة ما ينأى بهم عن امتلاك صفة الجبن الملفعة بالخفاء، أو صفة الرذالة الممزوجة بقيح وصديد تربيتهم وتكوينهم الكامن بأعماق ورثوها من مجموعة تناقضات وترهات منحتهم القدرة على الغدر والخيانة والسقوط بأعماق وهم قدرتهم على التأثير بحقيقة إرادة الآخرين أمام صغر وتضاؤل تصوراتهم.
قال: أراك على غير عادتك، تهتم باللفظ المغرق بوصف الانحطاط، وعمق الوضاعة، وكأنك تشكو من أمر جسيم، أحدثه بك مقرب أو صديق.
قلت: وكأني بك لا تعلم أن حدود صداقتي وقفت هناك، في فلسطين، والأردن، وأنني حين حملت نفسي من الوطن إلى الغربة، كنت احمل داخل تكويني ما ورثت عن أبي، من صفاء نفس ونقاء سريرة، وما احتدم بسنين عمري من مرافقات متوالية لأصدقاء كانت نفوسهم صافية نقية، فلم يصل إلى مداركي بأنني حين أشفق على جاهل، أو أواسي مغرور خال الوفاض من أي قدرة أو اقتدار، أو ارأف بمعتوه القي بروعه انه ذا قيمة أو ذا وجود، بأنني سوف التقي مع العدو الذي اغتصب ارضي من خلال أبناء شعبي، فانا اعرف يقينا بان الأمور التي تخفيها النفس قد تكون سوداء مظلمة، نتنة خبيثة، أو متيقحة بصديد تعافه الأنوف وتهرب منه الروائح الكريهة، ولكني لم أكن أتوقع يوما أن يخرج من هو مدع ليقف على أعتاب العدو، يأخذ منه غدرا لم نكن نعرفه قبل احتلال أرضنا، ويقطف رذيلة تتساوق فقط مع مكونات ونفسية المستعمر، ليتفوق على غدر الاستعمار ورذيلته، فيمزج هذا مع ذاك، ليعطي صورته التي نشأ عليها في محيط يدفع به إلى أقصى درجات الانحلال والرذيلة والخبث والبغضاء، وليتحلل من كل ما يمت للوطن والدين والأعراف والتقاليد والأخلاق، تحلل المستبيح لدينه وعرضه وشرفه.
وكما تعلمت بأن الصديق رهن الحاضر والقادم، وليس رهن الماضي، لأن النفوس تتقلب وتتلون وتتلوب، فإن الاصطدام بالجهل والغباء، والغرور والصلف والاعجاب بالنفس، هو من فروض الحياة التي لا تمكنك الا تتصل بالناس في ظروف ودواع مختلفة، ومن هذا الاصطدام والاتصال، بين الغبي، والمثقف، ومن يدعي الثقافة، سيبقى الغربال يسقط الحسك والزؤان، ويبقي على ما يؤجج الروح ويرفعها الى مستوى الوفاء والإخلاص والادب.
وسوم: العدد 807