الإعدام خيارا
في الغالب يكره في المقالات، عرفا، أن يتحدث الكاتب عن نفسه إلا في حدود سرد تجربة شخصية بها عبرة في موقف عام قد يهم القارئ، لكني هنا مضطر أن أبدأ المقال بما أعانيه منذ ثلاثة أيام من اضطراب في النوم وصعوبة في الهضم والتي شخصها الطبيب على أنها حالة نفسية نتيجة ضغوط شديدة، وعلى الرغم من أنني أبدو طبيعيا أمام الناس إلا أنني بالفعل لست كذلك، وتحديدا بعد الإعدامات التي طالت خمسة عشر شابا مصريا خلال الاثني عشر يوما الماضية، والتي كان أخرها إعدام تسع شباب أثبتوا أمام القاضي أنهم اعترفوا بجريمتهم تحت التعذيب. ولقد كانت كلمات محمود الأحمدي الشاب العشريني، الذي نفذ فيه حكم الإعدام يوم الأربعاء الماضي، أمام القاضي كافية أن يطلق القاضي سراح المتهمين أو على الأقل ان يعيد التحقيقات بنفسه، قال محمود: (أديني صاعق كهربائي ودخلني زنزانةأنا وأنت وأنا أخليك تعترف انك قتلت السادات).
صور أهالي المتهمين وأطفالهم لا تغيب عن مخيلتي، ولا تنفك صورة زوجة وطفلة أحد الشبان الذي أعدموا وهي تحمل ابنته ليراها وهو خلف القضبان، وفي المرة الثانية تقول له بأن أسنان أبنته بدأت في الظهور، لا تتخيلوا كم هذا الوجع الذي تعيشه تلك الأرملة الآن، لا تتخيلوا مدى الغصة التي أشعر بها من وجع تلك الأرملة العشرينية التي كانت تحلم ببيت يظلها وزوج يكفيها مجابهة الحياة، وبجرة قلم تغير حلمها وتبدلت آمالها وأصبح عليها أن تقاتل من أجل البقاء، مع حمل زائد بطفلة يجب أن تعيش.
الإعدام شنقا هو خيار بيد القاضي في مصر لإزهاق روح من ثبتت عليه جريمة القتل، أو التجسس أو قطع الطريق، هذا حكم الله ورسوله، لكن قد يكون الشنق خيار الإنسان لإنهاء روحه طواعية، يأسا أو هربا من مسئولية، لكن القاسم المشترك بين التبريرين هو ذلك الضعف الذي يعتري الإنسان نتيجة فشله وعدم قدرته على المواجهة، وتسبق هذه الحالة التي يصل فيها الإنسان إلى قرار إزهاق روحة حالة من الانطواء والبعد عن الناس، وتمحور تفكيره في نفسه دون النظر إلى المجتمع المحيط فيتخاصم معه وينبذه فتتسع الهوة وصولا إلى قرار قتل النفس.
لقد كان حراك شباب إسطنبول ليلا وفي ساعة متأخرة من الليل نحو القنصلية المصرية للتظاهر في محاولة أخيرة لوقف تنفيذ الإعدام في تسعة من أقرانهم، متجاوزا للقيادات وسابقا بخطوة، لم تأتِ، دليلا على أن هناك من يرفض التمحور حول ذاته، والمراقب لكلمات المتظاهرين خلال تلك الليلة وما تلاها من وقفة طوال اليوم، يتأكد أن هذا الشباب يريد الحياة ويرفض خيار الموت الذي يسعى إليه البعض، فالحديث عن الاصطفاف في ظرف إنساني يحاول فيه المجتمعون منع شبح الإعدام عن زملائهم أو حتى بعدما تم هو معنى يجب الوقوف عنده كثيرا.
في محاكمة سراييفو الشهيرة والتي حوكم فيها ستمائة من المثقفين المسلمين على يد الشيوعيين وما نتج عنه من طمس هوية البشناق المسلمين بمباركة شعبية وإن كانت ليست أغلبية، لكن في النهاية استطاعت السلطات أن تغير مزاج الشعب المتسامح ليقبل بإقصاء مكون مهم من مكونات الوطن، وبعد الحرب البوسنية واستتباب الأمور سئل الرئيس علي عزت بيجوفيتش أثناء حملته الانتخابية: هل ستكون هناك أعمال انتقامية ضد الشيوعيين على ما فعلوه بك وبرفاقك؟ فكانت إجابته (لقد سامحتهم كسياسي، ولكنني لم أسامحهم كإنسان).
أما آن الأوان أن تتوحد المعارضة، أمام آن الأوان أنيتحرك كلُ من المربع الذي يتمسك به، أما آن الأوان أن نتحلى بروح التسامح فيما بيننا، حسبة لله ثم الوطن الذي تعدم مقدراته كل يوم من مياه والنفط وغاز وأراضي وسيادة وأهم تلك المقدرات الشباب، هل اخترنا الإعدام للوطن، ألن نقف وقفة نمنع فيها ذلك الإعدام، أظن بات من الواجب أن تتحرك كل القوى لهذا الخيار وإلا فإن الوطن سيقتبس كلمات محمود الأحمديللقاضي (أنا خصيمك يوم الدين)… اصطفوا يرحمكم الله، ولا تنظروا على تنوعكم واختلاف مشاربكم ومواقفكم فالتنوع ميزة لمن يعرف فكما يقول هيراقليطس:”التناغم الظاهر للعالم لا يقوم إلا على اتحاد الأضداد”… اصطفوا يرحمكم الله.
وسوم: العدد 813