حول وجوب مقاطعة دستور الانقلابيين
الشيخ العلامة يوسف القرضاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
فتوى سماحة الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حول وجوب مقاطعة دستور الانقلابيين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فلا يرتاب مؤمن صحيح الإيمان، أو عاقل سليم الجنان، أو حر لم تخمد جذوته ، أو شريف لم تتلطخ مبادئه: أن ما جرى فى مصر فى الثالث من يوليو 2013م هو انقلاب عسكرى مكتمل الأركان، على رئيس مدني منتخب من الأمة، انتخابًا حرًّا نزيهًا، وله فى عنق الشعب بيعة بأربعة أعوام.
وله سجل من الإنجازات الواضحة- بالرغم من محاولة أركان الدولة العميقة تعويقه وإهدار طاقته- ما شهد به المنصفون من تحسين منظومة الخبز، والسعي نحو الاكتفاء الذاتي من القمح، ومحاصرة أباطرة السولار والبنزين، وما استجاب له من مبادرات طموحة عملاقة كمشروع محور قناة السويس، وغدونا نسمع عن أحلام وآمال كبيرة لمصر، مثل أول حاسوب مصري، وأول سيارة مصرية، وظهر جليا توجهه إلى دعم تقنيات البحث العلمي وتطبيقاته، إلى جانب مشروعات التكامل الإقليمي مع دول الجوار، وبناء جسور التعاون الدولي مع العديد من بلدان العالم، مثل تركيا والبرازيل، وباكستان والهند وإيران، والصين وروسيا، وما نشأ عن ذلك من اتفاقيات كبرى في فترة محدودة من الزمن.
وظهر في عهده رغبة واضحة لبناء مؤسسات الدولة المصرية الحديثة، التي لا تقصي أحدا، حاول فيها أن يكون مثالا لإنكار الذات، والعفو عن المسيء، والعمل لخدمة وطنه، ولكن الأيادي الملوثة التي ما عهدت الطهارة، والنفوس المريضة بكسب المال الحرام، والعقول المنغلقة عن آفاق التطور والرقي: أبت إلا أن تقف في طريق تقدم مصر، وأن تضع العراقيل أمام قائدها، وأن تلقي بالحواجز أمام موكب النهضة، فعكفوا على العمل على وأد ذلك الحلم الوليد، فكان مكر الليل والنهار، اشترك فيه قادة خائنون، وإعلاميون كاذبون، وقضاة مرتشون، حيث تلاقت المصالح، وتقاربت الأهداف. (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) ( إبراهيم:46)
وقد ترتب على هذا الانقلاب مجازر بشعة، لم تحدث فى تاريخ مصر الحديث، فقُتل الآلاف، وأُصيب واعتقل عشرات الآلاف من خيرة أبناء مصر، ومن أطهر شبابها وفتياتها، وصودرت الحريات، وأغلقت القنوات الإسلامية، التي كانت تعمل منذ عصر مبارك. وضيق على الشرفاء من الصحفيين والإعلاميين، ونشطت آلة القمع، وازدادت الاعتقالات التعسفية، مع تلفيق التهم الباطلة، وانتشار المحاكمات الهزلية. ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:22-23)
فهذه السلطة التي تقوم بهذا العدوان على الحق لتخمده، وتقيم دعائم الباطل وتعضده، وتجند مؤسسات الدولة لمحاربة كل ما هو منتخب، ليستبدل به كل ما هو معين، وتعبث بعقول البسطاء والعامة، حتى يظنوا الحق باطلا والبطل حقا، وحتى يروا النهار مظلما، والليل مشرقا.
هذه سلطة زائفة لا ينبغي السير في ركابها، أو العمل على تثبيت دعائمها، أو تقوية أركانها، لا سيما وقد أظهرت عن وجهها القبيح، واشرأب من خلالها رموز الفساد في مصر، ممن قامت عليهم ثورة يناير، ليقودوا الحراك باسم ثورة 30 يونيو المزعومة، وينظِّروا لهذا الدستور الساقط، بعد أن عطلوا دستور 2012 المستفتى عليه من المصريين، وجاءت نتيجة الموافقة عليه بنسبة 64% ، دون أن يكون هذا مطلبا جماهيريا لمن تظاهر في 30 يونيو.
