تدني الإنسانية

وئام البدعيش\ سوريا

[email protected]

" إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى .. الخسارة الأكبر هي ما يموت فينا ونحن أحياء."

محمد الماغوط

بدأ الإنسان التطور من حيوان إلى إنسان, وعندما وصل إلى الإنسان الطبيعي والكامل من الناحية الفزيولوجية, انحنت إنسانيته وتراجعت باتجاه " الحيونة" ...

" الحمد لله على كل شي": عبارة مهدئة ومسكنة لقلق نفسي, ناجم عن نقص في الإنسانية حصل لديك, وهذه الكلمة تعمل على تخفيف التوتر في الضمير الإنساني, وردة فعله الطبيعية التي تحصل عند سلبك حق من حقوقك, بغض النظر عن مدى حجم أو تأثير هذا الحق....

- " تدني الإنسانية " التعود والتكيف:

نتعود. تعرف ماذا تعلمنا يا أبي؟ ذات يوم شرحوا لنا في المدرسة شيئاً عن التعود. حين نشم رائحة تضايقنا فإن جملتنا العصبية كلها تتنبه وتعبر عن ضيقها, بعد حين من البقاء مع الرائحة يخف الضيق. أتعرف معنى ذلك معناه أن هناك شعيرات حساسة في مجرى الشم قد ماتت ولم تعد تحسّ. ومن ثم لم تعد تنبه الجملة العصبية. الأمر ذاته في السمع حين تمر في سوق النحاسين فإن الضجة تثير أعصابك, لو أقمت هناك لتعودت مثلما يتعود المقيمون والنحاسون أنفسهم, السبب نفسه: الشعيرات الحساسة والأعصاب الحساسة في الأذن قد ماتت. نحن لا نتعود إلا إذا مات فينا شيء. " من رواية أعدائي . ممدوح عدوان "

في السنين الأخيرة أصبح الانحدار الإنساني أمراً روتينياً جداً, لذلك يجب علينا أن نروض أنفسنا, ونعودها على تقبل اغتصاب حقوقنا بكل صدر رحب, " هذا في حال كنا نعرف حقوقنا". فإذا لم نروض أنفسنا, ولم نعودها على هذا التدني وعلى هذا الاغتصاب, فإما أننا سنفكر ملياً إلى مرحلة ننفجر فيها ونصاب بالجنون. أو علينا أن نقاوم لآخر نقطة إنسانية فينا, ولكن في كلتا الحالتين نكون قد غرّدنا خارج السرب أو خارج القطيع, لأن السواد الأعظم من الناس تعتمد مبدأ التطنيش على كل شيء يحصل, حتى ولو كان الذي حصل يخصهم بشكل شخصي ..

فالحقوق الإنسانية التي كنا نملكها منذ عشرات السنين, باتت اليوم حبراً على ورق. فنحن لا نزال ننحدر في القيم الإنسانية يوماً بعد يوم, وفي كل يوم ننحدر أكثر. نتخلى عن مبدئنا, نتخلى عن كل شي, المهم أن نبقى على قيد الحياة. نعود إلى " الحيونة"، إلى الإنسان البدائي بشكل لا إرادي..

إننا نموت بشكل متجزئ!

 يموت الفرح، تموت الذاكرة، تنحني الأشواق

ندخل في الرتابة، ثم ننسحب

 نشيخ بسرعة، وبشكل مذهل

 شيء ما يتآكل يومياً في داخلنا ولا نشعر..

                               واسيني الأعرج

- الترويض الإنساني:

لكي تعيش في هذا العصر مطلوب منك يا سيدي الآتي:

مطلوب منك, أن تغلق شفتيك, وتبلع أي كلمة تريد أن تقولها أو تفكر فيها. مطلوب منك أن تتكلم إلى الداخل, والأهم من هذا كله أن لا تنحنح أو تهمهم, فقد يظنها البعض من علامات عدم الرضا. وعندما تكون هناك علامات عدم الرضا بالتالي  ستظهر عليك علامات القيامة بكل تأكيد ...

مطلوب منك, يا ابن الحلال أن تبقى ابن حلال, وألا تفكر فالتفكير يوجع الرأس, وسيودي بك إلى الجنون, ثم أنت في الأساس غير مطالب بالتفكير. دع التفكير لمن هم أفهم منك وإلا ستظهر عليك أيضاً علامات القيامة ...

مطلوب منك, أن تتألم ولا تظهر عليك علامات الألم, وأن تصرخ من دون صوت, أن تبصر من دون بصيرة...

 مطلوب منك, أن تكون هادئاً جداً إذا رأيت مشاهد القتل والتعذيب والتفجيرات, وكأن الذين يقتلون ويعذبون لا يمتون لك بصلة أو كأنك من كوكب ثان أو من جنس آخر...

مطلوب منك, أن تُعلم أذناك وتدربهم على سماع أصوات التعذيب الجميلة, وعلى زقزقة المتفجرات الصباحية, وعلى صوت هدير الطائرات الحربية, مع أغنية طيري يا طيارة طيري ...

