ضرورة مراعاة المربين غايات المنهاج الدراسي خلال إنجاز المقررات
من المعلوم أن كل أمة من أمم المعمور تعتمد في منهاجها الدراسي مرجعيتها العقدية، وتجعلها على رأس غاياته المنشودة ، و تحرص على أن يكون لها وجود دائم في كل برامجها ومقرراتها الدراسية ، وفي مختلف أنشطتها التربوية، وحتى في أساليب التقويم المعتمدة لديها. ولا يمكن أن تسمح أمة من الأمم أن تكون محتويات منهاجها الدراسي متعارضة مع تلك الغايات إلا إذا كان بناؤه بشكل عشوائي أو كان مستوردا من غيرها أو مفروضا عليها فرضا بغايات غير غاياتها .
ولا يستطيع أحد مهما كان أن يزعم بأن إنجاز بعض البرامج أو بعض المقررات يتعذر معه تبيّن غايات المنهاج الدراسي ، أو يتعذر معها ربط المتعلمين بها تحت ذريعة من الذرائع كطبيعة أو خصوصيات بعض المواد الدراسية بحيث لا تأتى معها الإشارات إليها بشكل أو بآخر .
وإذا ما استعرضنا غايات منهاجنا الدراسي ، كما تقدمه التوجيهات التربوية الرسمية ، نجدها تركز في تربية وتكوين الناشئة المتعلمة على غايات هي : حب وطنها والتفاني في خدمته ، و التشبث بالدين الإسلامي مع التنصيص على العقيدة السنية أشعرية ، والمذهب الفقهي المالكي ، والطريقة الصوفية الجنيدية ، مع الانفتاح على فكر وثقافات، ومعارف الأغيار .
ويتعين على المربين على اختلاف تخصصات اشتغالهم بالمواد المدرّسة أن يفتتحوا المواسم الدراسية بتذكير الناشئة المتعلمة بغايات المنهاج الدراسي ، وأن يخصصوا لذلك حصة أو حصتين أو أكثر إذا لزم الأمر ، ويستحسن أن تدون على أول صفحات دفاترهم أو كراساتهم لتكون حاضرة بين أيديهم كل وقت وحين وهم يمارسون تعلمهم ، بل يجب أن تكون أيضا بمثابة عقد ملزم للمربين وللمتعلمين على حد سواء . ويتعين على أجهزة المراقبة العمليات التعليمية التعلمية أن تتأكد من وجود هذا العقد مسطورا ، ومستوعبا لدى الناشئة المتعلمة ، وحاضرا من خلال مؤشرات واضحة ، ودالة عليه .
وقد يشكل أحيانا على بعض المربين الذين يدرسون بعض المواد معينة ، ويحتارون في كيفية إدماج هذه الغايات فيما يقدمونه من دروس. وسبب هذه الحيرة عندهم أنهم حين يقدمون بعض دروسهم بمنهجيات وطرائق تتطلبها تلك المواد كالتي تعتمد الملاحظة، والتجريب على سبيل المثال قد يفاجئهم المتعلمون بأسئلة معبرة عن حيرتهم بخصوص ما يتوصلون إليه من نتائج ، وهم عرضونها على معطيات مرجعيتهم الإسلامية ، فلا يجد المربون أجوبة لها بسبب عدم إلمامهم بهذه المرجعية أو بسبب عدم وجود توجيهات رسمية تحل لهم هذا الإشكال.ومما يجب التنبيه إليه بخصوص هذا الإشكال هو أننا بحكم اقتباس منهاجنا الدراسي في بعض جوانبه من منهاج غيرنا من الأمم التي حددت لمناهجها غايات معينة باعتبار مرجعياتها العقدية ، والتي لا علاقة لها بغايات منهاجنا ، قد نسقط عن وعي منا أو دون وعي في ملامسة غايات هؤلاء أثناء تقديم حصصنا الدراسية ، الشيء الذي يخلق ارتباكا فكريا وعاطفيا لدى الناشئة المتعلمة ، مع أن الأمر يلزم بتنبيهها إلى قضية اختلاف المرجعيات بيننا وبين من نقتبس منهم المعارف والعلوم ، الشيء الذي يجنبها ذلك الارتباك ، ويخرجها من حيرتها.
