أحقا تعالج خطب الجمعة عندنا واقع حياتنا اليومية ؟
من المعلوم أن الله عز وجل قد خص بالذكر صلاة الجمعة في سورة من سور القرآن الكريم ، مع بيان أهميتها في حياة عباده المؤمنين ، والقرينة على هذه الأهمية، هو أمره سبحانه وتعالى بالسعي إليها ، وترك البيع بما لكلمة بيع من دلالة تشمل كل الأنشطة المختلفة التي من شأنها أن تتسبب في التخلف عن هذه الصلاة المتميزة بخطبتيها ، و بأداء ركعتيها جهرا خلافا لسرية أداء الصلوات اليومية .
ولا شك أن أهم ما في هذه الصلاة الأسبوعية التي تكفر ذنوب العباد خلال الأسبوع ،بينما تكفر الصلوات الخمس ما بينها ،هما الخطبتان بما فيهما من توجيهات يقدمها الخطباء اعتمادا على المصدرين الأساسين للرسالة الخاتمة الموجهة إلى العالمين ، وهما : كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحيا منه سبحانه وتعالى إليه . ولا مندوحة للخطباء عن اعتماد هذين المصدرين بنوع من الربط المحكم والتنسيق الموفق بينهما عند عرض قضايا الحياة اليومية عليهما في وقت معين، لا يتجاوز الساعة في أغلب الأحيان ، وهو ما يتطلب مراعاة التقيد بهذه المدة الزمنية ، مع حسن استغلالها الاستغلال الأمثل ، و الخبرة بتكييفها مع طبيعة وكيفية معالجة تلك القضايا التي هي موضوع طرح وتحليل الخطباء .
وقبل الحديث عن طبيعة الخطبتين ، لا بد من الحديث عن مؤهلات الخطباء ، علما بأن الخطابة أولا وقبل كل شيء هي موهبة ، ككل المواهب التي ينعم بها الله عز وجل على من يشاء من عباده نعمة ومنة منه . وما كل من يعلون منابر الجمعة أصحاب مواهب ، وهو أمر لا يعاند فيه إلا مكابر . ومما يدعم موهبة الخطابة أولا الصوت الجهوي الذي لا مندوحة لخطيب عنه ، ويكون طبعا لا تطبعا أو تكلفا، وثانيا فصاحة اللسان ، وبلاغة التعبير ، ويتأتيان من العلم والمعرفة باللسان العربي المبين صرفا، وتركيبا، وبيانا، وبلاغة ، وتعابير، وأساليب ، وهذه من المكتسبات التي تكتسب بالتعلم والتمرس والمران . ولا مندوحة أيضا لخطيب عن خبرة بكلام البلغاء والفصحاء من شعراء، وخطباء ،وكتّاب ، ومترسلين ... وهو ما يتطلب منه امتلاك مهارة الحفظ والاسترجاع ، التي لا بد من ترويض الذاكرة عليه إلى غابة البلوغ بها صفة الذاكرة الحافظة اللاقطة ، تماما كترويضها على حفظ كلام الله عز وجل ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، مع حفظ المعلوم بالضرورة من المتون المتعلقة بقواعد وضوابط اللسان العربي ، إلى جانب الأشعار ، والأمثال ، وغير ذلك ، واكتساب مهارة الفهم ، والتحليل والتركيب . ومن لا يوظف ما يستودعه في ذاكرته الحافظة اللاقطة عند الضرورة والحاجة ، و عند مطالب المقام ، من أشعار ، وشواهد ، وأمثلة ...، فلا حاجة له أن يرهقها بمخزون محفوظ فيها لا يسعفه عند الحاجة واللزوم . ولا بد أيضا من المعلوم بالضرورة من علوم القرآن، وعلوم الحديث ، والمعلوم بالضرورة من باقي العلوم المختلفة التي تتطلبها مهمة الخطابة ، .
وإذا كانت هذه بعض المؤهلات المهارية الموهوبة والمكتسبة على حد سواء ، فلا بد من صفات وخصال للخطيب ،أهمها تقوى الله عز وجل، ويشترط فيها أن تكون صادقة ، وخالية من التكلف ، والتصنع ، ومن الرياء، مع مراعاة مراقبة من يعلم السر وأخفى سبحانه وتعالى ، وتجنبا للرغبة في لفت الأنظار ، واستدرارعبارات الثناء من الخلق ، وهي مفسدة للطبع ، و مجلبة للزهو والعجب ، وباعثة على ركوب الغرور ، فيقال لصاحبه يوم القيامة : كذبت قد خطبت ليقال عنك أنت خطيب مفوه ، فقد قيل ، فادخل النار. وليس الصدق في تقوى الله تعالى ما وقر في القلب دون تصديق العمل له .
