الكيُّ ليس أول الدواء ..
في علاج التطرف والتصدي للمتطرفين
زهير سالم*
تقول العرب آخر الدواء الكيُّ . والمفهوم المباشر للحكمة العربية أنه قبل الكيّ تكون هناك ألوان وأنواع من العلاج ومن الدواء . والإسلام الذي شرع الطلاق ونعته بأبغض الحلال إلى الله رتّب قبله للزوجين خطوات للحفاظ على العلاقة من الوعظ والهجر والتحكيم والتأميل قال تعالى في الدفع بالتأميل : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ..). إلا أن بعض الناس الذين لا يحسنون شيئا مما سبق ذكره يجعلون الطلاق أول كلامهم وأوسطه وختامه. ويرون في الكيّ أول الدواء وآخره .
التطرف وانتشار المتطرفين على الأرض السورية مشكلة خطيرة بدأت تجثم بكلكلها على صدر المجتمع السوري ، وتهدد الحراك الثوري بالخطر ، وتسد الأفق في وجه المستقبل الوطني السوري على أكثر من صعيد .
التطرف وانتشار المتطرفين هي مشكلة شديدة التعقيد ، متعددة الأبعاد ، خطيرة التداعيات والانعكاسات . والسكوت عنها والتهرب من مواجهة استحقاقاتها فاقمها وأزّمها ، وركوب الصعب والذهاب بانفعالية إلى طريقة من قال : ( كسرت كعوبها أو تستقيما ) ربما يقودنا إلى ما هو أشر منها.
لم يملّ العقلاء منذ بروز الظاهرة من التنويه والتذكير والمطالبة بضرورة المبادرة إلى مواجهتها بالتعامل الحكيم الجاد والحازم مع التطرف كظاهرة ومنهج بدأ يقرع أبواب المجتمع السوري ، ومع المتطرفين كأشخاص وقيادات اندفعوا إلى الأرض السورية من فوق ومن تحت ومن يمين وشمال . إلا أن البعض آثر التواري في الضباب ، والاختباء وراء الأصبع ، أو كما تعود الناس أن يقولوا : آثروا أن يغمسوا رؤوسهم في الرمال حتى استشرى الشر وتحول الشرر إلى نار تحرق ولا تدفئ ..
إن أخطر ما في نهج التطرف وكلام المتطرفين تلبسه بأجمل ما في حياتنا : الإسلام والإيمان وقال الله قال رسوله والقرآن وعقيدته وشريعته ومنهجه .
وأقسى ما في أمر المتطرفين في واقع أمرهم في سورية اختلاط المفسد منهم بالمصلح . حتى يصعب على أهل الجد والصدق أن يميزوا في صف فيه خادع ومخدوع أن يميزوا في ظاهر الأمر بين خبيث وطيب . أو أن يميزوا في الغمار المختلط والمشتبك بين المغضوب عليهم والضالين .
إن الأخطر والأقسى معا امتداد خيوط بعض أولئك المغضوب عليهم إلى أصابع ( النفاثين والنفاثات بالعقد ) بحيث أصبح السوريون مع هؤلاء الذين يزعمون أنهم جاؤوا لينصروهم أو ليجيروهم : كالمستجير بعمرو عند كربته أي كالمستجير من الرمضاء بالنار .
وحتى وجد المستضعفون السوريون الذين تقاعس كل العالم عن نصرتهم ، وتآلب عليهم اإلإلب الروسي والإلب الإيراني مع الإلب الأسدي أنفسهم أمام إِلْب رابع يدخل الساحة فيضيف تهديدا لثورة السوريين بتقديمه ذريعة لمنطق خاذليهم ، ثم ليضيف تهديدا عملياتيا في سياق موثق من الوقائع في إضعاف مشروع الثورة والثوار بحيث انطبق عليهم بكل دقة قوله تعالى ( لو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) ثم ليختتم مشروع الإيضاع بالفتنة ( وفيكم سماعون لهم ) .
إن المهم الذي نريد أن نذكر به في هذا المقام : أن الشعب السوري والثورة السورية حين تنفض يدا اليوم من هؤلاء الذين يُكفّرون ويفسّقون ويبدّعون والذين يغدرون ويعذبون ويقتلون ويمثلون ، فهي لا تفعل ذلك على أسس ومعايير دولية أو إقليمية . بمعنى وهذا يجب أن يكون واضحا كل الوضوح لهؤلاء أنفسهم أنه حين بادرت الولايات المتحدة إلى إعلان بعض هذه الفصائل بمعاييرها الأمريكية مجموعة إرهابية ، وتابعها مجلس الأمن على ذلك ؛ وقفت كل فصائل الثورة السورية العسكرية منها والسياسية في وجه التصنيف الأمريكي والدولي ورفضته وتحدته . وهي اليوم إذ تجد نفسها مضطرة لمراجعة مواقفها وسياساتها فإنما تفعل ذلك بناء على أطروحات وممارسات تصدر عن فاعلين بأعيانهم . وما زلنا مصممين على ألا نذهب وراء الخلط والتعميم ..