وحتى نوضح هذا الأمر بجلاء نذكر على سبيل المثال بعض مقررات أو دروس مواد علمية أو فكرية والتي تقدم إلى الناشئة المتعلمة بغايات تحكمها مرجعيات عقدية مختلفة عن غايات مرجعيتنا العقدية ، كما يحصل مثلا حين تتناول دروس مادة الفلسفة استعراض مجموعة من الفلاسفة لهم نظريات أو وجهات نظر في قضايا وجودية أو أخلاقية انطلاقا من مرجعياتهم العقدية ، بعضها يكون لا دينيا ، وعلى طرف نقيض مع مرجعيتنا العقدية ، وهذا يقتضي ممن يقدم دروس هذه المادة أن لا يضيق من تساؤلات المتعلمين الذين ينطلقون من قناعات تنطلق من مرجعيتهم العقدية لمناقشة آراء متعلقة بمرجعيات مختلفة عنها ، وهذا يقتضي أن يسلط الضوء على آراء الفلاسفة مع ذكر مرجعياتهم العقدية ، والتنصيص على اختلافها مع مرجعيتنا بكل موضوعية وحيادية ، ودون انحياز إلى آرائهم ، الشيء الذي قد يوهم الناشئة المتعلمة أن ما يقدم لها من آراء أولئك الفلاسفة هو الحقيقة التي لا يأتيها باطل من بين يديها ولا من خلفها، بل يجب أن تقدم على أنها أفكار بشرية محكومة بظروف زمكانية ، وأنه لا يمكن التعامل معها كالتعامل مع الوحي المنزل من عند الله تعالى في رسالة الإسلام العالمية الخاتمة التي تختلف طرق وأساليب التعامل معها عن طرق وأساليب التعامل مع الكلام البشري الذي لا يمكن أن يسلم من باطل قد يأتيه من بين يديه أومن خلفه . ولقد نسب إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى قوله : " كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر " مشيرا إلى قبر رسول الله عليه الصلاة والسلام . وما قيل عن مادة الفلسفة يقال عن مواد أخرى من العلوم المادية أو العلوم الإنسانية لها صلة بقضايا الوجود والأخلاق .
وما يجب التركيز عليه هو أن يُنبّه المتعلمون في جميع المواد إلى أن الغرض من سوق حمولتها المعرفية إليهم هو إطلاعهم عليها كما هي من حيث مرجعيتها العقدية ، وأن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أنهم ملزمون ب اعتماد مرجعيتها العقدية ،لأن لهم مرجعيتهم الخاصة بهم، والتي جعلتها الوزارة الوصية على التربية غايات من أجل تربيتهم وتكوينهم عقلا وعاطفة ،وسلوكا ومعاملة ، وهي بمثابة مناعة تحميهم من التماهي مع كل المرجعيات العقدية التي يتعاملون معها من خلال معارف متأثرة بها بشكل أو بآخر أو مترتبة عنها بالضرورة ، وهي مختلفة أو بالأحرى مخالفة لمرجعيتهم الأم إن صح هذا التعبير كما يصح في وصف اللغة بالأم .
ولا بد من التذكير بأن الوزارة الوصية تمنع أن يمرر المربون قناعاتهم المختلفة سواء كانت سياسية أو مذهبية أو فكرية ... أو غيرها عبر ما يقدمونه من معارف للناشئة المتعلمة ، وهم ملزمون بموجب ذلك باحترام الغايات المرفقة بالمنهاج الدراسي ، والمسطرة كتوجيهاتها رسمية ملزمة . ولا يخفى أن بعض المربين قد يسقطون عن قصد أو دون قصد في فخ التعبير عن توجهاتهم الفكرية أو العقدية أو المذهبية، ويظهرون ميلهم أو تعاطفهم معها، وهي متعارضة مع غايات المنهاج ، ومنهم من يحورون حمولة المقررات الدراسية كي تواكب قناعاتهم الشخصية ، أو تخدمها وتدعمها ، وتضفي عليها المشروعية حسب اعتقادهم ، ويسقطون الناشئة المتعلمة في فخ ما سقطوا فيهم.
والناشئة المتعلمة من حقها أن تنفتح على معارف وأفكار الغير مهما كانت مع وعي تام يكتسبونه من المربين بأنها تصدر إنما تصدرعن مرجعيات عقدية قد تخالف مرجعيتها العقدية ، ولا يضيرهم أن يطلعوا عليها ولكن بهذا الشرط ضرورة.
ولا يجوز أن يدعي مرب مهما كان أنه لا يستطيع أن يقدم للناشئة المتعلمة مضامين صادرة عن مرجعيات عقدية مختلفة أو مخالفة لمرجعيتها العقدية دون حاجة إلى الفصل في أمر اختلاف المرجعيات . ولا يمكن أن يزعم أحد أن الأفكار والمعارف مهما كانت طبيعتها، لا يوجد لها نسب أو توجه عقدي بما فيها تلك التي تتعلق بعلوم المادة إذ قد يكون بعض من يتبنونها أو تنسب إليهم لا عقيدة دينية لهم أو لنقل يكونون لادينيين ، فعلى سبيل المثال لا الحصر إذا ما تعلق الأمر بموضوع من مواضيع علوم الحياة والأرض ، ولنفترض أنه موضوع التساقطات المطرية ، فقد لا يكون لمن عالجوا هذه الظاهرة الطبيعية اعتقاد دينيا أو لنقل يكونون لادينيين ، الشيء الذي قد يوحي للمتعلمين أن معالجتهم لها بطريقتهم تقتضي بالضرورة أن تكون لهم هم أيضا نفس القناعة الفكرية الشخصية لهؤلاء ، أو بتعبير أدق لا يستطيعون التمييز بين المعارف المحايدة وقناعات أصحابها الشخصية ،وهذا ما يسبب لهم نوعا من الاضطراب الشك في عقيدتهم التي تعتبر ظاهرة المطر من مشيئة وتدبير مدبر الكون سبحانه وتعالى ، و أنها ليس مجرد فعل من أفعال الطبيعة تحكمه الصدفة كما يذهب إلى ذلك من لا قناعة دينية لديهم من المشتغلين بها.