وأنا أرى المشاركة في الاستفتاء على الدستور والمساهمة في أى عمل من شأنه أن يقوى هذه السلطة الانقلابية، أو يمنحها الشرعية، أو يطيل أمد وجودها، أو يقوى شوكتها يعد من التعاون على الإثم والعدوان، وهو عمل مُحَّرمٌ شرعًا، لقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2).
وقوله عز وجل: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس:32)
وقوله سبحانه: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) (هود: 113).
ولهذا استجاب نبي الله موسى لهذا الأمر فقال: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ) (القصص: 17).
وحذر الله تعالى المؤمنين من اتباع الظالمين والمجرمين والسير في ركابهم، وبين كيف ينقلب هذا التحالف بينهم في الدنيا إلى عداوة وبغضاء يوم القيامة، حين يرون العذاب، ويتخلى كل فريق عن صاحبه، فصور لنا مشهد الصراع المتأجج في الآخرة، بين هؤلاء المجرمين ومن شايعهم، ورضي بظلمهم، وسار في ركابهم في الدنيا، فقال: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ* وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ( سبأ:31-33)
وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده، والنسائي في الكبرى، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وصححه، ووافقه الذهبي، عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيكون أمراء، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ولا يرد عليّ حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، ويرد عليّ حوضي".[1]
ولا يصح عقلا المشاركة فى استفتاء على دستور، لم يقم على توافق وطني، وتمت صياغته بعيدا عن الحوار المجتمعي، وقام به أعضاء معينون، لا يمثلون إلا أنفسهم ومن عينهم من الانقلابيين، بل هو دستور صاغته الأقلية، وأقصت فيه الأغلبية.
وفى المشاركة في الاستفتاء على هذا الدستور، استمرارٌ للظلم والقهر وتقوية له، مع تسويغ ما يترتب عليه من مصادرة لبقايا الحريات، وتعقيد للأزمة.
إن المشاركة فى عملية الاستفتاء بمثابة اعتراف كامل بشرعيته هذا الانقلاب، وممارساته القمعية الاستبدادية، في ظل التزوير المؤكد حدوثه، والذي ستشارك فيه مؤسسات الدولة، فى ظل انعدام أية ضمانات لنزاهة عملية الاستفتاء.
وأنا أرى هذه الوثيقة التي سموها (الدستور) منعدمة شرعا وقانونا، حيث نتجت عمن لا حق لهم في استصدار مثل هذه الوثائق.
فلجنة العشرة، ثم لجنة الخمسين، التي قامت بالاعتداء الصارخ على دستور مصر الشرعي: لجنة لقيطة، معينة من سلطات الانقلاب، ولا تدين بالولاء إلا لمن عينها،
ولا تمت للاختيار والرضا الشعبي بصلة، كما أنها ليست منتخبة لتعبر عن ضمير الأمة وإرادتها، وليست معبرة عن شرائح المجتمع وتوجهاته!!
بل تعمل على إقصاء تيار شعبي، حاز ثقة الناخبين في عدة استحقاقات انتخابية.
وهذه اللجنة العلمانية واليسارية، في مجملها، أقل ما يقال في ممارساتها: إنها لجنة إقصائية، سعت بكل ما تملك لمصادرة الهوية الإسلامية، والانتقاص من دور الشريعة الإسلامية، وإلغاء كل الضوابط الشرعية والأخلاقية والقيمية، التى تحافظ على أخلاق وعادات وتقاليد المجتمع المصري.
وقد ظهر ذلك جليا حين حذفوا النص، على أن مصر جزء من الأمة الإسلامية، كما لم يتحملوا ذكر كلمة الشورى مع الديمقراطية، فلم يبقوا عليها، وأهدروا أخذ رأي هيئة كبار العلماء فيما يتعلق بالشريعة الإسلامية، وحذفوا التفسير الذي وضعه الأزهر لمبادئ الشريعة الإسلامية، وضيَّقوا نطاق تلك المبادئ، معتمدين تفسيرالمحكمة الدستورية العليا لها!!
وإذا كان تجريمهم إقامة الأحزاب على أساس ديني، من دافع المكايدة السياسية، فلا أدري لماذا حذفوا المادة التي كانت تحظر الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء كافة، وما الحكمة في ذلك؟!
وما معنى خلو ديباجة الدستور من أي آية قرآنية أو حديث نبوي، في حين توضع كلمة البابا شنودة (هذه مصر وطن نعيش فيه ويعيش فينا)؟!
إنني أحاول أن ألتمس في عمل هذه اللجنة خيرا، فلا أرى إلا عداء للدين وشريعته، وتنكرا للإسلام ومبادئه، وطمسا للحقيقة وأركانها، وحربا على الفضيلة ودعائمها.
