المعارضة الشريفة في الإسلام

د. فوّاز القاسم / سوريا

لم يكن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ، يشاور أصحابه المقرَّبين ، ويسمع آراءهم ، ويستفيد من نصائحهم ، فحسب ، بل كان  يسمع الآراء المخالفة لرأيه ، والمعارضة لمنهجه ، وحتى المؤذية لشخصه أيضاً ،  فيتقبلها بصدر رحب ، ويتعامل معها ، ويعالجها ، بمنتهى الصبر، و(الدبلوماسية ) و (الديمقراطية ) ، بدون أي قمعٍ ، أو تهديد ، أو تخوين ، أو إقصاءٍ  .!

فلقد وعد أصحابَه بدخول مكة معتمرين ،  ولكن المشركين منعوه من ذلك في العام السادس للهجرة الشريفة ، بعد أن وصل إلى مشارفها ، ثم قبل العودة إلى المدينة بشروط مجحفة في نظر الكثيرين من أصحابه ، فاعترض مجموعة من عمالقة الصحابة ، بمن فيهم عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب رضوان الله عليهما.

قال ابن إسحاق : فلما التأم الأمر ، ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول الله ؟ قال : بلى ، قال : أولسنا بالمسلمين ؟  قال : بلى ؛ قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى ؛ قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال أبو بكر : يا عمر ، إلزم غرزه ، فإني أشهد أنه رسول الله ؛ قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله ؛ ثم أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ألستَ برسول الله ؟ قال : بلى ؛ قال : أَوَلَسنا بالمسلمين ؟

قال : بلى ؛ قال : أوَليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى ؛ قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال : أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالفَ أمره ، ولن يضيّعني ! قال : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدّق وأصوم وأصلي وأعتق ، من الذي صنعت يومئذ ، مخافة كلامي الذي تكلمت به ، حتى رجوت أن يكون خيراً .!

ولما تمادى المشركون في فرض شروطهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى الحد الذي كانوا يطالبونه فيه بمسح بعض العبارات   من وثيقة الصلح ، التي تشهد له بالنبوة ، وصل الأمر برجل مثل عليّ كرّم الله وجهه ، أن يرفض طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمسح تلك العبارات ، لما في ذلك ، من وجهة نظره ، من إجحاف وإذلال . ويستقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا الرفض بمنتهى التفهم والاحترام ، لما يعلم يقيناً من الدوافع النبيلة التي تكمن خلفه ، ويطلب من عليٍّ نفسه أن يدله على موضع الكلمة المعنية ، لأنه_ بأبي هو وأمي_ كان أميَّاً ،لا يقرأ ولا يكتب ، فيمسحها بنفسه .!!!

وينتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم من إبرام الصلح ، ويأمر أصحابه بالتحلل من إحرامهم ، والعودة أدراجهم إلى المدينة ، فيأتي هذا الأمر على أصحابه كالصاعقة ، ولا يستجيب له الكثير منهم .!

وفي رواية للطبري ، أنهم لما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمَّل عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في نفسه ، دخل الناس من ذلك أمرٌ عظيم ، حتى كادوا أن يهلكوا . تاريخ الطبري 2 (624_636)

ويدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على زوجه أم سلمة رضي الله عنها ، فيقول وهو مشفق مغضب : (( هلك المسلمون .! )). ولكنَّ هذه المرأة الصالحة تشير عليه بما ينقذ الموقف ، ويعيد الأمور إلى نصابها ، فتقول : يا رسول الله ، بادر أنت أولاً فانحر هديك وتحلل من إحرامك ، وكن في ذلك قدوة لجنودك ، وستجدهم إن شاء الله من الطائعين .!

ولما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، لم يجد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، بدّاً من الاقتداء بحبيبهم ، وذبح هديهم ، والتحلل من إحرامهم ، والعودة إلى بلدهم …

وهكذا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان قد عالج بصبره وحكمته وبعد نظره ، واحدةً من أخطر حركات المعارضة التي واجهته في حياته .! ولا أحب أن أغادر هذه الفقرة ، قبل أن أوضح الحقيقتين الهامتين التاليتين : 

الأولى متعلقة بالجنود : وهي أن من حق الجندي المخلص على قيادته أن يخالفها في الرأي ، ويعارضها في الموقف ، طالما كان هدفه إرضاء الله تعالى ، والنصح المخلص لدينه ودعوته ، وخاصة إذا تصرّفت تلك القيادة بما يجلب الشك والريبة ؛ أو أتت ما يخالف المعقول والمألوف من الأقوال والأفعال . وإذا لم يكن حقَّاً شرعياً ، فحقَّاً فطرياً وطبيعياً ، على الأقل .

