المظلومية والتحدي السلبي.. هل هذا قدر الإسلاميين؟!
طلبة في جامعة الأزهر كانوا في الأسبوع المنصرم دفعة من دفعات الشباب المصري الإسلامي الذين علّقوا على المشانق؛ ولا يظهر في الأفق حتى اللحظة أن العسكرتاريا العلمانية تنوي الكفّ عن سياسة القتل المقوننة عبر محاكم يظهر بوضوح عوار إجراءاتها، أو عبر تصفيات مباشرة؛ وهو مشهد يدمي القلب، ويثير في أي نـفس حرة ألما واستهجانا، ومن هو في حالة شعورية أخرى فليعلم أنه بحاجة إلى كشف وفحص الإنسانية لديه!
ولكن هل النظام عاجز عن منع صوت ذلك الشاب الذي شنقوه، وهو يشرح للمحكمة معاناته من التعذيب بالصعق الكهربائي؟ إن هذا النظام يمنع صوت رئيس منتخب حولوه إلى سجين متهم من الخروج من خلف القفص، مخافة أن يسمع الناس شيئا ما في هذه المرحلة، ولكنه يقدم شابا إلى المشنقة بعدما شرح ما تناقلته وسائل الإعلام كيف عذبوه ولفقوا له التهمة، وهي شبهة تكفي مبدئيا إلى تجميد الحكم أو تخفيفه، ولكنهم يخرجون للعالم أجمع دفاع الضحية، وبعدها يقتلونه، فيرسلون رسائل إلى جهات شتى؛ إلى الإسلاميين عموما والإخوان المسلمين خصوصا بأنه لا شيء يردعهم وسيمضون في هذا المسار الاستئصالي، وحتى لو توسّل الإخوان للمصالحة فلن يقبلوا بها، وأن ما يقال حول ذلك ليس سوى ذرٍّ للرماد في العيون وملهاة عن حقيقة الوضع، بل هذه رسالة بأن ما يجري قد يكون (بروفة) لالتفاف حبل المشنقة حول رقبة محمد مرسي وخيرت الشاطر ومحمد بديع وسعد الكتاتني وغيرهم، فلا شيء يردع العسكر، ولا خطوط حمراء أمامهم.
ورسالة أخرى إلى عامة الشعب، بأن الثورة والتمرد على الظلم مآلهما السجن والتعذيب وحبل المشنقة، وما الحكم على (طارق النهري) بعد حفلة المشانق، وهو المعادي للإخوان، إلا رسالة صريحة وواضحة وتهديد معلن، خاصة بعد همهمات من جهات مدنية وعلمانية برفض التعديلات الدستورية. والرسالة الأهم إلى الخارج ودول الغرب المنافق، وطبعا إسرائيل؛ بأننا خير من يرعى مصالحكم، ويحرس حدودكم، ويحفظ غنائمكم في هذه المنطقة، فيا إسرائيل أنت صرت أمام العالم دولة رحيمة وإنسانية، بعدما فعلنا ونفعل وسنفعل، ويا أيها الغرب: لا تتردد في التعامل العلني الودّي معنا، ولا داعي لمساحيق تجميلية لإظهار أنك مع حقوق الإنسان وتداول السلطة سلميا وغير ذلك؛ فالناس كفروا ويكفرون بالثورات والمعارضة لسطوتنا، وها نحن نسومهم سوء العذاب مثلما فعل فرعون بل أشد، ولا شيء سوى البكائية المستمرة تصدر عنهم، بل ثمة من يؤيد ويدعم جرائمنا.
تكرار السيناريو مأساةأمام هذا المشهد الدامي، وخطاب البكاء والمظلومية الذي تحوّل إلى ما يشبه (المازوخية) عند الإسلاميين، ويبدو بأنهم استعذبوا واستطابوا إعادة تكرار السيناريو، ويعتبرون مجرد انقضاء فترة المحنة، إنجازا وانتصارا، وأن المحنة ليست سوى غربلة وتمحيص! فجمال عبد الناصر قد سامهم سوء العذاب، وهذا في أدبياتهم يعتبر (زمن المحنة) فلما مات وجلس السادات مكانه خفف عنهم القيود تدريجيا، لأهداف معروفة، ولكن دون أن يرفع عنهم الحظر الرسمي، واستمر السيناريو وحدث ما نعرف من أحداث فأتى صيف 2013 اللاهب بما سيطلقون عليه صراحة أو ضمنا (المحنة الثانية أو الثالثة أو الكبرى...إلخ) وهذا يعني أنهم سينتظرون حتى يغيب السيسي بطريقة أو بأخرى ثم يأتي من بعده، فيخفف عنهم قليلا أو كثيرا، وقد يسمح لهم حينها أن يعتلوا منابره، لأهدافه طبعا، كي يرووا مظلوميتهم، وينشدوا بكائياتهم ويقيموا المآتم على ما جرى لهم، من على هذه المنابر، لأنهم حاليا وبحكم الواقع ينشدونها بالسايبر، ومن فضائيات تبث من تركيا، فتعود الدورة والمسار مع اختلاف الأدوات؛ فلربما حينها لن يكتفوا بكتب ومذكرات من قبيل: (البوابة السوداء) و(سراديب الشيطان) و(أيام من حياتي) و(مذابح الإخوان في سجون ناصر) وغيرها، بل سيسمح لهم الحاكم العسكري خليفة السيسي باستخدام السينما والتلفزيون خاصته.
