هل يمكن بالفعل رفع الإشكال الدستوري المطروح بين مرجعية المغرب الإسلامية وبين مرجعيات اتفاقيات ومواثيق دولية
هل يمكن بالفعل رفع الإشكال الدستوري المطروح بين مرجعية المغرب الإسلامية وبين مرجعيات اتفاقيات ومواثيق دولية صادق عليها ؟؟؟
تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي فيديو لزعيم حزب يساري صرح فيه أنه من حقه، ومن حق من لهم نفس المرجعية أن يبطلوا قاعدة " لا اجتهاد مع وجود نص ديني " ، واعتمد في ذلك على الباب الثاني من الدستور المعنون بالحريات والحقوق الأساسية ، وتحديدا على الفصل 19 منه ، الذي جاء فيه :
" يتمتع الرجل والمرأة على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية ،والسياسية، والاقتصادية ،والثقافية، والبيئية الواردة في هذا الباب من الدستور ، وفي مقتضياته الأخرى ، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية ، كما صادق عليها المغرب ، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها ".
وهذه الفقرة تتضمن إشكالا دستوريا، يتمثل في الاختلاف بين المرجعية الإسلامية للمغرب ، وبين مرجعية الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي صادق عليها . ومعلوم أنه لا يحصل توافق بين كيانين أو فردين أو أمرين مختلفين من حيث المرجعية إلا إذا وجد تقاطع أو نقط التقاء بين المرجعيات، مع تحييد نقط الاختلاف التي تعد جوهرية وأساسية في المرجعيات ،بحيث تنهار هذه الأخيرة بتعطيلها .
وإذا كان الشرع الإسلامي على رأس ثوابت المغرب ، ويتعذر معه أن يُحلّ حرام حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو يُحرّم حلال أحلاه ، فإنه كان من المفروض ألا يصادق المغرب على الاتفاقيات والمواثيق الدولية إلا بعد الاحتراز من ألا يكون في هذه الأخيرة ما يتناقض مع شرع الله عز وجل . ولا يمكن أن يزعم أحد أن تلك الاتفاقيات والمواثيق الدولية لا تتعارض مرجعيتها في أمور مع المرجعية الإسلامية .
ولقد لكان من المفروض أن تلحق بالفصل 19 من الدستور عبارة : " ويستثنى من المصادقة على الاتفاقيات والمواثيق الدولية ما تعارض منها مع المرجعية الإسلامية أو بعبارة أدق مع شرع الله عز وجل " ، وهذا وحده ما يرفع الإشكال في هذا الفصل ، ويقطع الطريق على كل من يزعم أنه بالإمكان التوفيق بين شرع الله تعالى، وبين الاتفاقيات والمواثيق الدولية مع اختلاف المرجعيات بينهما ، مرجعية دينية إسلامية ، ومرجعية وضعية علمانية .
وعدم التنصيص على قدسية شرع الله تعالى في دستورنا ،بحيث لا يحق لمخلوق أن يغير شيئا مما شرع الخالق ، وجد زعيم الحزب اليساري، ومن على شاكلته ذريعة للتصريح بأنهم من حقهم أن يغيروا أو يعطلوا ما نص عليه الشرع أو بتعبير آخر يحرموا ما أحل الله ، ويحلوا ما حرمه .
وكمثال على ذلك نذكر قضية الإرث " للذكر مثل حظ الأنثيين " التي أثير، ويثار حولها جدل كبير خصوصا في ظرف ما يسمى بإصلاح مدونة الأسرة . والخلاف في هذه القضية، هو موضوع المساواة المنصوص عليه في الفصل 19 من الدستور حيث يرى أصحاب المرجعية غير الإسلامية أو لنقل الوضعية أن منطوق الآية الكريمة ينقض المساواة بين الذكر والأنثى ، بينما يرى أصحاب المرجعية الإسلامية أنها خلاف ذلك، لأن الأمر يتعلق بكلام الخالق سبحانه وتعالى المنزه عن الباطل ، وبحكمه المنزه عن الظلم .