وإذا كان يمكن لواحد مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لو كان نبياً  بعدي لكان عمر )) رواه الترمذي ، أن يعترض على شروط هذا الصلح .!

وإذا كان من حق علي بن أبي طالب ، كرّم الله وجهه ، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنك مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبيَّ بعدي )) هشام2(520) ، أن يرفض كتابة أو محو بعض بنود هذا الصلح .!    

وإذا خطر على بال بعض عمالقة الصحابة ، أن يرفضوا أوامر سيد الأنبياء ، وإمام المرسلين ، وخير خلق الله أجمعين ، المسدّد بالنبوة ، والمعصوم بالوحي ، أو على الأقل يتلكَّؤوا في تنفيذها ، عندما لا يقتنعوا بها ، أو تكون غير منسجمة مع عقليَّتهم ، وتربيتهم ،  فمن باب أولى أن يحق للآخرين أن يعترضوا على كل من جاء بعده ، ممن هو أقل كفاءة منه ، بشرط ، أن تكون الغاية لله ، والوسيلة في حدود ما شرع الله …

والثانية متعلقة بالقادة : فعلى كل من يتصدى لمسؤولية القيادة والريادة في العمل الإسلامي ، أن يكون حكيماً في اتخاذ قراراته ، واقعياً في تصرفاته ، منسجماً مع عقلية جنوده وتربيتهم ؛ وليحذر من كل ما من شأنه أن يثير الشبهة والريبة لدى جنوده ؛ لأن المنهج الذي سمح بمعارضة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق ، المصدوق ، المسدد بالنبوة ، والمعصوم بالوحي ، عندما تصرّف_ ظاهرياً_ بما لا ينسجم مع عقلية جنوده وتربيتهم ؛  فمن باب أولى أن يسمح بمعارضة كل من هم أقل كفاءة منه  ، إذا أدخلوا أنفسهم في مواطن الريب والشبهات .!

ولا تكفي النيات الطيبة وحدها في بعض الأحيان ،على أهميتها ، فلم تكن هناك أشرف ولا أخلص ولا أطهر ، من نية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم أبرم صلح الحُدَيْبِيَةِ ، وقسم أموال هوازن ؛ ومع ذلك فقد اعترض عليه خير قرون هذه الأمة .!

ولا أجد حرجاً في تكرار مشاهد متألقة ، كنت قد ذكرتها من قبل ، لما فيها من الدروس والعبر والعظات التي لا تنتهي .

قال ابن هشام متحدثاً عن اعتراض الأنصار رضوان الله عليهم ، على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموال هوازن : حدثني زياد بن عبد الله ، قال : حدثنا ابن إسحاق : قال : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطا من تلك العطايا ، في قريش وفي قبائل العرب ، ولم يكن في الأنصار منها شئ ، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم ، حتى كثرت منهم القاله حتى قال قائلهم : لقد لقيَ والله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومَه ، فدخل عليه سعد بن عبادة ، فقال : يا رسول الله ، إنَّ هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب،  ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء . قال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ قال : يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومي (أي أنا معارضٌ أيضاً ). قال : فاجمع لي قومك في هذه الحضيرة . قال : فخرج سعد ، فجمع الأنصار في تلك الحضيرة ، وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخطب فيهم خطبته المؤثرة ، كما رأينا ، وشرح لهم دوافعه وغاياته من هذا التصرف ، ولم يزل بهم حتى بكوا عن آخرهم حتى بللوا لحاهم ، وقالوا بصوت واحد : رضينا برسول الله حظاً وقَسَماً. هشام 2 (498 )

ولا يمكن أن نتصور عظمة هذا الرسول الكريم ، وسموَّ هذا القائد الحكيم ، صلى الله عليه وسلم ، ونحن نتحدث عن استيعابه للآراء المخالفة له ، حتى نقف على حقيقة إدارته لأحداث خبر الإفك الآثم.

ثلاثون ليلة بتمامها وكمالها ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلب على نار الصبر ، تقلُّب العصفور على نار الصيَّاد .!

ثلاثون ليلة ، ولا حديث في الدولة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، غير حديث الإفك الآثم ، الذي يطعن برسول الأمة وقائدها ، وينال من عِرْضه ، وكرامته ، وشرفه .!  

