إلى أي ثورة ننتمي ؟

د. هشام رزوق

في بداية انتفاضة الشعب السوري السلمية ونزوله في مظاهرات عارمة ابتداء من درعا ثم إلى حمص وحماه وحلب ودير الزور وبقية المدن السورية، كان الأمل كبيرا في أن تستمر تلك المظاهرات سلمية وأن تستمر في رفع شعاراتها المطالبة بالحرية والكرامة بتلك الطريقة الرائعة التي أكسبتها تعاطف وإعجاب العالم  أجمع وأظهرت وحشية النظام ودمويته في قمع انتفاضة شعبية سلمية مطالبة بالحرية ولم تحمل سلاحا قط سوى إيمانها بعدالة القضايا التي نزلت إلى الشوارع منادية بها وهي تواجه قوات النظام وآلته القمعية بصدور عارية.

خلال تلك الفترة التي استمرت لأكثر من ستة أشهر، وجد مناضلو الحرية الوطنيون ضالتهم التي حلموا بها منذ عقود، وهي انطلاق ثورة شعبية مدنية سلمية عارمة تهدد أركان النظام الذي جثم عقودا على صدر هذا الشعب الصابر، شرد وسجن وقتل كل المعارضين السياسيين من مختلف الاتجاهات والمشارب الفكرية والأيديولوجية، حيث فشلت كل الأساليب التي حاولتها الأحزاب السياسية المعارضة لإسقاط النظام أو لانتزاع تنازلات سياسية من طرفه.

كنا نرى أن تلك الانتفاضة هي ثورة كل المعارضين والمضطهدين والمسحوقين الذين أذلهم النظام، وتشكل فرصة تاريخية ـ في ظل أجواء الربيع العربي ـ للإطاحة بهذا النظام الدموي وبناء سورية الجديدة سورية الدولة المدنية الديمقراطية، دولة الحق والقانون لكل أبنائها دون استثناء. في تلك الفترة كنا ـ وكنت شخصياـ أشعر بالإنتماء لتلك الثورة.

تحت وطأة القمع والقتل والمجازر والتشريد لكل من تظاهر سلميا، وكرد فعل على أفعال النظام وبمحاولة للدفاع عن النفس، ولأسباب كثيرة تم الحديث عنها مطولا، بدأت تتحول المظاهرات السلمية إلى مواجهات عسكرية وحمل البعض السلاح وبدأت عسكرة الإنتفاضة.

لا بأس، كل الثورات تمر بمراحل يضطر الناس بها إلى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم، لكن الصحيح أيضا هو أن للثورات قيادة تقودها، وهياكل عسكرية تأتمر بأمر القيادة، وخطط عسكرية منها المرحلي التكتيكي ومنها الاستراتيحي. للثورات مشاريع سياسية واضحة وأهداف يتم تعبئة جماهير الشعب لتحقيقها، وعلى الثورات قيادة ومجاميع عسكرية أن تقنع الناس المترددين بالانضمام لصفوفها، ودعمها بكل أنواع الدعم المادي والمعنوي والمساهمة إعلاميا وبكل ما أمكن. القيادة لها شقين : شق سياسي مدني وشق عسكري ميداني، بحيث يكون التفاعل بين الشقين متلازما ومنسجما مع الأهداف المرحلية والبعيدة.

 أين هي الثورة السورية من كل هذا؟ هل يستطيع أحد أن يدلنا أين هي قيادة الثورة العسكرية المنسجمة الموحدة بالأهداف وبالأساليب وبالخطط، وأين هي قاعدتها؟ أين هي قيادتها السياسية المتفاعلة مع جناحها العسكري والتي ترسم لها الخطط وتدعمها سياسيا ودبلوماسيا وماليا؟ طبعا كل هذا غير واضح.