يوم سأل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا حسان بن ثابت : كيف تهجو قريشا وأنا منهم . أجاب سيدنا حسان : لأسلّنكم منهم كما تُسل الشعرة من العجين . فقه الموقف في لحظتنا يستحضر مثل هذا المنهج وهذه البراعة أيضا .
نعتقد ونحن نتحدث عن أول العلاج وليس عن آخره في علاج التطرف والتصدي للمتطرفين هو أن السبب الأول في انتشار الظاهرة وتكاثر أنصارها في أرض الشام وبين ظهراني أهلها هو غياب البعض ، وقصورهم ، وخفوت صوتهم ، وميوعة موقفهم ، وضعفهم عن التمييز في فحوى الخطاب وشكل الخطاب بين مرحلة ما قبل وما بعد ، وتناسيهم أن لكل مقام مقال . ولكل حديث رجال .
وأول العلاج لو كان هناك من يبحث عن علاج هو في حضور يملأ الفضاء أو يقارب ، وفي خطاب سديد يتوجه إلى العقول والقلوب فيؤكد الثقة ويزرع الأمل ويبشر بالخير . خطاب يتوجه إلى ضمير شعب نعرف جميعا ماذا يريد وإلى ماذا يتطلع فتتعتصم الكلمة بالحبل المتين دون أن تقطع شعرات صلة لا بد أن يكون لها من فقه سيدنا معاوية نصيب ..
وثاني خطوة لا بد منها أن نتبين ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا .. ) فهؤلاء الرجال المسلمون الأطهار الأبرار الذين تركوا ما كانوا فيه من دعة ومن استقرار ومن رفاه حين استنفروا فنفروا ما جاؤوا بجملتهم إلى الشام : يريدون علوا في الأرض ولا فسادا . بل الأصل أنهم جاؤوا نصرة للحق وأهله ، جاؤوا غضبا لكلمة الله لتكون العليا ، جاؤوا نصرة للدماء المسفوكة والأعراض المغتصبة ، هذا ظننا فيهم والله حسيبهم ، فوجدوا راية مرفوعة باسم الله ، ولواء معقودا للدفاع عن شريعته فانضموا إليه وتحيزوا إلى فئته ، على غيرما بحث ولا تمحيص . والسؤال هنا ما زال في سياقه فأين كان أهل لواء الحق ، بل أين كان لواء الحق ..
والجواب هنا في الخطوة الثانية على الطريق لا بد في معركة أهل القرآن من رجال ثقات يحملون عبء البيان . ولا بد إلى جانب نور البيان . من رفع لواء الراية البديلة ، التي تثوّب للصالحين والصادقين أن هلموا فتكون مثابة هداية وبصيرة ونور ورشاد وعمل وجهاد . خطوة ضرورية التفريط فيها والقعود عنها والتقصير فيها سيدخلنا في إطار لا نحبه ولا نرضاه . وإن نقمنا على أئمة الفتنة خوضهم في العقائد فلا يمكن أن نجاريهم في الخوض فيها . وإن أخذنا عليهم جرأتهم على الدماء فلا يمكن أن ننافسهم في الجرأة عليها ...
نسمع وينقل لنا الكثير أحاديث : قلنا وقالوا ، قدّمنا وفعلوا . ومع أن الاسترسال في المراء والجدل والشر مستنكر مرفوض غير محمود؛ فإن الذي يجب التركيز عليه في السياق : أن مهمة التذكير والبيان والإرشاد والتعليم مهمة مستدامة لا تتوقف ولا تنقطع ولا تنتهي بمجلس . ولا تعامل بمنهج ( فانبذ إليهم على سواء ) فذلك كلا م رباني آخر قيل في قوم آخرين .
قبل الاندفاع إلى آخر الدواء الذي نرجو أن تسعفنا الحكمة قبل الحاجة فلا نحتاج إليه . لا بد من من حضور مهاب يحجم ويردع . وبيان شاف يقيم الحجة وينير الدرب . وبدائل مساعدة تعزل أئمة الفتنة ونسأل الله ألا يكون لهم في هذه الصفوف نصيب ..
أما الاستراحة إلى قوله تعالى ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) أو الاستشهاد ب ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ..) فذاك كلام يخشى على صاحبه من منهج قيل في أصحابه : يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ..
ننكر كل المنكر ونرى أن المنكر الأكبر هو المنكر الذي يرتكب باسم كلمة الله ودينه وشريعته ..
ندعو إلى مبادرة عاجلة وجادة وصادقة تبدأ من حضور قوي تمنع كل أشكال التمدد السهل في الناس وعلى الأرض . وبيان من أهله يطرد الشيطان ويصادر الأفق على حزبه . وراية للحق بديلة ومرفوعة يفيء إليها الصادقون الجادون ويثوب إليها المجاهدون المخلصون . ثم جهد جاد للاحتواء والتحجيم . حتى يجد رؤوس الفتنة في طهران أنفسهم بلا أذرع ولا أقدام ..
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية