من يقتل العراقيين
من يقتل العراقيين
د. ضرغام الدباغ
رغم ما يبدو عليه ظاهر الحال من غموض، إلا أن الأمر بتقديري ليس من الأسرار المستعصية، أو لغز لا حل له. ذلك أن الأمر وما فيه ينبغي أن لا ينظر إليه من خلال الأشخاص، فما أكثر الأسماء الوهمية / السرية / الحركية وما شابه ذلك، كما أن الموضوع لم يعد يتعلق بهذا التنظيم أو ذلك الحركة، فهذه مسميات يمكن وضعها على الورق والتفنن بالتزوير واللعب بالكلمات والألفاظ حتى تضيع الحقيقة وما أكثر ما ضاع في غياب الحقائق، وما أكثر الحقائق التي ضاعت من خلال التزوير.
لنهتدي إلى الحقيقة من خلال التحقيق.
هناك قاعدة ذهبية يعرفها المحققون الجنائيون وقضاة التحقيق وتتلخص تلك النظرية التي ينطلق منها المحققون في عملهم وهي : من له المصلحة في العمل الجنائي ...؟ سواء كان ذلك قتلاً أو كل ما يدخل في هذا الإطار من الأعمال الجنائية.
ليس من المقبول أن نحمل فرد في ظاهرة عامة، فالأفراد بينهم المجرم، وهناك المختل عقلياً، وهناك المأجور من قبض ثمن فعله، وهناك من لا يعلم ما يفعل، ولكن ما يجري في العراق منذ أكثر من عشرة سنوات لا يدخل في هذه الحالات جميعها. لذلك من العبث البحث عن القاتل بالأسم.
ولكن لنبحث عن الجهة المنظمة للقاتل والإجرام، وهذه الجهة هي من لها المصلحة في قتل العرب والمسلمين والعراقيين. وهذه الجهة هي ليست عراقية بالتأكيد، وللوصول إلى أسم هذه الجهة لنتساءل من يقتل العرب والمسلمين في أرجاء عديدة من العالم ؟ وسنتعرف على الجهة الفاعلة والفاعلون بسهولة شديدة، أما إذا تحققنا من له المصلحة في تدمير العراق والحيلولة دون نهوضه ليلعب دوره الذي يستحقه تاريخياً، فهنا ستتجه أبصارنا وبصائرنا وأصابعنا إلى المتهم.
هذه الجهات المتحالفة والمتفقة والمؤتلفة على قتل العراق والعراقيين، هي التي تقتل قتلاً منظماً ممنهجاً يتجاوز إجرام أي فرد أو عصابة أو منظمة أو قدراتها التقنية والمالية. والدليل كيف قتل مئات العلماء العراقيين، ومن له المصلحة بقتل القادة السياسيين، ثم من له المصلحة بقتل طياري العراق، ولماذا لم تكتشف جريمة واحدة من ألاف الجرائم، من الذي ينظم عصابات الاغتيال بطرق فنية وقدرات تقنية ممتازة تفوق ما بحوزة العناصر العادية، هي ببساطة قدرات دول وأجهزة مخابرات متمرسة صاحبة تجارب فنية وسياسية تفوق القدرات المحلية.
وفي بعض الأحيان تفضح هذه الجهات نفسها ، وذلك بقيامها بسلسلة عمليات كبيرة ومعقدة فنياً في آن واحد، وهو ما يفوق قدرات المنظمات السرية أو يتجاوز أصول العمل السري. في عمليات إرهابية أخرى يجري توزيعها بطريقة يعتقد المخطط لها أنها ذكية، حين يوزعها على الطوائف، والمكونات، حيث يراد لأن تصطدم هذه بتلك، وأن يثار هذا ضد ذاك، ثم تنكشف الحقائق بعد سنوات، كما كشفت المخابرات الأمريكية أن منفذي تفجيرات سامراء كانوا إيرانيين، والعملية كان مخطط لها أن تفجر صراعات طائفية، أما إيجاد عناصر محلية تقتل وتفجر وتثير فتن فهذا أسهل ما يكون، وهي الفقرة الأسهل في هذا البرنامج وأمر لن تعجز عنه هذه الأجهزة.
