فردوس السيادة المفقود

سماح هدايا

 الحق الدّولي النابض بحقوق الإنسان، ليس مبدأ حقيقياً، ولا حقيقة. هو لأغراض سياسية تقرضها قوة الدّولة المهيمنة، وتمليها ضرورات السيادة. وقد أسقطت فجائع الشعب السوري أكذوبة الحق الدولي بحماية مطامع الدول المهيمنة وحفظ مصالحها؛ فصار لازما على السياسيين السوريين المؤيدين للثورة والممثلين لها، البحث عن آفاق جديدة لنوال النصر والتحرّر من الطاغية وعصاباته. وإعمال الفكر بمنظور آخر. فتلك الأوهام المنتشرة في العالم الدولي متمثلة بنشر الديمقراطية وإقرار حقوق الإنسان وسيادة الحريات ، وصداقة الشعوب المقهورة أصبحت جزءا من ماض انتهى عسل ادعائه بمجرد مجيء الثورات العربيّة؛ فالتناقض الصارخ بين العمل والقول الذي كشفته الثورات في حقيقة مواقف المجتمع الدولي الحقوقي ومن يواليه أسقط قناع المراوغة والضليل والنفاق، وصار صعبا أن تنسى ذاكرة الناس التاريخ الجديد من الظلم ؛ لأنه انحفر بالدماء والأوجاع والخذلان على صليب الثورة..ولا عودة للضلال.

 عبر التاريخ والخليقة، السيادة هي المحرك، وهي القوّة . وفي المجتمعات لا قوة للسّلطة مالم ترافقها السيادة. وسلطة نظام الأسد فقدت بإرهابها منظومة سيادتها وشرعيتها، وصارت تتخبّط متوحّشة بين عصابات كثيرة، وقوى عسكرية وأمن وشبيحة ومرتزقة ، تبطش بالقوة والجريمة والمجزرة. وبالتّوازي تكشفت الحقيقة عارية بأنْ لا مصلحة للدول الكبرى في انتصار الثورة السورية، ولذلك لم يتدخّل الحقّ الدولي لحسم الحرب القائمة في سوريا وإزاحة نظام الأسد الطاغي؛ فذلك يناقض سيادة الدول التي تتحاصص في المنطقة، بل تدخلت لتدعم بقاء الانظمة من أجل الحفاظ على مصالحها ، وأسهمت في إشعال الثورات المضادة لثورات الربيع العربي.

 إنّ المسؤولية في إسقاط الظلّم والاستبداد ونظام بشار العصاباتي الطائفي، مسؤولية الشعب السوري وثورته، وليست مسؤولية أعداء الشعب السوري. . وإنّ استراتجيّة التّقتيل والترهيب والتوحّش، التي ينفّذها النظام وعصاباته ومجرموه معتمدين على القوة العسكرية التي تأتيهم من أصدقائهم لقمع الشعب وقتل مدنييه وثائريه، تؤّكد أوّل ما تؤكّد على جنون السلطة الداخلية المدعومة من الخارج، والتي لا ضوابط لها ولا حدود، عندما تواجه الاحتمالات الكبيرة للخسارة العسكريّة وفقدان السلطة والانهيار المطلق للسيادة.

 لكنْ، لا تكفي القوّة العسكريّة لحسم المعركة. المهم إرادة القوة ومبتغاها الفكري والسياسي والأخلاقي. كذلك لا تكفي الغايات الأخلاقية والنيات الطيبة و مغازي الخير. ومطالب الحق التي تحملها الثورة للنصر، إن لم تقترن بالقوة والقوة الباطشة التي لا ترحم عدوها القاتل. القوّة المنتصرة بحاجة لفكر ..وللأسف فإنّ حالة تصادم الآراء والأفكار والمواقف في موضوع القتال الجهادي اعتماداً على العقيدة الدينية والحرب المقدسة في ساحة الثورة السوريّة، التي تقاتل نظام الأسد الظالم الطاغي الذي يقتل بلا توقف؛ تدل على فوضى الرؤية السياسية وتنازع المبادىء العقائديّة والرّؤى الفكريّة وضحالة الحس الوطني السيادي. وهو مايضعف جدا قوة العمل العسكري وجدواه؛ فيصيح التقاتل الداخلي دفاعا عن الوجود بديلا لمقاتلة العدو الظالم. ...ولسوء حظّ الثورة المجتمعي؛ فقد انتشرت في بنى الشعب السوري بؤر خيانة.وهناك من يخلط الأمور، وهو مستعد للتّحالف مع عدوّه من أجل الإطاحة بخصم سياسي. ولم يعد مقبولا منطقيا ترويج فكرة محاربة أمراء الحرب كبديل عن محاربة عصابات النظام. أكيد هناك أمراء حرب ولصوص. وهذا جزء من اي حرب في أي زمان ومكان. لكن مما لاشك فيه أن فرق القتل والاغتيال التابعة للنظام وإيران وحزب الله لها دروها الكبير جدا في الاختراق وفي إضعاف أداء المقاتلين، ليس من خلال الحرب العسكريّة فقط، بل، أيضا، من خلال ملاحقة القادة العسكريين وخلق فتنة وتوتر مستمر بين المقاتلين. ولللإعلام المضاد وللإعلام المحسوب على المعارضة دور أيضاً؛ حيث يجري تضخيم هائل لموضوع التّجاوزات والانحرافات، ويلقى الإصغاء لدى الصامتين والمتخاذلين والمتعاطفين مع نظام الاستبداد وأطياف الرماديين المعارضين وغير المعارضين.

