هستيريا الانقلاب

شريف زايد

إن كنت معاديًا لانقلاب 3/7 فأنت خائن وعميل، ومحكوم عليك إما بالقتل أو الاعتقال أو الاستبعاد من مؤسسات الدولة، وإن كنت إماما أو خطيبا في الأوقاف، أو أستاذا في مدرسة أو جامعة فأنت موقوف عن العمل أو محول إلى "عمل إداري"، وإن كنت طالبا في الجامعة فأنت محروم من السكن الجامعي، وإن كنت لاعبا في منتخب رياضي من منتخابات بلادك، فأنت مستبعد ومغضوب عليك. إنها هستيريا الانقلاب التي أصابت الانقلابيون وجعلتهم يثورون غضبا ويتخبطون في قرارارتهم لمجرد رفع شعار يعبر عن رفض انقلابهم، مستخدمين أبواقهم الإعلامية في تخوين وتسفيه كل من يفعل ذلك، فتُنزع عنه وطنية زائفة يتغنون بها.

إن هذه الهستيريا تذكرنا بالهستيريا التي أصابت أوروبا بل والعالم فيما سمي بالعداء للسامية، والتي أصبح على إثرها كل شخص مهدداً بالاعتقال وكل جماعة أو تكتل مهددًا بالحظر والتجريم لو أنكرا المحرقة النازية ضد يهود، ففي عام 1990م صدر قانون باسم (فابيوس جاسبو) لمحاكمة كل من يحاول إنكار المحارق النازية، وهو القانون الذي حوكم على أساسه جارودي عام 1998م في باريس بسبب آرائه في كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية)، حيث رصد بداخله خرافة أسطورة حرق 6 ملايين يهودي في أفران هتلر، فكيف يحدث حرق 6 ملايين يهودي وعدد اليهود في أوربا كلها لم يكن يتجاوز آنذاك 3.5 مليون يهودي؟! في حين أن هتلر قتل من الروس والشيوعيين أكثر مما قتل من اليهود ...! وقد انتهت هذه المحاكمة إلى الحكم عليه بالسجن لمدة 9 شهور مع إيقاف التنفيذ وغرامة مالية 100 فرنك فرنسي.

لذا فنحن اليوم أمام مشهد عبثي يجعل من ينكر أن ما حدث في 3/7 هو ثورة شعبية وليس انقلابا كمن ينكر المحرقة اليهودية! وكأنه قد ارتكب جرما أو محظورا، وأنكر ما هو معلوم بالضرورة! وربما سيصدر لنا في الأيام المقبله قانون هزلي كقانون (فابيوس جاسبو)، يحاكم على أساسه كل من ينكر أن ما حدث في 3/7 ثورة شعبية، أو يرفع شعارا يذكرهم بمجازرهم التي ارتكبوها في رابعة وغيرها، والغريب أن هذا الشعار أصبح من الأحراز التي يحاكم الناس على حيازاتها أو رفعها قبل أن يصدر قانون (فابيوس جاسبو المصري)!

لقد كانت النغمة السائدة على ألسنة العلمانيين ومن شياعهم ممن كان يعادي الإخوان، أن الإخوان إقصائيون ولا يرون إلا أنفسهم، وبغض النظر عن صحة أو خطأ تلك المقولة، إلا أن رجال الانقلاب وسدنته وأبواقه قد وقعوا فيما كانوا يلومون الإخوان عليه، فكل من هو ليس معهم فهو ضدهم، ولا بد من إقصائه عن المشهد تماما...، إما بالقتل أو الاعتقال والإبعاد! وهذا ما لم يقم به الإخوان، فإن كانوا إقصائيين كما يتهمونهم، فلم يتعدَ إقصاؤهم للطرف الآخر التجاهل، ولم يصل إلى القتل والاعتقال والإبعاد التعسفي.

لسنا هنا في معرض تأكيد أو نفي الاتهام، بل نحن نقرأ مشهدا عبثيا تقوم به سلطة الانقلاب دون أن تدري مآلاته البعيدة عليها، التي سيكون أقلها فقدانها من رصيدها الشعبي وزيادة حالة الاحتقان ضدها وضد قراراتها المتشنجة، فأن يرفع رياضي ما شعارًا ما، دون أن يشارك في مسيرة أو اعتصام ضد السلطة، ليس بالأمر الخطير الذي تُسن من أجله أقلام مأجورة، وتخوض فيه ألسنة مسمومة، وربما لو تجاهلوه لكان خيرا لهم.

إنها سلطة غاشمة تتصرف كالمذبوح الذي يخبط خبطًا عشوائيًا، تكون نهايته أن تتكوم بقاياه في ركن ما غير مأسوف عليها، إنها سلطة تفتقد للمخطوط الهندسي الذي يسيرها، وتفتقد للسياسي البارع والقائد المحنك الذي يتمكن من احتواء الخصم والعدو، ولذا فإنها تفقد كل يوم من رصيدها الشعبي إن كان لها رصيد تركن إليه.