ومما يثار خلال دراسة الظواهر الطبيعة المادية أيضا قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم الذي يتعرض لها في شكل إحالات أو إشارات، لا يمكن مقارنتها بتفاصيل ودقائق الدراسات المخبرية التجريبة . ولنضرب على ذلك مثالا لا نروم من ورائه حصرا ، وهو مثال حشرة النحلة التي ورد ذكرها في سورة النحل في إشارة إلى الغاية من خلق الله تعالى لها على هيئة معلومة هي التي تنصب عليها البحوث المخبرية والتجريبية . فهنا لن يخسر المدرس المسلم شيئا إذا ما أشار إلى هذه الإشارة القرآنية بعد تزويد المتعلمين بالمعلومات العلمية الحديثة عن هذه الحشرة ،الشيء الذي سيساهم في ترسيخ عقيدتهم الإسلامية ، و في تقديرهم لما جاء في كتاب الله عز وجد من إشارات وتوجيهات إلى استخدام العقل ، و طلب العلم والمعرفة ، والتأمل، والبحث ، والتدبر في مخلوقات الله تعالى ، وفي ملكوته .
ولا بد هنا من إشارة تحذير من نوعين من التعامل مع قضية الإعجاز العلمي في كتاب الله تعالى ، تعامل أول ينكر وجود هذا الإعجاز جملة وتفصيلا ، ويكون أصحابه من ذوي المرجعية المادية الإلحادية ، وتعامل ثان يحاول أصحابه قياس الإشارات القرآنية لبعض الظواهر على البحوث البشرية قياس إسقاط ، الشيء الذي يقيد أو يحد من دلالة تلك الإشارات التي تغطي الحياة البشرية إلى قيام الساعة . ومشكل هؤلاء أن جزمهم بتطابق تلك الإشارات الربانية مع البحوث البشرية هو تطور هذه الأخيرة باستمرار ، الشيء الذي قد يفهم منه جمود تلك الإشارات أو تجاوزها زمنيا، شأنها شأن البحوث البشرية المتجاوزة عن طريق سنة التطور . والمهم هو أن يحذر التوجهان معا خلال التعامل مع الناشئة المتعلمة الزج بها في متاهات التناقضات بين المعطيات العلمية المتطورة باستمرار ، وبين الوحي المنزل من عند الله عز وجل الذي لم يجعله نظريات علمية على غرار النظريات العلمية البشرية المتغيرة باستمرار، بل جعله إشارات توجيهية طبيعتها الثبوت المتجاوز للتحولات ، وشتان بين ثابت ومتحول.
ولا شك أن ما يروج اليوم من نقد مغرض للمرجعية الإسلامية في بلادنا من طرف شريحة علمانية أو حداثية بخصوص مراجعة مدونة الأحوال الشخصية ، وهي من القضايا الاجتماعية التي تتناولها بعض المواد الدراسية في العلوم الإنسانية من شأنه أن يتسرب إلى المؤسسات التربوية بسبب القناعة العلمانية أو الحداثية الشخصية لبعض الأطر التربوية ، فتصل عدوى تلك القناعة إلى الناشئة المتعلمة ، فتحدث لديها اضطرابا أو حيرة أو قلقا لكونها مخالفة للغايات المتوخاة من المنهاج الدرسي ، وذلك تحت ذريعة وجود غاية الانفتاح على الآخر ضمنها ، مع أن وجود هذه الغاية ، لا يمكن أن تلغي غيرها من الغايات ، بل لا بد أن تسايرها دون أن يتسبب ذلك للناشئة المتعلمة في حيرة أو اضطراب أو قلق .
وما قيل عن نقد التيار العلماني للمرجعية الإسلامية بخصوص قضية مدونة الأسرة ، يقال عن نقده لها بخصوص قضايا اجتماعية أخرى . ولا يمكن لجهاز التربية أن يكون طرفا في هذا التيار وهو يمارس مهامه داخل مؤسسات تربوية تحكمها ، وتضبطها توجيهات تربوية رسمية ملزمة ، وتسهر على تطبيقها أجهزة مراقبة وتتبع ، ومحاسبة .
وسوم: العدد 1076