 لو كان هناك عقليّة سياسيّة ناضجة موحّدة شاملة عامة تؤمن بالسيادة االثورية والأولويات التّحررية، في إسقاط الحكم الفاشي الأسدي؛ لما حصل هذا الأداء الواهن. ولكانت القيادة أحسنت استخدام كل الأدوات المتاحة لتحقيق هدفها واستمالة الحائرين وصغار المكاسب والمقاتلين، بما فيهم الكتائب العقائدية التي تدعمها عدة دول، ومجموعة من الحواضن الشعبية المفجوعة والمنغلقة. وأمكنت تنظيم عمل هؤلاء وتفعيله، بدل تركهم يعيثون فسادا سياسيا وولاءات تناقض الهدف الثوري. يجب استخدام كل ما هو متاح، من أجل إنجاح الثورة وأهدافها في الحرية والعدالة والكرامة. فالأفكار المثالية لا توجد كاملة في الواقع.؛ بل يحتاج تطبيقها إلى فهم الواقع وإدراجها فيه منطقيا، بما يفيد المجتمعي والفردي والمسعى الثوري، وبتآزر بين المففعة وتجنّب الضرر.

 الصورة الملائكية للثورات وهم رومانسي. الثورات لا ترافقها عدالة؛ لأنها جاءت على مجتمع الظالمين والمظلومينوهؤلاء لا يعرفونالعدالةالثورة تمهد لبناء العدالة بتحرير المجتمع من الظالمين الطغاة ومن المظلومين المقموعين. ونحن بالطبع نحتاج القوة للحسم، لكن، لا نريد الوحشية الظلامية ، حتى لا نحارب عدونا بأسلحته نفسها؛ فنخسر تفوقنا عليه، تمايزنا وتميزنا.

حين تندلع الثورات الكبرى، تقف، في وجه إعصارها، قوتان متمثّلة في الثورة المضادّة. قوة من مستبدي الشعب ومنتفعيه ومجرميه، يحاولون السيطرة أو الخروج بصفقات رابحة من الثورة أو بمكاسب جديدة ومواقع هبش غنيّة، وقوة من جبنائه ومنافقيه، الذين يحاولون الاحتماء كما لنعامة بدفن الرأس في الرمال، في انتظار الخروج والنصر. والكل تسيّره مكامن السلطة، متضافرة مع دول كبرى؛ فتسير الثورات المضادة بدفع من العالم المهيمن معتمدة على تحريض الداخل مستغلة المشاكل الكثيرة الظاهرة بفعل فوضى الثورة والعنف والنكبات. وتكون الجهات القائمة بالثورة المضادة مدعومة وفق الرهانات على قدرتها في خدمة المكاسب الاستراتيجية للأنظمة الاستعمارية.

 أنظمتنا السياسة الطاغية كلها، لن ينفع معها الترميم والإصلاح والتجميل؛ لأنها أجرمت وشمخت بالظلم والقمع وكرّست الفساد والاستبداد ومنهجت القمع في كل البنى المجتمعية. أنظمة موالية لأعداء الأمة، لا يعنيها الوطن؛ فمن أجل سيادتها ومصالحها ومكاسبها مستعدة أن تشعل الأوطان كلها.. ثم تقف تنسج القصائد والأناشيد والمراثي الكاذبة على تلال الخراب والحرائق...لكنهم طغاتنا يضللون أنفسهم ويوهمون عقولهم المريضة بالنصر...قد فقدوا فردوسهم الذهبي ....ولا يعود التاريخ للوراء لزمن بطشهم. أدخلت الثورات العربية شعوبها في أفق تاريخي جديد، ومثّلت مرحلة جديدة من التاريخ والوعي ومن دورات الحضارة في مسألة العدالة والحرية والسيادة للحق.

الطغاة، فقدوا فردوسهم.... والشعب يخطّ الطريق لفردوسه. سيظل صامدا ليصنع قدره وسلطته وسيادته. لن ينجحوا في أن يسرقوا السلطة ممن يناضل ويقاتل ويدفع الثمن غالياً من دمه ودم أبنائه وأهله، ليصبح، بالحق، مصدر السلطة وغاية السلطة....لا مجال لنصرهم. سينهزمون. والشعب مصيره بعد نصبوا له المقاصل إلى ساحات النصر ليحتفل بشرعية سيادته وسلطته. الشعب عرف هدفه وسيجد طريقه. البنادق وحدها لا تصنع ثورة راسخة. حجم الإرادات يقود الثورات إلى بناء أمم جديدة.