أليس فيهم رجل رشيد؟! لا! يبدو أن الرشد مفقود عندهم تماماً، ومن كانوا يظنونه رجلا رشيدا تبين للكثيريين أنه رجل يعيش في حقبة ناصرية أكل عليها الدهر وشرب، يتصور أن الدنيا ما زالت هي الدنيا، وأن الناس ما زالوا هم الناس، وأنه بالضربة القاضية - إن كانت كذلك - يمكنه أن يكسب معركة أو يحسم صراعا بات واضحا أنه لن يهدأ. لقد أدخلهم الرجل بانقلابه في نفق مظلم... ثم انسل هاربا! وعندما عاد انزوى يجتري الماضي ليصنع أمجادا زائفة، وبطولات لا وجود لها إلا في مخيلته.

نعم ،نحن اليوم أمام مشهد هستيري لسلطة وصلت للحكم عن طريق التظاهر منذ شهور قلائل، وهي اليوم تحرمه وتجرمه، تظن أنها يمكن أن تستقر من خلال كومة من القوانين الاستثنائية ؛كقانون الطواريء وقانون التظاهر وقانون الإرهاب، أو تتصور أنها يمكن أن تحتمي بحصانة زائفة تكتبها أيدٍ مرتعشة.

نحن أمام سلطة وصلت للحكم بادعائها أنها أرادت أن تنقذ البلاد من نفق مظلم، فإذا بها تزيد النفق ظلاما...، نحن أمام سلطة تدعي أنها قامت رفضا للإقصاء، فإذا بها تكرسه في أبشع صوَره...، نحن أمام سلطة تَّدعي أنها قامت من أجل قطع يد التدخل الأجنبي، فإذا بها تستعين به لتجمل صورتها في الخارج، ولتحمى به مقدراتها ومواقعها الاستراتيجية، ونحن أمام سلطة تدعي أنها قامت من أجل وقف انهيار اقتصادي محتوم، فإذا بها تتسول من هنا وهناك...، لتجعله اقتصادا طفيليا يعيش على المعونات والهبات والودائع من دول معروف ولاؤها، لا تعطي لوجه الله...، بل تعطي إذا تلقت أمرا بالإعطاء من دول تكيد للإسلام وللمسلمين ليل نهار!

قد يكون صحيحا ما قاله أحد أركان النظام الجديد، من أن الاقتصاد المصري يعيش على جهاز تنفس اصطناعي، وهذا يعد تشخيصا صحيحا لحالتنا الاقتصادية المتردية...، ولكن الأصح من ذلك أن نعرف من يمسك بيده القابس، فيقرر متى شاء سحبه ليردي النظام، فيستبدله بآخر يحقق له ما لم يستطعه سلفه...! فمن غير المقبول أن نظل رهينة بيد غير أمينة، ترهن البلاد والعباد لأعدائها ومن يكيد لها، والواجب علينا جميعا أن ندرك بحق قضايانا المصيرية ونجعلها في أيدينا نحن لا في يد أعدائنا، نستجدي منهم الحلول، فليكن رهاننا على أمتنا! وليكن الإجراء المتخذ حيال تلك القضايا المصيرية إما الحياة أو الموت! وهذا ما يجب أن تكون عليه الأمم الحية، التي لا ترضى الضيم ولا تقبل بالذل!

ولكن أن نسكت على تفكيك المجتمع بهذا الشكل المزري، ونردد ما يريده لنا النظام أن نردده، فهذا أمر غير مقبول! ومن العيب والسخف أن يشكل الرأيَ العامَ في بلادنا إعلاميون تافهون رويبضات! ينفذون خطة لئيمة توجد بين فصائل المجتمع وأبناء الأمة الواحدة خندقا لا يمكن بناء جسر عليه، لمجرد أن لديهم قضية يدافعون عنها، ويضحون من أجلها. فهؤلاء "قطيع من الخرفان"، وهذا "خائن وعميل"، والآخر "وطني شريف"، وهذا "شهيد" والآخر "مجرم يستحق القتل"، كل هذا العداء المصنوع على عين بصيره مخطط له وممنهج، والقصد من وراءه معروف ومدرك لكل ذي بصر وبصيره. فهذه الأمة أمة حية، ولن تموت أبدا مهما كان حجم الكيد لها مكين، لأن كيد أولئك هو يبور، والأمة يوما بعد يوم تكتشف أن طريق الحق واحد مستقيم، وأن طرق الباطل كثيرة ومتشعبه، وأنه لن ينصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها: دولة إسلامية صحيحة أرادها الله لنا، وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم معالمها، بل تفاصيلها، وقادها من بعده صحابته والخلفاء الراشدون المهديون، إنها دولة الخلافة التي تعيد للأمة لُحمتها، ويعيش في ظلها غير المسلمين في رغد وهناء، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، يعيش الجميع في ظلها في عيش السعادة والرخاء. قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف، 96]

رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر