المتاجرة بدماء شهداء غزة
المتاجرة بدماء شهداء غزة
تحسين أبو عاصي
– غزة فلسطين –
قبل حوالي شهر من تاريخه كتبت مقالا تحت عنوان (( من معاناة أسر شهداء غزة " الجزء الأول أسرة الشهيدة يسرى باسل الشوا " )) وكان لهذا المقال صدى متواضعا ، حيث تم الاتصال ببعض ذوي الشهداء ، ولكن الجهد المرجو من وراء هذه الكتابة لم يرتق وطنيا إلى مستوى المسئولية الملقاة على كاهل أصحاب القرار ، مع شديد الاحترام لتلك الجهود المتواضعة والغير رسمية ...
واليوم الرابع من فبراير 2014م زرت خيمة المعاناة ، خيمة اعتصام أسر ذوي الشهداء الذين يطالبون بحقوق أبنائهم الشهداء ، والذين لا يزالون يواصلون اعتصامهم لحوالي مائة وعشرة أيام .. كنت أتوقع أن أجد العشرات بل ربما المئات ممن يُسمون أنفسهم برجال الفكر والعلم والسياسة ، ونشطاء المجتمع المدني ، وما يُسمون بالشخصيات الاعتبارية ، لكنني لم أجد من أولئك أحدا أبدا ، فقد وجدت فقط خمسة عشر امرأة وثلاثة عشر رجلا من ذوي الشهداء ...
أما النساء فكن جالسات يفترشن الحصير ، ويلتحفن بالغطاء الخفيف الذي لا يقيهم برد هذا اليوم الماطر ... وأما الرجال فقد اجتمع بعضهم حول موقد للنار من أجل التدفئة وعمل الشاي ... نظرت إلى يميني لأرى منضدة عليها زجاجة بلاستيك ممتلئة بالفلفل الأحمر المطحون وأخرى بالزيتون ، ومقلى صغير ، مع قليل من الخبز والسكر والماء ، مع بعض اليافطات الصغيرة التي لا يزال بعض الشباب يقومون بإعدادها ، وعددا من الكوفيات وبعض الفراش ، فلا دورة مياه لقضاء الحاجة ، ولا فراشا وغطاء وخيمة تقي المعتصمين من البرد والمطر ...
وجدت نفسي بين كَم من أنبل البشر وأشرف الناس ، الذين قدموا فلذات أكبادهم خدمة لفلسطين ، ولكنه كما مهملا مع الأسف الشديد ، ينتظرون عطف الفخامة والمعالي والسمو والسيادة ، يعتصمون في تلك الخيمة البائسة في مظهرها والعظيمة في مدلولها وفحواها ، لا من أجل تسول رواتب شهدائهم والتي هي حق كفله شرف النضال ، إن تبقى من ذلك الشرف من شيء ، بل من أجل التذكير بلسان الحال الذي يقول : "خسئت قيادة لا تحترم دماء شهدائها ، وخسيء رجال يبنون لهم مجدا من فوق الجماجم والعظام" .
كنت أتمنى أن أجد في خيمة الاعتصام أولئك المتفذلكين والمتفلسفين ، وتجار الدم والتنظير الفارغ ، الذين يتشدقون بدماء أولئك الشهداء الأشرف والأطهر منا جميعا ، فقط من أجل الاستهلاك والتسلية من تحت الكاميرات ووسائل الإعلام ، ورغبة في التسلق ووصول المبتغى الذي لم يعد خافيا على أحد منا ، وهم أبعد ما يكونون عن دعم تلك الأسر المنكوبة إلا على استحياء من أجل حفظ ماء الوجه تحت دعاوي الوطنية والعونطجية ...
وعود من القادة ثم وعود ثم وعود ، ومسكنات فقط ، وقرارات تصدر ثم يتم سحبها ، وضجة إعلامية سرعان ما تزول مثل فقاعة الصابون ، وكأن شيئا لم يكن حتى ضجت الأرض والسماء من الكذب والتمثيل والمتاجرة بالدماء والدموع ، والنتيجة استهتار بتلك الدماء والأرواح وبذوي الشهداء ، واعتبار دماءهم هدرا وعلى غير فائدة ، وربما لو كانت دماء هؤلاء الشهداء هي دماء لصوص أو خونة في نظر قادتنا ، لكانت أكثر اهتماما وتبجيلا لديهم من دماء أولئك الذين رابطوا وصمدوا وسقطوا شهداء ، فرووا بدمائهم ثرى الوطن ، ولو كان عكس ما أقول لعمل قادتنا على حل تلك المشكلة منذ ظهورها ، ومن قبل أن يحاول أهالي الشهداء الانتحار فما بالنا اليوم !؟.
أنصح بعدم التغني والتشدق بشهداء فلسطين ، لكي لا تلعنا أرواحهم في عليين كما تلهج ألسنة ذويهم باللعنات في كل صلاة على كل من كان سببا في معاناتهم ... وأنصح بإعادة تقييم لأكذوبة دعم المواطن الفلسطيني على أرض فلسطين ، فقد تبين الغث من السمين والقمحة من الزوانة ...
السؤال الذي يفرض نفسه : على ماذا تدل مواقف قادتنا تلك ، ولماذا لم يتخذ قادتنا موقفا وطنيا يرتقي إلى حجم المسئولية حتى اليوم ؟ وأين الوعاء المعنوي الحاضن لكل فلسطيني والمعروف بمنظمة التحرير الفلسطينية ؟ أين التنظيم الذي يعتبر نفسه الأم الحنون للشعب الفلسطيني ؟ .
هل كانت تلك الأرواح ثمنا لكراسي القادة والمدراء والمسئولين ، ولمواكبهم ، ولوظائف نسائهم وبناتهم وأولادهم ، ولمصروفاتهم النثرية ، وللفنادق ذات النجوم الخمس ، وللفيلات والسيارات الفارهة التي يمتلكونها ...
مرة أخرى خسئت قيادة لا تحترم دماء شهدائها ، ولنهتف من جديد بأعلى الأصوات ، وبملء الحناجر : عاشت فلسطين عربية حرة ، والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار ...
إن فلسطين لا يمكن أن يحررها مجموعة من تجار الدم ، ولا ثلة المرتزقة وحثالات المنتفعين كائنا ما كانوا ...