ميادة في دلتا شط العرب
كاظم فنجان الحمامي
نفرح كثيرا عندما تكرس إحدى طالباتنا وقتها كله لدراسة حوض شط العرب, أو عندما تتناول أي مقطع من مقاطعه, ونفرح أكثر فأكثر عندما ينصب اهتمام أساتذتنا في جامعة البصرة على تحليل الظواهر الطبيعية السائدة في سواحلنا وممراتنا الملاحية.
وهكذا كان للأستاذ الدكتور (بدر نعمة عكاش) الفضل الكبير في تزويدي بنسخة من الدراسة الموسومة (تكامل المعلومات الجيمورفولوجية وتقنيات التحسس النائي لدراسة دلتا شط العرب) لطالبة الماجستير (ميادة محمود عبد القادر).
المؤلم في هذا الموضوع أن مؤسساتنا الوطنية العاملة في دلتا شط العرب لا تكترث بما تنجزه جامعاتنا ومراكزنا العلمية من بحوث ودراسات عن هذه المنطقة. بمعنى أننا نقف منذ زمن بعيد أمام حالة فريدة تتنافر فيها العلوم النظرية مع الممارسات الميدانية, وتتباعد فيها آليات القياس والتحليل والتشخيص عن آليات رصد المتغيرات الحدودية في مناطق السيادة البحرية.
عندنا أزمة حقيقية بين محاور التعمق العلمي وبين سياقات التسطيح التطبيقي, وعلى وجه الخصوص في هذه المنطقة المتأثرة بمعاول الهدم والبناء والترسيب والنحت والتعرية والانحراف والانجراف, وما إلى ذلك من متغيرات ملموسة بين رأس البيشة ورأس البرشة, وبين خور (الخفقة) وخور (عبد الله).
تعزف (ميادة) في دراستها على آلاتها الاوركسترالية الاستشعارية بإيقاعات متقنة تتناول كل المقامات العلمية المتاحة, لكن جماعتنا لا يسمعون عزفها, ومعظمهم لا يفهمون لغتها التوضيحية المعززة بالخرائط والصور الجوية.
وربما شملت هذه الأزمة (ميادة) نفسها من دون أن تدري, فنراها تقرأ كل ما كتبه علماء الجيولوجيا والجيمورفولوجيا, وتمعن في دراسة خرائطهم وجداولهم, لكنها لا تقرأ خرائطنا البحرية الأدميرالية المعروفة بدقتها المتناهية, ولا تدري بما سجلته الفرق الهيدروغرافية الملاحية في دلتا شط العرب, فلم تتطرق إلى دراسة (نديكو), ولا إلى دراسة (سيديكو), ولا إلى دراسة (تخنواكسبرس). ولم تصلها حتى الآن دراسة شركة (شل) البريطانية, التي أنجزتها في العام الماضي عن دلتا شط العرب, بموجب العقد العلمي المبرم بينها وبين مؤسسة (فيرغو), والتي استعانت في تنفيذ مشروعها بتقنياتها الفضائية وأقمارها الاصطناعية وأجهزتها الاستشعارية المرهفة الحس.
لا ذنب هنا (لميادة), بل ذنب مؤسساتنا الوطنية التي لم تشرك معها مؤسساتنا الجامعية, ولم تعرها أهمية.
مما لا ريب فيه أن الموانئ العراقية لا تبخل بشيء على مؤسساتنا الجامعية, لكننا نوجه اللوم هنا إلى مؤسساتنا النفطية, التي ماانفكت تواصل البحث والتحليل والدراسة في هذه المقاطع الساحلية الحيوية, مستعينة بأحدث الفرق المتخصصة بهذا الأمر, لكنها تستلم النتائج باليد اليمنى, وتخفيها باليسرى, بينما تجري (ميادة) وراء السراب, وتحفر في الصخور الوعرة من أجل الحصول على معلومة بسيطة واحدة, تستدل بها في الكشف عن أسرار دلتا شط العرب.
من يقرأ آخر ما كتبته (ميادة) عن دلتا شط العرب, يشعر بالفخر والافتخار, لكننا نقول لمؤسساتنا الوطنية: لماذا لا تفتحوا لها مغاليق دراساتكم الحديثة المخزونة في صناديقكم المحكمة, وما الضير من جعلها في متناول (ميادة) حتى نعرف منها حجم الانكماش الذي بلغته سواحلنا, وحتى نشركها معنا في سبر أغوار مستقبلنا البحري الغامض.
لقد قدمت لنا (ميادة) دراسة رصينة, أنجزتها في العام الماضي بإشراف الأستاذ الدكتور (بدر نعمة عكاش), و(أ. م. د. سحر طارق الملا), طبعتها بكتاب جميل في دار مكتبة البصائر, لتضعه في متناول أيدينا, لكن جماعتنا لا يسمعون تواشيح مغنية الحي, ولا يريدونها أن تطربهم.