مصيبتنا في عمالة حكومتنا
وفي عمالة مولانا
علي الكاش
كاتب ومفكر عراقي
منذ الاحتلال البغيض للعراق تفتحت الكثير من الخدع التي إنطلت على الكثير من العراقيين بسبب الجهل أو العمالة، أو تقليد المرجعية الدينية، وربما حسن النية على أقل تقدير، منها خدعة مشاعل الديمقراطية التي تحملها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوربا لتنير للعالم الثالث المتخلف المظلم دروب الحرية والديمقراطية وتعزز مكانة حقوق الإنسان. فقد تبين أن تلك المشاعل لا تختلف عن الرماح التي كان يرفعها سلفهم الغابر في القرون الوسطى معلقين عليها رؤوس أعدائهم، وما أشبه اليوم بالبارحة!
عندما شنت الولايات المتحدة الأمريكية حربها على يوغسلافيا تضافرت جهود الدول الأوربية لجرف مخلفات الحرب وبناء الصرح الحضاري الجديد، وبدأ مشروع مشابه لمشروع مارشال الذي انهض ألمانيا من جديد، وفاضت المعونات والمساعدات الأوربية لإعادة بناء ما دمرته الحرب، وكذلك الحال في اليابان وغيرها بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن في غزو العراق تراوح الموقف الأوربي في البداية ما بين مؤيد لأمريكا قولا وفعلا، أو معارض بالقول فقط، أو محايد بالقول فقط، وهذه المواقف الثلاثة تدخل جميعها في خانة الإضرار بمصلحة العراق، ويدفع العراقيون يوميا ضريبتها الفادحة من دماء أبنائهم ومن ثروات وطنهم. ولم تجرِ محاولات جادة لإعادة بناء العراق وعودة الحياة الطبيعية لأبنائه. حتى عمليات إطفاء الديون وتقديم المساعدات لم يكن لها وجود حقيقي على أرض الواقع سيما للشعب.
مأساة العراق شارك فيها إلى جانب القوات الامريكية، عدد من الدول الأوربية والدول الإقليمية والإسلامية والعربية سواء كانت المشاركة حربية أو مادية او معنوية، والدول التي سهلت احتلال العراق وغذت طفيلياته الشرهة، تقف الآن متفرجة عما جنته يداها من دماء الأبرياء، ومن المؤسف أن يشارك فيها شراذم من العملاء الذين فقستهم المخابرات الأمريكية والأوربية والإيرانية ليمسكوا المعاول بأيديهم القذرة ويدمروا كل ما هو حي وعامر، ويحرقوا كل ما هو أخضر ويابس. إنها جريمة دولية يتحمل أوزارها الجميع بمن فيهم الأمم المتحدة ومنظماتها ولجانها والرأي العام العالمي وبقية المنظمات الدولية، جريمة تفرقت دماء الضحية على جميع دول العالم فأصبحوا شركاء فيها كل حسب موقفه، مع اعتبار السكوت بحد ذاته جريمة!
من البديهي إن الاحتلال هو من أبشع صيغ التدمير والتخريب والإبادة البشرية، إنه اسوأ صورة من صور الحرب ضد الشعوب الآمنة، وأعنف أسلوب من أساليب الإبادة الجماعية، وأحقر طريقة لسرقة موارد وثروات الأمم، وأقبح السبل لمسخ هوية الشعوب وامتهان سيادتها وكرامتها، وأرخص وقود لحرق تطلعات الشعوب وآمالها في المستقبل. فالشعوب التي ذاقت مرارة الاحتلال تعد أفضل نموذج يستشهد به في هذا المجال. ولكن الشعوب التي عانت من أحتلالين خلال أقل من قرن من الزمان كالعراق تمثل النموذج الأسوأ والأبشع من حيث الزمن الذي استغرقه الاحتلالين، وفترة الحصار الاقتصادي الظالم التي تخللتهما وهي فترة إستراحة لقوى الإحتلال! أو من حيث الخسائر التي لحقت بالشعب العراقي والتي تقدرت بحوالي مليون أثناء الحصار ومليون آخر بعد الغزو الغاشم الأخير! أو من حيث حجم الدمار الذي تعرض له العراق في بنيته الاقتصادية وهياكله الارتكازية جميعها. فالعراق الجديد ليس دولة، بل خربة تنعق فيها بوم الولي الفقيه، وتحوم حولها ذئاب الإرهاب.