كما أن هذا الدستور، تفوح منه رائحة العهد البائد، وتنبعث منه دلائل الحنين إلى تلك الحقبة المظلمة، والإجراءات الظالمة، فهو دستور يعزز سلطة الفرد الواحد، ويتجاوز كل ما هو منتخب، ويستبدله بما هو معين، وإلا فماذا يعني أن يوكل الدستور للرئيس المعين، الذي لا يملك من أمره شيئا، في تحديد متى وكيف سيشكل كل من مجلس النواب ورئاسة الجمهورية، وهل سيكون المجلس النيابى بالانتخاب الفردى أم بالقائمة الجماعية أو الحزبية، ولا بأية نسبة سيكون كل منهما إن اجتمعا، ولا يعرف النسبة التى ستخصص للعمال والفلاحين، ولا نسبة ما سيخصص للشباب وللأقباط والمعوقين.
لقد تم هذا الدستور خلسة، وقام أعضاؤه بالإعداد له خُفية، في سراديب القاعات المغلقة، من أناس كثير منهم مطعون في نزاهته واستقلاله، ومغموص في توجهه ومبادئه، في ثلاثة أشهر، صاروا يسوِّقون لنضجه ودقته ومثاليته، بينما وصموا دستورا كتب من لجنة منتخبة، من مائة شخص، تمثل شرائح المجتمع، في جلسات ومناقشات علنية، أمام شاشات التلفزيون وكاميرات الإعلام، لمدة ستة أشهر كاملة، تعمل في الصباح والمساء: بأنه دستور مسلوق!!
لقد صنع هذا الدستور على عين العسكر، لا أعين الشعب المصري بكل فئاته، ولبى طموحات بعض قادة الجيش لا طموحات أبناء الوطن، جعل كل ما يتعلق بالجيش يناقشه مجلس الدفاع الوطني، المكون في الأساس من عسكريين، وليس لجنة داخل مجلس النواب كما في الدستور الشرعي.
لقد نزع هذا الدستور سلطة تعيين وزير الدفاع من الرئيس المنتخب، ليقوم به المجلس العسكري، الذي يعينه وزير الدفاع، أي عادت السلطة في النهاية إلى رأس الانقلابيين، المحصَّن مدة ثماني سنوات، لا يستطيع رئيس الدولة المنتخب من الشعب أن يغيره أو يعترض على ممارساته، أو يعدل مساره!!
هذا الدستور ينص على كيفية عزل رئيس الدولة، أما وزير الدفاع فلا سبيل إلى عزله إلا بعد 8 سنوات متتالية!!
ولماذا يصر هذا الدستور على أن يجعل وزير الدفاع محصنا، إلا إذا كان يخشى عاقبة جريرة اقترفها، وجريمة ارتكبها، ولذلك يحاول التغطية على فعلته بهذا التحصين؟!
هذا الدستور يهدف إلى تأسيس الدولة القمعية، ويكرِّس لسيطرة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كما يتوسَّع على نحو مفرط في محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، ويرسخ للدولة العلمانية الإقصائية، ويبارك انتهاك الحريات العامة والخاصة، ويتغاضى عن إهدار حقوق المواطنين وكرامتهم، ويشرع لتغول سلطة الجيش والقضاء، وجعلهما كدولة فوق الدولة، بلا أي رقابة من الشعب أو من يمثلهم، فالقضاة مستقلون غير قابلين للعزل، ورئيس المحكمة الدستورية العليا ونوابه، ورئيس وأعضاء هيئة المفوضين بها، مستقلون وغير قابلين للعزل، وكذا أعضاء القضاء العسكرى مستقلون وغير قابلين للعزل!!
إن هذا كله باطل شرعا ودستورا وقانونا، وكل ما بُني على باطل فهو باطل، وكل ما بني على جهالة فهو عبث واستهانة بإرادة المصريين.
ثم أي دستور هذا الذي يستفتى عليه، في ظل الزج بآلاف الرجال والشباب، والفتيات والأحداث فى السجون ودور الأحداث، واقتحام الجامعات والمدن الجامعية، ودخول قاعات المحاضرات من قبل القوات الخاصة، واعتقال الطلاب وضربهم بقنابل الغاز، وإجبارهم على أداء الامتحانات تحت تهديد السلاح، حتى قتل منهم من قتل، وجرح منهم من جرح.