مطلوب منك, أن تبدل أحاسيسك المرهفة وما إلى ذلك من موسيقى وفن وأدب, إلى أحاسيس جبارة تحب السواد واللون الأحمر, تحب رائحة اللحم المشوي الإنساني أكثر من حبها لله نفسه...

مطلوب منك أن تكون إنساناً بالهيكل فقط, بالمنظر والشّسية, أما من الداخل يجب عليك إلا تقترب من الإنسانية بشيء, يجب أن تبقى بعيداً عنها...

 بعد هذا الكلام كله ستتحول إلى أحجار شطرنج جميلة جداً, أو إلى تلك الدمى التي تتحرك عبر خيوط, فلها من الخارج مناظر جذابة وإنسانية ومن الداخل قطن بالٍ. وإذا لم تتحرك وفق هذه الأصابع الإلهية ستقطع خيوط الحياة...

الحياة / الإنسانية / الحقوق :

حب الحياة فطرة عند الإنسان, وإذا أردت أن تعيش هنا, أو تبقى حياً يجب أن تتخلى عن كل شيء يمت إلى الإنسانية وحقوقك بصلة, يجب أن تسكت ولا تتكلم, يجب ألا تسمع, وإن سمعت يجب ألا تفهم, وإن فهمت يجب ألا تتكلم, وأن تكلمت يجب أن يكون الكلام بصوت خفيف وألفاظ مقبولة دولياً وإنسانياً ..

وإن لم تفعل ستخسر ميزة الحياة, وبالتالي ستخسر باقي الصفات الإنسانية. فحياتك ليست ملكك وحدك وإنما هي أملاك عامة, وبحسب القانون لكل شخص حرية التصرف في الأملاك العامة...

 فأنت أمام خيارين، إما أن تموت وفق القوانين والعقائد والأفكار والدساتير وبألف حجة وبرهان, أو أن تسكت وتخرس وتبلع كل شيء يعبق في صدرك, وكل ألم يحتل خلاياك. وبتالي تصبح إنساناً مروضاً قادراً على العيش في هذا العصر ....

إذاً، يجب عليك أن تروض نفسك, أن تعودها على رؤية الألم والوحشية, وأن تأتي كل يوم بأفلام رعب وتعذيب حقيقي, وتشاهدها لمدة ساعة كل ست ساعات, وأنت تشرب النسكفية أو تفصفص بزر... وأن تعودها على الصبر,  ويجب عليك أيضاً أن تمنع أي ردة فعل إنسانية غير عقلية مفاجئة, أن تقتلها في مهدها, حتى ولو كانت نفساً عميقاً, أو زفرة. فالزفرة في هذا الوقت تعادل القنبلة الذرية التي قبّل الغرب أرجل إيران لانتزاعها منها ...

حاول دائماً أن تتجرد من إنسانيتك أن تنزع جلدك وتمشي من دون جلد.

ممكن أن تلبس شعر على جسدك, أو فرو, لا يهم المهم أن لا تشبه الإنسان بأي شكل من الأشكال, وإذا كان ولا بد وكنت تشبهه يجب أن تتصرف بحيونة رهيبة لكي تخرج براءة من هذا الاتهام الخطير...

وأيضا يجب أن تنزع عقلك, فالعقل في البلاد التي لا تحتاج إلى عقل مصيبة ويودي إلى التهلكة أو الجنون ...

يجب أن تقول دائماً الحمد لله على كل شي, حتى لو جردوك من ثيابك، قل الحمد لله. حتى  لو جردوك من عقلك ستبقى كلمة الحمد لله تطن مكان عقلك..... حتى لو جردوك من لسانك ستقول اممم ااممممههه  أي " الحمد لله " ...

" الحمد لله لها أسلوب خطير في كسر أقل مقاومة كنت ستقاومها, وتقنعك بأن ما أنت عليه هو حقك فقط لا غير, وإن سُلب لكَ حق آخر تقول أيضاً الحمدلله, وهي أيضاً بالإضافة إلى أنها تهدئ النفوس, تجعلك لا تنظر إلى الأعلى, فقط تجعلك تنظر إلى الأسفل وتقول الله بعين ....


يا سيدي الكريم " فقط في الاسم "، عندما لا تكون إنساناً إلا بالشكل, فكل ما عليك أن تنتظر ما يرموه لك من فتات خبز, وليس عليك أن تعارض أو تأخذ موقفاً. ليس عليك أن تفكر. فإذا رموا بفتات الخبز تقول الحمد لله وتشكرهم, وإذا لم يرموا تقول الحمد لله .. الله بعين ...ما حدا بموت من الجوع ....

" ما حدا  بموت من الجوع "، من أغبى الأمثلة التي سمعتها أو هي الأغبى على الإطلاق, لأن الذي سيصل إلى مرحلة يموت فيها من الجوع. تكون إنسانيته ماتت منذ زمن بعيد, وأصبحت عظامها مكاحل ....

عندما تجوع فأنت ميت ..

عندما تهان فـأنت ميت..

عندما تقف لساعات لتأخذ كمية قليلة جداً من الخبز، أنت ميت..

عندما لا تحصل على أقل أقل حاجاتك اليومية إلا بألف واسطة وتقبيل للأيدي، أنت ميت..

عندما ...

عندما ....