يوم بعد آخر تتكشف الحقائق عن المأساة التي يتعرض لها الشعب العراق نتيجة همجية الغزاة الفجار ووحشية العملاء غير الأبرار، والحقد التأريخي للجار وأي جار! بالرغم من محاولة الأمريكان وعملائهم تمويه الحقائق وتزوير الوقائع من خلال تسخير الماكينة الإعلامية الضخمة لخدمة أغراضهم الأحتلالية. مع ذلك فأن بصيص قليل من الضوء كشف جزءا مهولاً من حجم المأساة، وليس الجزء الأكبر الذي سيكشف عنه في المستقبل. مليون قتيل عراقي جريمتهم إنهم عراقيون فقط. فقد أصبح وطنهم عنوانا للإرهاب والطائفية والجهل والفشل والفساد والفقر والبطالة والأزمات والأمية والمرض بفضل الغزو ومخلفاته من حكومة عميلة ذات أجندة تخريبية.
كل عار يمكن غسله ما عدا عار العمالة، فهو عار أبدي مزمن يرافق العملاء طوال حياتهم وما يلبث ان يتوارثه خلفهم كما توارثه خلف أبن العلقمي والطوسي وأبو رغال وغيرهم من خونة الأمة. وكل خيانة يمكن أن يغفر لها إلا خيانة الوطن، إذ أن لعنته الأبدية ستكون غيمة داكنة تضلل قبور الخونة لأجيال قادمة! وكل جيفة يمكن أن تزول رائحتها بمرور الأيام إلا جيفة العمالة فكلما مرٌ الزمن كلما تكاثفت رائحتها الكريهة وأزكمت أكثر. هكذا يقول تأريخ الأمم وليس تأريخنا فحسب. والتأريخ مختبر الشعوب الحية.
الاحتلال له ألف سيئة ولكن له حسنة واحدة! له ألف صورة بشعة ولكن له صورة واحدة طيبة وهذه تذكرنا بالمثل الشائع" شعرة من جلد خنزير" ! لكنه خنزير أمريكي من خنازير البيت الأبيض. سنأخذ من الاحتلال حسنته الوحيدة ولا نشكره عليها لأنها مكلفة وثقيلة. وهي عملية الكشف. فقد كشف الاحتلال عن الوجه الأمريكي القبيح والذي لا يختلف عن وجهه القديم المعروف بإجرامه وعنصريته وحقده. وكشف زيف الشعارات التي كان يرفعها أقطاب الديمقراطية لجذب شعوب العالم إلى بريقها السرابي. فبعد تجربة العراق المريرة خاب أمل الشعوب في الديمقراطية الأمريكية وتحولت من أداة ترغيب إلى أداة لترهيب الشعوب وإذلالها.
هذا الرئيس الروسي بوتين يتندر على الرئيس المعتوه بوش عندما طالبه الأخير بضرورة إجراء تحولات ديمقراطية في روسيا! فأجابه بتهكم" لكن ليس وفق النموذج الأمريكي في العراق"! لقد أمسى نموذج العراق الجديد البعبع الذي يرهب الشعوب ويؤرق آمالها ويخنق تطلعاتها ويعصف برخائها!