هناك بالتأكيد مقاتلون وهناك كتائب وهناك مجالس عسكرية وألوية و"جيوش"، لكنها مشتتة الجهود والوسائل والأهداف، وكلها تخسر عشرات المقاتلين يوميا لكن دون نتائج جوهرية تذكر، وهي تتبع بغالبيتها لقوى خارجية نظرا لحاجتها للمال والسلاح حيث كثرت الأيدي التي تعبث بالوضع السوري وكثرت معها الولاءات والإتجاهات التي أصبحت تتناقض وتتصارع مع بعضها البعض، واستطاع النظام اختراق صفوف العديد منها وتسخير البعض الآخر لتشويه صورة الكتائب المقاتلة والجيش الحر. كل ذلك جر إلى حالة من الفوضى وإلى انتشار الأعمال الإجرامية كالخطف والقتل وطلب الفدية بعيدا عن أهداف الثورة والثوار.

 وهنا نتساءل إلى أي من فصائل الثورة ننتمي أنا شخصيا ومثلي كثيرون من الوطنيين والمعارضين؟ بصراحة، لا أشعر بالانتماء لأي فصيل ولا لأي لواء أو كتيبة أو جبهة أو دولة. لقد تاهت الثورة وتاه معها المخلصون رغم الاعتراف بأن هناك بطولات فردية ومقاومة وتضحيات هائلة يتحملها المقاتلون وذويهم والحاضنة الشعبية التي ينتمون إليها، وإصرارا عنيدا على مقاتلة النظام حتى إسقاطه.

من جهة أخرى، إن كنا ضد النظام، فذلك موقف لم يكن وليد الانتفاضة بل سابق لها، لكن هل يشعر الكثير من أمثالي أن المعارضة التي بنت هياكلها بعد الانتفاضة وبأموال ودعم خارجيين بدءا بالمجلس الوطني وانتهاء بالائتلاف  تمثله أو أنه ينتمي إليها؟ أعتقد أن الجواب هو قطعا لا.

كان من المفروض أن تكون المعارضة السياسية في الخارج ممثلة بالمجلس الوطني والائتلاف وهيئة التنسيق وغيرها رديفا ملازما للثورة في الداخل، تحمل برنامجا سياسيا واضحا ومشاريع عمل محددة، وشفافية في التعامل والولاءات والتصرف بالأموال التي استلمتها، أن تكون صوت الثورة في الداخل وحامل شعاراتها وأهدافها وسياساتها إلى المحافل الدولية لكسب أصدقاء حقيقيين ولكشف جرائم النظام وتعريه سياساته القمعية بأساليب ذكية وعلمية ومنطقية.

إن الصورة التي ظهرت بها تشكيلات المعارضة بائسة ومخزية ومتهالكة، رمت بنفسها سريعا في أحضان أصحاب الدعم المالي والعسكري المشبوهين، وابتعدت عن أهداف الثورة ، وطغت الانتهازية والمصالح الفردية والفئوية على تصرفاتها، فخسرت ثقة الناس وبالأخص ثقة المناضلين الوطنيين المخلصين، ولم تعد تعبر عن ضمير الشعب والثورة.

يتساءل البعض من هم اولئك الوطنيون المخلصون؟ وجوابي هو أنهم المثقفون الوطنيون المعارضون القدامى والجدد الذين لم يرتموا بأحضان أية قوة أو دولة خارجية، إنهم موجودون في كل التيارات السياسية في الداخل والخارج،  منهم القومي العروبي، ومنهم اليساري الشيوعي، ومنهم الإسلامي المعتدل ، إنهم اولئك الذين لم ينجروا إلى مواقف طائفية أو عرقية  أو مذهبية ، سلاحهم كلمتهم وإيمانهم بأن سورية لن تكون إلا دولة مدنية ديمقراطية يتساوى فيها جميع أبنائها في الحقوق والواجبات، وعليهم وحدهم مسؤولية حمايتها والدفاع عنها وتحرير المحتل من أرضها ، دولة لها مكانتها في محيطها العربي والإقليمي والدولي.

هذا هو التيار العريض الذي أنتمي إليه وأدعو جميع المخلصين ممن ذكرت أن يعملوا بجدية لخلق ودعم هذا التيار الوطني المدني الجامع من أجل سورية تليق بهذا الشعب العظيم المجاهد.