المستشفى المغربي في قطاع غزة
د.مصطفى يوسف اللداوي
بأموالٍ بسيطةٍ مباركة، وجهودٍ مضنيةٍ حثيثة، ومساعي شعبية كريمة، ومساهماتٍ فرديةٍ شاقة، ومبادرةٍ أخويةٍ صادقة، نجحت اللجنة الصحية المغربية لمساندة فلسطين، وفريقٌ من الأطباء والصيادلة في وضع حجر الأساس لمستشفى أهلي مغربيٍ في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، يعنى بشؤون الفلسطينيين العامة، ويهتم بأحوالهم الصحية المختلفة، ويسعى لعلاج أمراضٍ مستعصية، ويساهم في حملاتٍ طبيةٍ دوريةٍ منظمة، ويشرف على إجراء عملياتٍ جراحية متعددة، ويشترك مع أطباء فلسطينيين وعرب وأجانب في التخفيف من معاناة الفلسطينيين، والتقليل من آثار الحصار الإسرائيلي الظالم على قطاع غزة، الذي تسبب في تردي الأوضاع الصحية العامة، وتأخر في علاج الكثير من الأمراض المستعصية، خاصة تلك التي نتجت عن الاعتداءات الصهيونية المتكررة على غزة، والتي بلغت ذروتها في حربي عام 2008 و 2010، ما جعل حاجة قطاع غزة ماسة وكبيرة لوجودِ فرقٍ طبيةٍ عديدة، لمتابعة احتياجات السكان، وتقديم الخدمات الطبية الضرورية لهم.
يتنافس الأطباء المغاربة والعاملون في مختلف المجالات الطبية والدوائية، في أن يكون لهم دورٌ مباشرٌ في هذا المشروع، ويرون أنه مضمارُ شرفٍ، وميدانُ سباقٍ حرٍ، وساحةُ عطاءٍ شريفة، ومكرمةٌ يجب أن يكون المغاربة من السباقين إليها، وأول الحاضرين فيها، وأكثرهم عطاءً، فتراهم يسارعون في المساهمة فيه كلٌ بالقدر الذي يستطيع، وبالجهد الذي يقدر عليه، وفي المجال الذي يبرع فيه ويتميز، ويتكبدون من أجل هذا الهدف مشاق كبيرة، ويلاقون صعاب عديدة، إذ يحرصون على دخول قطاع غزة في كل الظروف والأوقات، غير مبالين بالحصار، وغير عابئين بحجم الصعاب والعقبات التي تعترض طريقهم للوصول إلى غزة، ولا بعد الشقة وطول المسافة، ويقضون في قطاع غزة مع الفلسطينيين وفي بيوتهم، في ظل الظروف الصعبة، وتحت ضغط الحصار الخانق، أياماً طويلة، يصلون فيها الليل بالنهار، في عملٍ طوعيٍ نبيل، دون انتظارٍ لأجرٍ أو توقعٍ لمكافأة، أو استدراجٍ لشكرٍ، أو ذكرٍ وتمجيدٍ وإشادة، بقدر ما يرونه واجباً وفريضة، يقوم بها فريقٌ من المغاربة نيابةً عن شعبهم، تجاه شعبٍ عربيٍ مسلمٍ، يعاني الحصار والجوع، ويكابد الآلام والمعاناة، ويتعرض لصنوف القتل والتعذيب والإهانة، ولا يلقى من المجتمع الدولي غير الصمت واللامبالاة، والعجز التام عن مواجهة الصلف والظلم والاعتداء الصهيوني المتكرر على الفلسطينيين.
ولعل فريقاً من الأطباء المغاربة الذين دخلوا قطاع غزة، ضمن حملات النصرة والإغاثة، من الرجال والنساء، قد عرضوا حياتهم للخطر، وعملوا لأيام طويلة تحت وقع القصف وأعمال الحرب، فلم توقفهم عن أعمالهم الغارات، ولم تخفهم الطائرات ولا الصواريخ، ولم تعجل الحروب في رحيلهم، ولم ترتجف أصابعهم في غرف العمليات وعيادات الطوارئ، وهم يرون السماء ترعد، والأرض تتزلزل، وأصوات الطائرات ودوي القنابل وقصف الصواريخ يرعب كل الكائنات، ورغم ذلك فقد أبوا المغادرة، وأصروا على البقاء، وواصلوا في ظل الظروف الحرجة أعمالهم، وهم يشعرون بزهوٍ وفرح، ويرفعون الرأس عالياً بفخرٍ وشرف، ويرون أن ما يقومون به هو شكلٌ من المقاومة، وسهمٌ يشاركون فيه بالجهاد.
تعود الفرق الطبية المغربية من قطاع غزة إلى المغرب، مرفوعة الرأس، شامخة الروح، عالية الهمة، قوية الإرادة، مسكونةً بالقوة والعزة، وهي تحمل معها ذكرياتٍ جميلة، وقصص وحكاياتٍ حلوة، وشواهد ورواياتٍ رائعة، فقد عاش أغلبهم في المخيمات، وبات في بيوت العامة، وأكل من طعامهم، واختلط بهم وسمع منهم، وحرص على زيارة العديد من أسرهم، فالتقوا بالجرحى، وقابلوا أسر الشهداء، وزاروا بيوت الأسرى، ودخلوا إلى المدارس ورياض الأطفال، وتنقلوا في الحواري والأزقة والمخيمات، فهالهم ما رأوا فيها من صدق الإرادة، وقوة الثبات، وصلابة الموقف، وشجاعة المواجهة، وعظم البلاء، وجهد الصبر، واحتساب الأجر.
لا يكتفي المغاربة في أن يكون لهم في القدس بابٌ وحارة، ولبيت المقدس بيتٌ وصندوق ولجنة، ولا أن تقتصر جهودهم في نصرة فلسطين وأهلها على القدس ومسجدها الأقصى، وإن كانت هي القلب والعنوان، وهي القبلة والمسرى، والتي إليها تهفو قلوب المسلمين وتتطلع، بل يتطلعون إلى أن يكون وجودهم ممتدٌ على طول فلسطين كلها، وعميق بين الشعب كله، على اختلاف فئاته وانتماءته، بعيداً عن الاتجاهات الحزبية، والولاءات السياسية.
ولا يقبلون أن تكون مساهماتهم في فلسطين رسمية، يقوم بها الملك والحكومة فقط، وهي وإن كانت جهودٌ مقدرةٌ وكريمة، ومساعي شريفةٌ ونبيلة، إلا أن الشعب المغربي، يأبى إلا أن يكون له مساهمة مباشرة، ودورٌ فاعل، وأثرٌ محسوس، يلمسه المواطن الفلسطيني البسيط في الشارع، ويقوم به المواطن المغربي البسيط، بالقدر الذي يستطيع، تجاه الشعب الفلسطيني الشقيق، ليدرك حجم التعاطف الشعبي المغربي معهم، وصدق الإنتماء إليهم، ومدى الاحساس بعمق الروابط التي تجمع بينهم، ويرون أن عطاءهم مهما كبر وعظم، فهو جهد المقل، وعطاء القليل، ويتطلعون لمضاعفته، ويأملون في زيادته.
فلسطين وإن كانت تقع بعيداً في أقصى المشرق العربي، إلا أن قلبها النابض، وروحها الحرة، وإرادتها الصادقة، تسكن هناك بعيداً في قلب المغرب العربي، فهي تعمر كل قلب، وتعيش في كل بيت، وتحضر في كل مناسبة، وتتقدم على كل حاجة، وإليها ترنو قلوب المغاربة وتتطلع، ومن أجلها تجود النفوس، وتسخى الأيادي، وتسمو الهمم، وتعطي من فيض خيرها بإباءٍ وأملٍ وشمم.