كشف الإحتلال حقيقة العملاء الذين جاءوا على ظهر دباباته الموحلة، وهم يحملون كل بذور الشر والحقد والإنتقام والفتنة ليزرعوها في تربة العراق الخصبة، ويسمدوها بأفضل الأسمدة الصفوية لتنتج حزم من الأشواك السامة. لقد كُشف حقيقة هؤلاء العملاء الذي سيدفعون الثمن غاليا عن حلفهم الرجس مع الشيطانين الأكبر والأصغر. وستكون ساعة الحساب أقرب إليهم من جفونهم، وحسابهم ليس مع ذوي ضحاياهم فحسب بل مع الشعب العراقي برمته، ناهيك عن الحساب يوم الحساب، وما أدراك ما يوم الحساب! لقد إدعوا قبل تسلمهم الحكم من أسيادهم الأمريكان بأن عدائهم مع نظام الحكم فقط! ثم تبين بأنه عداء مع الله والوطن والشعب، وليس مع النظام فحسب! أنهم ممن ينطبق عليهم قول الشاعر أبن الرومي:-
رأيت الدهر يرفع كل وغــد ويخفض كل
ذي رتب شريفة
كمثل البحر يرسب فيه حيّ و لا ينفك تطفو فيه
جيــــــفه
وكالميــــــــــــــــــزان يخفــــــــــــض كل
واف ويرفع كـــــــــــــــــــــل ذي
زنة خفيفـــــة
لقد أماط الإحتلال اللثام عن المتشدقين من رجال الدين
ممن ظنناهم يتعبدون في محراب الدين، وتبين أنهم يتعبدون في محراب إبليس. دجالون
تختفي في لحاهم الكثة آلاف الشياطين، وتحت عمائمهم وسدائرهم العفنة أبالسة أشداء،
عملاء جُبلوا على الدجل والخداع وطمس حقائق الدين والدنيا فكانوا اسوأ من الاحتلال
نفسه، إبتهجوا بقوات الإحتلال كبهجة أرنب جائع عثر على حقل من الجزر. استبدلوا
المصحف الشريف بكتاب فنون الدجل فحفظوا فصوله على ظهر قلب، وجعلوا من عباءاتهم
السود كقلوبهم مخابئ أمينة للمردة. إستنطقوا ثقافة ذات نفس طائفي قاتل من قبو
عقولهم المظلمة العفنة. وصادروا عقول الناس وإستوردوا محلها الخزعبات والشعوذة
والخرافات. لجهلهم المدقع لم يدركوا بعد بأن أية إساءة للدين، إنما تصب في مصلحة
الشياطين.
لقد أطلق الإحتلال بمعونتهم العفريت الطائفي من سباته الدائم في قمقمه، وهيئوا له أفضل الفضاءات للعبث والمجون، ومهدوا له الطريق ليسير بحرية وسرعة جنونية في عقول الجهلة والسذج. زينوه بخواتم الفضة المفصصه، وزوده بسبحة طويلة، وختموا جبهته بالبطاطا الحارة وألبسوه العمامة والسدارة، وجعلوه سيدا ومرجعا وعالما. زينوهم كعلماء دين ولكنهم في الحقيقة عدماء دين وعدماء ذمة وضمير.
خنقوا بدجلهم روح التسامح بحبل الطائفية المتين، ولم يستسيغوا مذاق الفريضة السادسة فتفلوها من أفواههم الكريهة على الأرض وسحقوها بخفافهم الرقيعة. عبثوا بالدين وشوهوا العقيدة، ومسخوا حقائق التاريخ بالتزوير والتلفيق، مزقوا الصفحات المضيئة في تأرخ الأمة المجيدة، وأبقوا على الصفحات السوداء. وإتخذوا من سلفهم الخونة مشاعل لحرق اليابس والأخضر في الوطن المنكوب.
مثلما سلخ العملاء لحاء الوطنية عن العراقيين، كذلك نزع الدجالون المعممون والمسدرون لحاء القداسة عن تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، واسبغوا التقديس على أنفسهم المريضة. إستحدثوا بدعا لاتمت للدين بصلة بل مبعثها ميثولوجيا لاتختلف عن اساطير كثيرة ابتكرتها الشعوب القديمة في حضارة وادي الرافدين والنيل واليونان والرومان وبلاد فارس، فرجحوا الجانب اللاعقلاني فيها وجعلوا منها حقائق دامغة وثوابت في العقيدة. وبقدر ما أساءوا الى أنفسهم بهذه التخرصات بنفس القدر أساءوا الى العقيدة نفسها.
فقدوا كرامتهم ونزاهتهم ومشروعيتهم ومصداقيتهم التي تعتبر المقياس الوحيد لتقييم عطائهم وإيمانهم، وبعد أن انكشفت حقيقتهم المرة أصروا على مواقفهم العميلة، وكابروا ورفضوا العودة إلى جادة الصواب، والتكفير عن كفرهم وخطيئتهم بحق الله والوطن والشعب، فأنزووا حثيثا إلى جحورهم للاعتكاف بعد أن كتموا أنفاس الحقيقة، في أكبر جريمة احتيال في تأريخ العراق.
لقد كشف الاحتلال حقيقة الأمة العربية والإسلامية التي تقف متفرجة على منظر العراق وهو يغرق في لجة بحر متلاطم من الدماء دون أن تدرأ على مد يد العون له وإغاثته خوفا من السرطان الفارسي الذي ينهش بخلاياها بهدوء وتأني. لم تكفر عن خطيئتها الكبيرة مع إنها كانت سبباً مباشراً لدمار البلد الشقيق. جريمتها لا تقل بشاعة عن جريمة الاحتلال، لقد حطموا آخر معقل من معاقل العروبة والقومية، دون أن يدركوا بأنهم سيلاقون عاجلا أم آجلاً نفس المصير!
وفي الوقت التي تحاول إيران عبر عملائها في العراق بسلخ البلد من عروبته فأن الدول العربية بدلا من أن تحتضن العراقيين، فأنها انجرت في نفس التيار الإيراني وخدمت أجندته الخبيثة من حيث تدري أو لا تدري. لقد كان موقف الدول العربية تجاه العراق هو المسمار الأخير في نعش العروبة.
كشف الإحتلال حقيقة ما يسمى بالأمم المتحدة التي تبين إنها ليست سوى عاهرة مبتذلة في مبغى البيت الأبيض، تبيع جسدها للأقوى والأغنى. وممثلو الأمين العام ليسوا سوى سماسرة يلفهم الخزي والعار من رؤوسهم إلى أقدامهم، والنماذج في العراق شاهد حي على سمسرتهم.
لقد رفع الإحتلال عمامة الولي الكريه في إيران فإذا بمجموعة من الأبالسة المخفية تحتها تخطط وتنفذ برامج الشيطان الأكبر. أبالسة لايهدأ جوعهم، إبتلعوا العراق ولبنان وسوريا وقضموا اليمن والبحرين ودول الخليج العربي والحبل على الجرار.
هذا هو الوضع العام للعراق الجديد فهل يرجى أملا من الغير، حكومات وشعوب ومنظمات.
إن مفاتيح العراق أصبحت بأيدي دول الجوار، وعلينا أن نستردها مهما غلى الثمن وتعاظمت التضحيات، إننا نقدم طوابير من القرابين البشرية يوميا لصناع الإرهاب. اليس من الأجدى أن نقدمها لتحرير الوطن من أغلال العبودية والإستبداد؟ اليست الخطوة الأولى تتمثل في قطع دابر العملاء والخونة من رجال الدين والسياسة وبقية الفاسدين؟ أليست تلك الخطوة تحتاج إلى دعم المقاومة الوطنية بكل الطرق المتاحة؟
هل هناك سبيل آخر غير المقاومة الوطنية لتحرير العراق السليب؟ إذن الواجب الوطني يحتم على جميع العراقيين الغيورين بدعم المقاومة، ومهما صغر حجم الدعم فإنه أفضل من حرمان المقاومة منه.