ولا ندري كيف يمكن الاحتكام إلى الفصل 19 في الدستور ، وهو ينطوي على مثل هذا الإشكال الذي لا يمكن أن يحل إلا بمراجعته من خلال إضافة ما يرفعه وإلا فستتساوى حجة من يتقيدون بالشرع مع حجة من لا يتقيدون به ، الشيء الذي سيجعل مدونة الأسرة بخصوص قضية " للذكر مثل حظ الأنثيين" إحدى ثلاث : إما التقيد بمنطوق النص القرآني ، أو تعطيله ، أو الجمع بينهما ، بحيث يجد حينئذ في هذه المدونة أصحاب كل مرجعية ضالتهم فيها ، وتنقسم الأمة إلى فئتين فئة المرجعية الإسلامية ، وفئة المرجعية الوضعية . ولن يقتصر حينئذ الخلاف بين الفئتين على قضية الإرث، بل سيتعدى ذلك إلى قضايا أخرى ، وقد أثيرت بالفعل ، ولن يستقيم في هذه الحال القول بالثوابت ، وتحديدا ثابت الإسلام المنصوص عليه دستوريا .
ولا يمكن إخراج مدونة أسرة تتجاهل رفع الإشكال بين المرجعية الإسلامية للمغرب ، وبين مرجعية الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي صادق عليها ، والتي صارت تطالب بتطبيقها الفئة التي تتبنى المرجعية الوضعية أو لنقل المرجعية غير الإسلامية ، ولا تقبل من أصحابها عبارة " كلنا مسلمون ، ولا يزايد علينا أحد بإسلامه " لأن الإسلام ليس مجرد شعار أو ادعاء بالقول ،بل هو ممارسة والتزام يتجسدان فعليا، وإجرائيا ، وسلوكيا .
ولئن خرجت مدونة الأسرة بصيغتين حرصا على إرضاء الفئتين، إحداهما تلتزم المرجعية الإسلامية ، وأخرى تتشبث بمرجعية الاتفاقيات والمواثيق الدولية ، فإن هذا سينقض ما جاء في تصدير الدستور الذي نص بالحرف على ما يلي : " كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها " وكيف ستحافظ هذه الهوية على هذه الصدارة حين تصير الأمة المغربية عبارة عن فئتين : فئة ملتزمة بهذه الهوية ، وأخرى هواها هوية غيرها . ولا شك أن الذي أغرى البعض بالميل إلى الهوية الأخرى ، وجعلهم يميلون إليها بل يجعلونها مع الهوية الإسلامية في نفس الصدارة ،هو عبارة التصدير التي جاء فيها : " وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح ،والاعتدال، والتسامح ،والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء " .ولسنا ندري ما الذي قصده واضعو هذا التصدير بعبارة " في ظل " ، مقابل عبارة " تبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة " ، ويبدو أن العبارتين تتفاوتان مكانة ، وأهمية ، علما بأن دلالة الاعتدال، والتسامح، والحوار، والتفاهم في المرجعية الاسلامية ليست بالضرورة نفس الدلالة في مرجعيات أخرى . ونذكر على سبيل المثال لا الحصر دلالة التسامح الذي يفهم منه من وجهة نظر المرجعية الإسلامية أنه تسامح مع أصحاب الديانات الأخرى الذين يعيشون بين ظهرانينا ، وهو ما يقتضي احترام ممارساتهم التعبدية ، ولا علاقة له بمن يحسبون على المرجعية الإسلامية ، وهم يصرحون بذلك ، وهم يرفضون أن يزايد عليهم أحد بالإسلام ، إلا أنهم يطالبون بحق الردة ، وحرية الإفطار العلني في رمضان أو يطالبون بالحرية الجنسية مثلية أو رضائية ... أو غير ذلك مما لا تقره المرجعية الإسلامية .
وأخيرا نأمل أن تحل كل الاشكالات التي توجد في أبواب وفصول دستورنا ، وذلك من أجل وضع حد لكل تأويلات مغرضة من شأنها أن تمس هوية الصدارة الإسلامية للشعب المغربي في صميمها أوفي بعض أمورها ، وفقهاء الدساتير هم من تقع عليهم هذه المسؤولية التي سيسألون عنها بين يدي الله عز وجل ، يوم يخيب كل من حمل ظلما .
وسوم: العدد 1070