شهر كامل ، وكل شيء معطل في الأمة ، والناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكنَّ وقع الخبر أليم .!  ومع ذلك …

فتعالوا معي لنرى كيف كان يتصرف هذا الرجل العظيم في هذا الظرف الأليم ، وكيف كان يدير هذه الأزمة الرهيبة .!؟

لقد كان تصرف الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ، في إدارة أحداث خبر الإفك ، مدرسة للأمة ، لتعليمها فنون الصبر ، والعظمة،وحسن الظن ، وعدم التسرِّع ، وعدم الطيش ، والتثبت ، وعدم أخذ الأمور بالشبهة ، والترفع فوق الجراح والآلام وحظوظ النفس الشخصيّة .!

لم يبطش قبل أن يتثبت ، ولم يعاقب ، ولم يفصل من التنظيم ، ولم يصدر قرارات التجميد أو المقاطعة ، ولم يقطع الراتب ، أو يحرم من الوثائق ، أو يمنع السفر .!  لم يفعل شيئاً من ذلك …

بل كان إذا دخل على أهله تعامل معهم بأخلاق زوجية تدعو إلى الإكبار.!

قال ابن اسحاق يروي عن السيدة المبتلاة ، عائشة الصدِّيقة رضي الله عنها ، وهي تحكي مأساتها الأليمة ، وهي على فراش المرض :  وقد انتهى الحديث ( حديث الإفك) ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى أبويّ ، ولا يذكرون لي منه قليلاً ولا كثيراً ، إلاّ أني كنت قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه ؛ كنت إذا اشتكيت ( مرضت ) رحمني ولطف بي ، فلم يفعل ذلك في شكواي تلك ، فأنكرت ذلك منه ؛ كان إذا دخل عليَّ وعندي أمي تمرضني ، قال : كيف تيكم ، لا يزيد على ذلك .!  

وكان إذا خرج إلى أمته ، خاطبها ، وتعامل معها ، بروح قياديّة ، وتربوية ، ودعوية ، تدعو إلى الإعجاب .!

قال ابن اسحاق يروي على لسان السيدة عائشة رضي الله عنها كذلك: قالت : وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً ، ولا أعلم بذلك ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : (( أيها الناس ، ما بال أقوام يؤذونني في أهلي ، ويقولون عليهم غير الحق ، والله ما علمت منهم إلا خيراً ، ويقولون ذلك لرجل  (يقصد صفوان بن المعطل ) والله ما علمت منه إلا خيراً ، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي )).  هشام 2 ( 300 )

يــا اللــــــه ..يــا للروعـــة ..ويـــا للعظمـة .!

أهذا كل ما جاش به فؤادك المكلوم أيا القائد .!؟

أهذا كل ما تفجرت به براكين قلبك المفطور أيها المسؤول .!؟

أهذا كل ما عندك من ردة فعل على طعن كرامتك ، واتهام عِرْضك ، وخراب بيتك ، أيها الأمير .!؟

أية عظمة ، وأية روعة ، وأية تربية ، وأي جلال .!؟

وكان إذا خلا إلى إخوانه ، وأصفيائه ، وآل بيته ، شاورهم بأخلاق دعوية وتربوية تدعو إلى الدهشة .!

قال ابن اسحاق يروي عن عائشة أيضاً قالت : فدعا علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد رضوان الله عليهما ، فاستشارهما ..إلخ ..

وبهذا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدير هذه الأزمة الرهيبة بما يدعو إلى القدوة ، ويتخذ من مأساته الشخصية ، فرصة لتعليم الأمة ، وتربية القادة ، فلم يطش ، ولم ينفعل ، ولم يتسرَّع قبل أن يتثبت ، ولم يقل إلا ما يرضي الله ، ولم يتصرَّف إلا بما يليق بأخلاق الدعاة الربانيين ، والقادة الراشدين ، ولم يزل كذلك حتى أشفق الله لحاله ، وأمده بتأييده ، وهبط الأمين جبريل عليه السلام ، ومعه الفرج والبشرى من الله العزيز الحكيم .

