التواضع من رسوخ القدم في العلم والتعالي من ضيق الأفق فيه
المنتسبون إلى الحقل العلمي والمعرفي صنفان، يفرق بينهما ضدان هما : التواضع ،والتعالي. أما التواضع ، فيكون منقبة في رسخت قدمه في العلم والمعرفة ، بينما يكون التعالي معرة وسبة فيمن ضاق به الأفق فيهما . وقد يلحق كثير أهل العلم والمعرفة بمن تضيق آفاقهم فيهما إذا ما بجحت إليهم نفوسهم ، وصاروا يرى الناس دونهم مكانة وقدرا ، فهم حينئذ في منزلة من لا علم ولا معرفة لديهم .
والراسخون في العلم كما وصفهم الله عز وجل في محكم التنزيل، هم من حسنت أخلاقهم ، و أتقنوا علمهم ومعرفتهم حق الإتقان، ووعوهما جيد الوعي ، ولا يخامرهم أدنى شك أو ريب في إتقانهما ، وهم أعلم بأنفسهم ممن يطرون عليهم ، فيخلعون عليهم الألقاب المطربة للنفوس من قبيل العلامة ، والفهّامة ، والبحر المحيط ، والثبت ، و المتكن الأمكن ، والقطب ، ووحيد زمانه ، وقاهر أقرانه ، وهو من عقمت النسوان أن تلد أمثاله ... وهلم جرا ، وكلها ألقاب وصفات لا تطرب المتواضع من العلماء ، بينما يطرب لها المتعالى منهم ، فيزداد زهوا بنفسه ، ويزداد تعاليا على الخلق ، ويشي لسانه بما يدور بخلده من استصغار لشأن الخلق ، وما يداخله من عجب وزهو .
ومما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أنه سئل عن الراسخ في العلم ،فقال : " من برّت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام به قلبه ، وعفّ بطنه وفرجه ، فذلك الراسخ في العلم " ، وعند التأمل في قوله عليه الصلاة والسلام ، نجد الصفات التي وصف بها الراسخ القدم في العلم من إمضاء لليمين ، وصدق اللسان ، واستقامة القلب ، وعفة البطن والفرج ، يستحيل معها التعالي، والعجب والزهو.
إذا كان الله عز وجل قد جعل للمؤمنين رسوله صلى الله عليه وسلم إسوة وقدوة في تواضعه ، ولين جانبه ، ونزهه عن الفظاظة والغلظة ، وهما من التعالي ، ن فأولى الناس اقتداء به هم ورثته من أهل العلم ، قبل غيرهم من عامة الناس ، إلا أننا لا نرى أحيانا أثرا لهذا الاقتداء عند بعض المنتسبين إلى حظيرة العلماء الذين يركبهم غرورهم ، فيزدرون الخلق استعلاء عليهم ، ولا تفارق ألسنتهم عبارات الفظاظة والغلظة إذا ما تحلق الناس حولهم للنهل مما علمهم الله ، فتخالط علمهم عبارات الاستخفاف بهم ، ويعيرونهم بالجهل، والقصور ، والكسل ، والتطفل على العلم ، والخبط ، الخلط في المعارف ... وغير ذلك مما يفسد أو يخرم مروءتهم بأساليب سوقية وفجة ساخرة .
ومما يخشاه المتعالون من المنتسبين إلى العلم أن يسود هذا الأخير الناس، لأنهم يريدون الاستئثار به دون غيرهم . ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي على أوسع نطاق ، وتحميل أمهات مصادر مختلف المعارف والعلوم فيها مما كان هؤلاء يعتبرونه حكرا عليهم ، ويخزنونه في خزاناتهم ، وفي خزانات تكون تحت تصرفهم ، اشتد حنقهم على تلك الوسائل ، واتهامهم لمن يرتادونها ، ووصفهم بالجهل مع أن الناس على علم تام بغث وسمين ما تنشره تلك الوسائل التي سهلت الوصول إلى المعلومات ، وقد كان دون الوصول إليها شد الرحال ،وخرط القتاد .
