غياب العقل الرشيد
د.مصطفى يوسف اللداوي
يجب أن نعترف أننا فقدنا العقل والحكمة، وأنه لم يعد لدينا ولا بيننا رجلٌ رشيد، يقودنا إلى الحق، ويوجهنا إلى جادة الصواب، ويوصلنا إلى بر الأمان، فلا حكمة عربية، ولا يمانية، ولا حلم أحنف، ولا ذكاء إياسِ، ولا عاقل مميز، واعٍ حريص، ينقذنا من مأزقنا، ويخرجنا من ضائقتنا، وينتشلنا من الحمأة التي وقعنا فيها.
فقد اتسع الخرق على الراقع، وزادت الأيام في الطين بلة، واشتد لهيب النار، وتصاعدت ألسنته، لتحرق أجسادنا مع بيوتنا، وتدمر مستقبلنا مع ماضينا، وتنهي وجودنا ولا تبقي على شئٍ يُذَكِّرُ بنا، أو يحافظ على أنفسنا وأجيالنا، وها هي الأرض بنا تميد، وتحت أقدامنا تتزلزل، وكلنا نموت أو ندفن، تبتلعنا الأرض أو تمزقنا الانهيارات، أو تحرق أجسادنا النيران، فلا يبقى ما يميزنا عن بعضنا، أو يعرفنا على من فقد منا، فقد تشابهت الأيادي، واستوت السوق والأقدام، وصبغت الأجساد كلها حمرُ الدماءِ.
سوريا أصبحت رماداً وما زالت تحترق، ولبنان سادته الشظايا وينتظره المزيد، ومصر تمزق حلمنا وتفتت أكبادنا، وما زالت أيادٍ غريبة تحركها، وإراداتٍ مرعبة توجهها، وليبيا تغرق وتحترق، وأبناؤها يشعلون نارها، ولا يهمهم اشتداد أوارها، وتونس تائة حائرة لا تعرف الطريق، ولا تهتدي إلى سواء السبيل، واليمن تسوده الفوضى، ويسكنه الخراب، ويعم أرجاءه الاضطراب، والسودان على فوهة بركان، يغلي في داخله كالمرجل، وتحترق أطرافه ويتهدد قلبه، وتتناوش جسده السباع، وتتربص به الذئاب، وفلسطين ضائعة مفقودة منسية، فلا من ينتبه لها، ولا من يقلق على مصيرها، والعدو ينهش لحمها، ويشرب دماءها، ويسحق عظامها، ويغير كيف يشاء في هيكلها، لتكون له وحده دون غيره.
ألا يوجد فينا من يرفع الصوت عالياً محذراً، ويصرخ منبهاً، ويخرج على الملأ منادياً، أين عقلاء أمتنا، وأين حكماؤها، وأين الراشدون المميزون، أين الحريصون المخلصون، أم تراهم ماتوا وقتلوا، وها هنا وهناك دفنوا، فسكنت أجسادهم وسكتت ألسنتهم، فأفسحوا المجال رحباً أمام المتشددين والمتطرفين، وفتوا الأبواب على اتساعها لكل المارقين المفسدين، فلا صوت يعلو فوق صوتهم، ولا إرادة تغلب إرادتهم، ولا قدرة على لجم صوتهم، وإخماد صخبهم، وتفريق جمعهم، وتشتيت جهودهم، أم ترى أن هذه البلاد ليست لنا، وأن هذا الولد ليس ولدنا، فلسنا أماً له، نحرص عليه ونخاف على مصيره.
أيها العقلاء هذا يومكم، وهذه معركتكم، وهذه السوح أصبحت لكم، اليوم نناشدكم، ونتطلع إليكم، ونتوق إلى حكمتكم، ألا تتنادون إلى لقاءٍ جامعٍ، ونادٍ صادق، يوقف حمامات الدم، ويعطل هدير الدبابات، ويسكت فوهات البنادق، ويضع حداً لطبول الحرب التي تدق في كل مكان، وينهي صيحات الثأر، ونداءات الكره، ويخرس أبواق التحريض وأصوات الكره.
ألا تحبون أن يكون مستقبلكم وأولادكم في بلادكم، أم تراكم نقلتم أسركم وأبناءكم إلى أماكن آمنة، وضمنتم لهم إقامةً مشروعة، ومستقبلاً وادعاً لا خطر فيه عليهم في بلادٍ أوروبية وأراضٍ أمريكية، فلم تعودوا تهتمون بمن بقي، ولا تأبهون بمن يموت ويحترق، فغداً إليه تعودون وقد أصبح يباباً، تحلق في سمائه الغربان، وتنعق في جنباته البوم، وتسرح فوق ترابه الهوام والسباع، والذئاب والكلاب، وتزحف فيه الأفاعي والعقارب.
ويلٌ للعرب من يومٍ قد اقترب، ويلٌ لم من مصيرٍ مرتقب، ونهايةٍ محتومةٍ تقترب، وخاتمةٍ وخيمةٍ سطورها الأخيرة تكتب، وشرٍ قادمٍ لا شك فيه ولا ريب، وحينها سنصرخ ونقول، ونندم ونتحسر، ولكن ولات حين مناص.