قال ابن اسحاق : قالت ( والحديث لعائشة رضي الله عنها) : ثم دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندي أبواي ، وعندي امرأة من الأنصار ، وأنا أبكي ، وهي تبكي معي ، فجلس ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : يا عائشة ، إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس ، فاتقي الله ، وإن كنت قد قارفت سوءاً مما يقول الناس فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ؛ قالت : فوالله ما هو إلا أن قال لي ذلك ، فقلص دمعي ، حتى ما أُحس منه شيئاً ، وانتظرت أبوي أن يجيبا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يتكلما ، قالت : وأيم الله ، لأنا كنت أحقر في نفسي ، وأصغر شأناً ، من أن ينزل الله فيَّ قرآناً ، يُقرأُ به في المساجد ، ويُصلَّى به ، ولكني قد كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه شيئاً يكذّب الله به عني ، لما يعلم من براءتي ، أو يخبر خبراً ؛ فأما قرآن ينزل فيَّ ، فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك ، قالت : فلما لم أر أبوي يتكلمان ، قلت لهما : ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : فقالا : والله ما ندري بماذا نجيبه ؛ قالت : ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام ؛ قالت : فلما أن استعجما عليَّ ، استعبرت فبكيت ؛ ثم قلت : والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً . والله إني لأعلم لإن أقررت بما يقول الناس ، والله يعلم أني منه بريئة ، لأقولنَّ ما لم يكن ، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني . قالت : ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره ؛ فقلت : ولكن سأقول مثل ما قال أبو يوسف : ((فصبرٌ جميل ،  والله المستعان على ما تصفون )). قالت : فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشَّاه من الله ما كان يتغشَّاه ، فسُجِّي بثوبه ، ووُضعت له وسادة من أدم تحت رأسه ، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت ، فوالله ما فزعت وما باليت ، قد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي ؛ وأما أبواي ، فوالذي نفس عائشة بيده ، ما سرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى ظننت لتخرُجنَّ أنفسهما ، فرقاً من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس ؛ قالت : ثم سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس ، وإنه ليتحدّرُ منه مثلُ الجُمان في يوم شات ، فجعل يمسح العرق عن جبينه ، ويقول : (( أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك )).

قالت : قلت : الحمد لله ؛ ثم خرج إلى الناس فخطبهم ، وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك ، ثم أمر بمِسْطح بن أُثاثة ، وحسَّان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة ، فضُرِبُوا حدَّهم . هشام 2 ( 302 )

ولا أحب أن أغادر هذه الفقرة قبل أن أذكِّر بحقيقة هامة ، سبق لي أن أكَّدت عليها ، وهي متعلقة بالمنهج القرآني في التعامل المالي .

فالقائد أو المسؤول في الدعوات الربانية ، لا يعطي الأموال والمساعدات لأحبابه وأصفيائه فقط ، ويمنعها عن مخالفيه ومعارضيه. ولا يكون توزيع الأموال والمساعدات في الحركات الإسلامية ، والدعوات الربانية ، على أساس الولاء والمحبة والطاعة والالتزام فقط ، بل العكس قد يكون صحيحاً في بعض الأحيان ؛

فقد يتم توزيع الأموال والمساعدات على من هم أقل ولاءً ، وأحدث انتماءً ، وأضعف تربيةً ، عندما تدعو الحاجة إلى ذلك ، كما حدث في توزيع أموال هوازن ، وكما يحدث الآن مع مِسْطَح .!

فمسطح هذا ومجموعة من أمثاله ، كان قد دوّخ الدولة الإسلامية ، وشلَّ حركتها ، وعطَّل طاقاتها ، وأبقاها على أعصابها قرابة شهر .!

ومسطح تطاول على القيادة ، وشهَّر بالمسؤولين ، واتهم الإخوان.!

ومع ذلك فلم يسمح المنهج القرآني بحرمانه من مرتَّبه ، وقطع المساعدات عن أطفاله ، وهو في ديار الغربة والهجرة ، بعيداً عن أهله وعشيرته ووطنه .!!

نعم قد يستحق العقوبة التنظيمية ، فيجلد ، تأديباً له ، وردعاً لأمثاله ، ولكنه لا يُجَوَّع مع أطفاله ، من أجل رأيه وموقفه واجتهاده .!!!

قال ابن هشام : فلما نزل هذا في عائشة ، وفيمن قال لها ما قال ، قال أبو بكر ، وكان ينفق على مِسْطَح لقرابته وحاجته : والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً ، ولا أنفعه بنفع أبداً بعد الذي قال لعائشة ، وأدخل علينا ؛ قالت ( والحديث ما زال لعائشة رضي الله عنها ) : فأنزل الله في ذلك : (( ولا يأتلِ أُولوا الفضلِ منكم والسَّعة أن يؤتوا أولي القربى ، والمساكينَ ، والمهاجرينَ في سبيل الله ، وليعفوا ، وليصفحوا ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ، والله غفور رحيم)). النور(22 )

قالت : فقال أبو بكر : بلى والله ، إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مِسْطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً …هشام 2 ( 303 )

ألا ، ما أعظم هذه الأخلاق ، وما أروع هذه السيرة ...!!!؟

فهل يتعلّم الدعاة والقادة في العمل الإسلامي العام من هذا الإرث المبارك ، وهل يقتدوا به ، ويسيروا على نهجه ، وينسجوا على منواله ...!!!؟