فمن ذا الذي يمكنه اليوم أن ينكر أن العديد من أمهات المصنفات العلمية قد صارت محملة رقميا في تلك وسائل ، فضلا عن المعاجم الضخمة ، وتفاسير القرآن الكريم ، وكتب الحديث ، و كتب مختلف المعارف والعلوم مما لا يشكك في صحة تحميلها إلا جاهل أو مكابر أو متعال قد تجاوزه عصر " الرقمنة " ، وهو يخشى أن ينزل عن عرش تربع عليه ،ويتوهم ألا زوال له.
ولقد فطن كثير من أهل العلم والمعرفة إلى استخدام وسائل التواصل من أجل توسيع دائرة معارفهم ، بينما ظل من يخشون على ريادتهم المتوهمة في العلم ينتقدون من سبقهم إلى استخدامها حتى فاتهم قطارها ، وتعلقوا بغباره ، ورضوا باستخدامها بعد ذلك مجبرين ، وقد كانوا من قبل يعيبون من يستخدمونها ، وشق عليهم كثيرا أنهم قد سبقوا إليها ، وما عطلهم عن قصب السبق إلا غرورهم وتعاليهم . ولا زال بعضهم على تشكيكه فيما يحمّل من علوم ومعارف في تلك الوسائل ، ويحذرون منها ، خوفا على ما يتوهمونه من كاريزمية في أنفسهم ، لا قبل لغيرهم بها أو لا سبيل إليها إلا الذي سلكوه هم، والناس عنه غافلون .
ومن صفات المتعالين بخلهم بما تحت أيديهم من كتب ومؤلفات حين يقصدهم طلاب العلم طلبا لها عندهم ، فيصدونهم صد اللئام حيث يجب الكرم حتى إذا غادروا هذه الحياة، قيل عنهم أنهم قد وقفوا خزانات كتبهم في سبيل الله ، وكأن تلك السبيل لم تكن في حياتهم ممهدة سالكة .
ومن صفاتهم أنهم يقربون من طلبتهم المتزلف ، والمحابي ، والمادح ، والمطري ، حرصا على صيانة أبرجهم العاجية ، و تعاليهم ، ويصدون عنهم كل من بدرت منه عزة نفس ، أو لمحة ألمعية، لأنهم يخشون أن يفسد وجوده بينهم طباع قطيع المتزلفين الذين يهانون ويسهل الهوان عليهم .
ومن صفاتهم أنهم يكيدون لكل ذي قدم راسخة في العلم ، ويخشون أن يجاورهم في محيطهم ، فينافسهم ، وتبور سلعتهم أمام سلعته ، ويسلكون كل سبل الكيد لصده ،مع أنها لا تخفى عنه ، ولا عن عامة الناس بل عن خاصتهم .
ومن صفاتهم أنهم لا تدوم مودتهم لأحد ،حيث يتعاملون من معارفهم على قدر ما تكون عليه ظهورهم ذلولة ، فإذا صعبت، زهدوا فيهم ، وأطلقوا في أصحابها ألسنتهم بالسوء ،كأن لم تكن بينهم مودة قط .
ومن صفاتهم أنهم لا يقبلون أن تهدى إليهم عيوبهم ، ومن أهداها إليهم غيرة عليهم، ضاقوا به ذرعا ، وأساءوا به الظن ، وسددوا إليه من سهام قالة السوء ما تنثره كنائنهم .
ومن صفاتهم السخرية ممن تناله سهام اغتيابهم، وهم يتسلون بذلك ويسلون به من يحضرون مجالسهم الخاصة ، ويتفكهون بذلك ، وهم في وحل الغيبة غارقون.
وخلاصة القول أن من أراد به الله تعالى خيرا من أهل العلم ، هو من كان كمن وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم برا بيمينه ، وصادق اللسان ، ومستقيم القلب ، وعفيف البطن والفرج.
وصدق الشاعر إذ يقول :
إذا زاد علم المرء قل ادعاؤه وإن قلّ يوما علمه ضلّ وادّعى
كذا الغصن أيام الثمار تنـــاله فإن صار معدوم الثمار ترفعـــا
وسوم: العدد 1072