أما خطبتا الجمعة ، فالأولى يجب أن تكون بمثابة إطار نظري قوامه استحضار نصوص القرآن الكريم ، والحديث الشريف، مع دقة وخبرة في الجمع ، والربط بينهما ربطا محكما بما يقتضيه موضوع الخطبة مع توثيق تلك النصوص التوثيق اللازم ، والتعرض لأقوال أهل التفسير ، و أقوال شراح الأحاديث باختصار، ودون إسهاب من شأنه أن يصرف عن القصد. ويكون هذا تمهيدا لطرح القضايا المراد التطرق إليها مع حسن التخلص إليها وفق تدرج منطقي لا ينكره العقل ، ولا يسىتشكل عليه . وبعد مرحلة الطرح تأتي مرحلة التنزيل على الواقع المعيش، كي يعي من يسمعون الخطبة الرابط بين ما سيق ببن يدي واقعهم المعيش من نصوص للقرآن الكريم ، مع أقوال المفسرين فيها ، ونصوص للحديث الشريف مع أقوال شراحه ، مع آراء أهل العلم ، والمعرفة فيما يتعلق بهما ،وبالواقع المعيش . وكل خطبة لا صلة لها بواقع الناس المعيش سواء كان ذلك في أضيق حيز يحتضنهم محليا أو في أوسعه من أوطانهم أو ما كان في عموم المعمور لا داعي لإهدار وقت مقدس فيها . ويراعى في هذا التدرج ما تقتضيه، وتفرضه الظروف والمناسبات فرضا، وما يكون مما يشغل الناس ، ويرغبون في معرفة رأي الدين فيه ، وهو ما يجنبهم الوقوع في حيرة من أمر ما يحبل به واقعهم المعيش ، وتتضارب حوله الآراء التي لا يجزم بصحة الصحيح منها إلا ما وافق الكتاب والسنة وآراء أهل العلم والخبرة والدراية .
ولا بد أن يخرج من يحضرون الخطبة وهم على غير الحال التي كانوا عليها قبل سماعها تأثرا ، و فائدة ، وعلما ، ومعرفة ، واتعاظا ، واعتبارا ، واستقامة ، وتخلقا ...، ولا فائدة ترجى من خطبة يخرج من يسمعها خاوي الوفاض .
وبعد هذا الذي ذكرنا ، نطرح سؤالا يفرض نفسه ، وهو : أحقا تعالج خطب الجمعة عندنا واقعنا المعيش محليا ، ووطنيا وقوميا ، وعالميا ؟ وهو سؤال يستدعي أسئلة مرتبطة به تتفرع عنه هي : هل عندنا خطباء في مستوى الخطابة ، وبالمواصفات المطلوبة من تقوى، وموهبة ،وعلم، ومعرفة ، ودراية ؟ وهل يوفر لهم القسط الواجب من حرية معالجة قضايا الواقع المعيش في حينها، و دون قيود أو شروط أو ضغوط ؟ وهل تراعى حقا اهتمامات، وانشغالات رواد المساجد أم أنهم يضطرون إلى سماع ما لا يمت بأدنى صلة إلى واقعهم المعيش وكأنهم في جزر معزولة ؟ أليس في قضايا الواقع المعيش ما تحرّم الجهات الوصية على منابر الجمعة تناول الخطباء لها في خطبهم أم أنها تصنف بعضها ضمن المحظور ، بينما تبيح البعض الآخر؟ وهل تراعي حقا هذه الجهات ظروف الواقع المعيش أم أنها تحرص على إلزام الخطباء بتناول قضايا في مناسبات معلومة فقط ، ثم تلقي بعد ذلك الحبل على الغارب؟ وهل تعلم تلك الجهات أن الكثير من الخطب التي تلقى في الجمع من طرف شريحة عريضة من الخطباء ،لا تسمن ولا تغني من جوع ؟ ولئن أنكرت أو كذبت بهذا، فأمامها تحد يواجهها أو رهان إن رغبت في ذلك عن طريق استقصاء الرأي العام الوطني بالكيفية التي تتيسر لها من استمارات توزع على عينات ممثلة أو مقابلات مع بعضها ، وأنا على يقين أنني سأربح الرهان إذا ما قبلت به .
وسأسوق مثالا لا يراد به الحصر ، ويتعلق الأمر بخطبة جمعة حضرتها الأسبوع الماضي ، وكان موضوعها الحديث عن فضل يوم الجمعة ، ومما جاء فيها الترغيب في التبكير إلى المسجد تبكير الساعات الخمس : ساعة تقديم البدنة ، وساعة تقديم البقرة ، وساعة تقديم الشاة ، وساعة تقديم الدجاجة ، وساعة تقديم البيضة ، وواقع الحال أن تأخر فتح المساجد اليوم، لا يسمح في الغالب إلا بتقديم الدجاج أو البيض ، وسلام بعد ذلك على نيل أجر البُدن، والبقر ، والضأن .وقد يبرر من قرروا إغلاق أبواب المساجد إلى ما قبل أقل من ساعة من موعد صلاة الجمعة بأنهم إنما فعلوا ذلك احترازا مما قد يقع فيها من مخالفات حسب تقديراتهم ، علما بأن بعض الراغبين في أجر البُدن والبقر والضأن ، وهم في الغالب من كبار السن يحضرون مبكرين إليها، فيجلسون في محيطها ببٌدنهم وبقرهم وضأنهم إلى وقت يلحق بهم غيرهم بدجاجهم وبيضهم ساعة فتحها . ومما يحول دون أجر التبكير إلى المساجد في الجمع أن رغبة عموم الناس أن تكون العطلة فيها ، ولا زال هذا مطلبهم، ينتظرون تحقيقه في يوم من الأيام عوضا عن عطلة في سبت اليهود، وفي أحد النصارى .
ونظرا للدراسة في يوم الجمعة ، يحرم سواد الناشئة المتعلمة الأعظم من حضور خطبتها وصلاتها، وهم ساعة حلولها إما بين عائدين من مؤسساتهم التربوية إلى بيوتهم ليصبوا ما تيسر لهم من كسكس ـ وهو كل ما صارت تعنيهم الجمعة عندهم ـ وإما عائدين إلى مؤسساتهم من أجل حضور حصص الفترات المسائية ، فهل بمثل هذا التوقيت الذي يحول دون حضور سواد الناشئة المتعلمة الجمع، يتحقق ترغيب الخطباء لهم في التبكير إليها؟ والحال على ما هي عليه اليوم ، هل روعيت مشاركة ، و دور المساجد في تنشئتها وتربيتها التربية الدينية إلى جانب التنشئة والتربية النظامية التي تقوم بها المؤسسات التربوية ، وفيها القليل من التنشئة الدينية ، وكثير من التنشئة العلمانية، وهي الشريحة التي من المفروض أن تكون أكثر استهدافا بما يُقدم في خطب الجمعة ؟
ومما جاء في خطبة خطيب الجمعة الفارطة أيضا، الترغيب في الصفوف الأولى باعتبارها خير الصفوف ، والترغيب عن الصفوف الأخيرة باعتبارها شر الصفوف، علما بأن الترغيب عن هذه الأخيرة، لم يعد له من دافع ، وقد صارت للنساء طوابق في المساجد تمنع من اختلاطهن بالرجال ، وهو ما كان يفرض كراهة الصفوف القريبة منهن .
وأخيرا بقي أن ننبه إلى أن من يحضرون خطب الجمعة ،ليسوا متجانسين من حيث مستوياتهم المعرفية ، لهذا نجدهم ، وبكثير من الاختصار عبارة عن شريحتين : شريحة رهينة الأمية ، لا تفيد شيئا مما يلقى عليها من خطب، خصوصا إذا ما خلت من العامية، التي لا يحسن بالخطباء أن يلجئوا إليها ولو كره دعاتها ، وشريحة متعلمة تستثقل وقت الخطب إذا كانت هزيلة الموضوع ، ليس بينها وبين قضايا الواقع المعيش الملحة وشيجة أو صلة ، وضعيفة الأداء تتخللها السقطات اللغوية ،والتعبيرية، والأسلوبية ، ويزيد من التبرم منها حشو الكلام ، والتكرار من غير فائدة أو حاجة إليه ... إلى غير ذلك مما يكون حديث الناس ،وانتقادهم للخطب، هم على موائدهم بعد الانصراف من الصلاة .
ونذكر أن الجهات الوصية على هذه الخطب، قد صرفت عن المنابر عددا من الخطباء، وهم في الغالب من أسرة التربية ، تطوعوا لأداء هذا الواجب الديني إلى جانب واجبهم التربوي، وذلك لتناولهم مواضيع تعتبرها محظورة على الخطباء ،وإن كانت مما يفرضه الواقع المعيش ، وهذا مما يضر بالمنابر .
هذه أسئلة لعل الرأي العام الوطني يود أن يسمع من الجهات الوصية على منابر الجمعة أجوبة مقنعة عنها إن شاء الله تعالى ، وإلا فستظل دار لقمان على حالها إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا .
وسوم: العدد 1067