فهل هذه هي دورة حياة الحركة الأكثر شعبية وانتشارا وتأثيرا في مجال العمل الإسلامي منذ حوالي قرن، وهي التي رفعت شعارات وهتفت هتافات ونادت بتغيير العالم كله، فضلا عن العالم العربي والإسلامي، هل صارت تعتبر أن القضاء والقدر خاصتها هو هذه الدورة والمسار، وكأن هذا المسار قد كتب عليها مثلما كتب على الأرض تعاقب الليل والنهار؟!
أمن أجل هذا جاب حسن البنا البلاد طولا وعرضا وقضى نحبه على هذا الطريق؟ أفي سبيل الدوران في هذه الحلقة الكئيبة المشؤومة قضى رجال ونساء سني أعمارهم في صفوف هذه الدعوة..علما بأن من بينهم كثير ممن لو لم ينخرطوا في صفوف هذه الدعوة ويصبحوا ضمن مسار دورة حياتها البائس، لكان لهم شأن في علوم الدين والدنيا ومن هؤلاء من شنقوا مؤخرا.
مسؤولية القادة
ألا يشعر القائمون على هذه الدعوة والممسكون بدفة سفينتها أن الله –جل وعلا- سيسألهم عن هذه الطاقات المستنزفة فقط من أجل خطاب مكرر بفكرته مفاده: لقد صمدنا وصبرنا وتحدينا الجلادين، وذهب الجلادون بينما بقيت دعوتنا مستمرة؟!
والحجة أن القادة مثل الجنود يكابدون مشقة طريق الدعوة، ولكن هذا لا يعفيهم من مسؤولية كبيرة، ولا ننسى أن من أهم مقاصد الشريعة حفظ النفس؛ فنرى نفوسا وأموالا وأعراضا تسحق وتنتهك وتداس كرامة الناس بلا رحمة، في كل مرحلة، والمنهج هو هو، والخطاب لم يتجاوز البكائية ولا يريد أن يتجاوزها، مع مزجها بالتحدي والفخر بالصبر والثبات. وكأن البقاء تحت مقصلة الجلاد وسوطه هو إنجاز عظيم، ونصر مبين... كيف لا وهذا ما دأبوا على تدريسه للتلاميذ والعناصر والمريدين والكوادر والتصريح به أمام العدو والصديق؟
أغاية الطلب ومبتغى الدعوة الوقوف أمام الناس والقول بأننا تجاوزنا المحنة وانتصرنا على الجلاد ببقاء الدعوة، وبأن المشانق التي علق عليها خيرة أبنائنا، والسجون التي فنيت في زنازينها أعمارنا، ووسائل التعذيب الظاهر أثرها في أجسادنا، لم تفلح جميعها في شطبنا من الوجود على الساحة؟
إذا كان هذا قد صار هدفا بحدّ ذاته، فأنا من هنا أتوجه –مبرئا ذمتي- بصريح الكلام إلى من يهمهم الأمر أن يختصروا الطريق، وألا يزيدوا ما هو فائض وطافح أصلا من الآهات والجراح والعذاب، بالبقاء في هذه الحلقة والدوامة المرعبة، فيتركوا العمل والدعوة ضمن الجماعة، ويتخلوا عن فكرة الجماعة وأي شيء ينبثق عنها من أجسام حزبية وغيرها، وأن يعملوا ضمن ما هو موجود ومتاح ومصرّح به، إذا أمكن، من أجسام صوفية أو سلفية، بما في ذلك حتى حزب (الأمنجية) حزب النور والأحزاب العلمانية، أو أي شيء مناسب، أو أن ينشغل كل منهم بذاته وأسرته، فهذا أخف وطأة وأقل ضررا وكلفة بكثير من إعادة عرض المسلسل الكئيب ذاته: العمل والبنا ء-المحنة والتمحيص- العمل والبناء-المحنة والابتلاء...!
يكفي يكفي يكفي، أنا أعرف أن ثمة مقولة بأن زمن المحنة لا يليق به عتاب، صحيح، ولكن كلامي ليس عتابا بل وضعا للنقاط فوق الحروف. أشياء كثيرة لا يسع المجال لذكرها منها الكف عن الوهم الذي تكرر وأكده (يحيى حامد) في مقابلة مع الجزيرة بأن هناك من الدول من بدأوا يقبلون وجهة نظرهم وغير ذلك، أي بيع وهم اسمه رفض دول كبيرة أو صغيرة التعامل مع الانقلاب، اتركوا هذا الوهم، وغيروا هذا الخطاب، ولي حديث أكثر صراحة إن شاء الله في حديث قادم.
وسوم: العدد 813