قالوا: دستور الحريات، بينما وأدوا كل فكرة حرة، واغتالوا كل رغبة صادقة في الإصلاح: قصفوا الأقلام، وسجنوا أصحابها.. حجبوا الصحف، وعذبوا محرريها.. عطلوا البرامج الحرة، وسحلوا مقدميها!!
وقالوا: دستور حقوق الإنسان، وقد اكتظت السجون والمعتقلات؛ بل ومعسكرات الأمن، من شباب مصر الأطهار، ومن رجالها الشرفاء، يرسفون في الأغلال والقيود، ويئنون تحت وطأة القهر والتعذيب، بل كتب هذا الدستور ودماء المصريين تسيل في الشوارع.
وقالوا: دستور حقوق الطفل، ورأينا أطفالا بريئة في عمر الزهور، يزج بهم في غياهب السجون وأقسام الشرطة؛ لأن أحدهم أشار بيده، وآخر حمل إشارة تغضبهم، وثالث مارس حقه في الانضمام لمسيرة ترفض الانقلاب!
وقالوا: دستور حقوق المرأة، ورأينا كيف تصفع وجوه الحرائر، وكيف يسحلن في الشوارع، وكيف يشار إليهن من كلمات وتهديدات بذيئة، وإشارات خسيسة، وما يمارس ضدهن من تحرشات، وانتهاكات تشيب لها الرؤوس، وتقشعر منها الأبدان، في بلد الأزهر، وقلعة الإسلام، تحت علم وسمع وبصر الرموز الدينية الرسمية في الأزهر، بل ومباركتها !
قالوا: دستور العلم، وما زال الحرم الجامعي والمدن الجامعية تئن من سطوة رجال الأمن، وتستجير من بطش البلطجية، الذين يستعين بهم الأمن علنا ويستأجرهم، منذ وطئت أقدامهم أرض الجامعات، ودنست مدرعاتهم ساحاتها، وفتكت أسلحتهم بطلابها.
وما زال الطلاب والطالبات يعانون أشد المعاناة، ويتجرعون مرارة البطش والقهر!
وأي ضمان لنتائج هذا الاستفتاء، وإن كان نزيها، في ظل العصف بإرادة المصريين، والضرب بنتائج الاستفتاءات والانتخابات الخمسة السابقة عُرض الحائط، واعتقال نواب الشعب ووزرائه خلف القضبان؟!
لذلك أرى أن هذا الدستور باطل، دعت إليه سلطة باطلة، وقام بإعداده لجنة باطلة، وجاءت نصوصه لتكرس للباطل، فأنا أدعو المصريين في الداخل والخارج إلى مقاطعة هذا الدستور، وأفتي بحرمة المشاركة فيه، أو المساهمة في كل ما يقوي شوكة هؤلاء الانقلابيين، أويثبت أركان حكمهم.
وأرى المقاطعة للاستفتاء عليه، هي رد الفعل الشعبي المناسب، على إلغاء تصويت المصريين في انتخابات مجلسي الشعب والشورى والرئاسة، والاستفتاء على الدستور، فلسنا مضطرين للتصويت على (دستور الميتة) كما وصفه أحد أشد المتحمسين له!!
وإنني أحذر هؤلاء الانقلابين من بطش الله وسطوته، ومن غضب الجبار وانتقامه، أحذرهم دموع اليتامى، ودعوات الثكالى، أحذرهم سهام الليل التي لا تخطئ!
أتهـــــزأ بالدعــاء وتزدريه ** ولا تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن ** لها أمـــد وللأمـــد انقضاء
فيمسكها إذا ما شاء ربي ** ويرسلها إذا نفذ القضاء
فلا يغرنهم حلمه وهو الحليم، ولا إمهاله، فإنه يمهل، ولا يهمل، والله تعالى يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، قال سبحانه: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) (القلم:44-45 ).
وقال عز وجل: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) ( الطارق:15-17)
وقال تعالى: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (النمل:50-52 )
(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ( يوسف:21)
يوسف القرضاوي
رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
[1] رواه أحمد (5702)، والنسائي في الكبرى، كتاب البيعة (7782)، وابن حبان في السير (4514)، والحاكم في الإيمان (264)، عن كعب بن عجرة.
ورواه أحمد أيضا (14441) وقال مخرجوه: إسناده قوي على شرط الشيخين، والحاكم في الفتن ( 8302) وقال: صحيح، وأقره الذهبي.