ولكن الأمريكان والإنكليز أنفسهم وبدلائل وقرائن مادية أشتغلوا في هذا المخطط سنوات طويلة، وبوسائل غير نظيفة وكذلك حلفاؤهم الإسرائيليون، كل أشتغل على طريقته، وبالتوافق والتفاهم بينهم، طالما قتل العراقي حلال على أي مذهب يكون وهو هدف مقبول ومتفق عليه من قبل أطراف الحلف الثلاثي الأسود، فمثلاً إذا كان العالم الأكاديمي مسلماً سنياً أو شيعياً، أو على الديانة المسيحية أو الصابئية، لا يهم فأسمه مدرج على اللائحة والتصفية، فسيقتل، ما لم ينجو بجلده في بلاد الله، وكذلك القادة السياسيون والعسكريون، أي المرتكزات الفنية والعمود الفقري للعراق، فإذا ما صفيت هذه الفئات، وبأي وسيلة، فتقديراتهم أنهم سيعيدون العراق إلى الوراء مئات السنين، وهم في ذلك لا يختلفون عن الفاشية الهتلرية بشيئ، فسيكون العراق كومة لحم لا يقوى على الوقوف على قدميه بلا عمود فقري، هذه نظرية فاشية في التصفية السياسية.
الكل أشتغل على هذه النظرية، ولكن القائمة الأمريكية كانت تضم العشرات، والقائمة الإسرائيلية تضم المئات، ولكن قائمة الإيرانيين تضم الآلاف، وربما عشرات الآلاف، فالإيراني لا يشبع من الدم العراقي، فهذا بلد يعيش على الأحقاد ويعمل على إذكائها والتحريض عليها، وثقافة الحقد والكراهية هي ثقافة رسمية للدولة، والمحرك الأساسي لكافة فعالياتها، ومحرك عقلها السياسي.
أوهموا العراقي، أنت في أمان، وأوهموه أكثر بأنك ستشبع، وسخروا منه وقالوا بأنك ستجد العمل اللائق بك، وها قد مرت عشرة سنوات، وها نحن نشاهد عوائل تعيش في مكبات القمامة، وبشر يشربون الماء من برك الأمطار كألأنعام حاشاهم، وطلاب المدارس يفترشون الأرض، ونسبة بطالة مفجعة، واطراد في نسبة المخدرات، وتصاعد مفجع في الأمراض الوبيلة، فالعراقي، أي عراقي هو في القائمة السوداء طالما هو عراقي، يستوردون له أدوية فاسدة، وأغذية منتهية الآجال، بل يقتل أطباؤه بهدف واحد وهو العمل على إيقاع أكبر حجم ممكن من الخسائر..
العراقي لا يوغل بالإجرام لهذه الدرجة المهولة، قد يخطأ العراقي ويرتكب جريمة طابعها فردي، وهدفها فردي كذلك، ولكن من له المصلحة بقتل العراقيين على كافة مستوياتهم، وطوائفهم، من هو سوى التحالف الثلاثي الذي تحالف وأحتل العراق، وتحالف وأدار عملية الاحتلال للعراق، وما زالوا يتفقون على توزيع الأدوار في مواصلة قمع العراق ومنع نهوضه.
الوعي العراقي لهذه الجرائم يتكون ولكن للأسف ببطء، بسبب ازدحام اللقطة بالصور والرموز والإشارات والبواعث، والعواطف، ازدحام كثيف يبدو من الصعب فك ألغازه، ولكن الصورة تفضح نفسها، وما نحتاجه هو نربط بين الحقائق والبديهيات فحسب، لنتوصل إلى حقيقة هي حاضرة في الوعي، ولكنها غائبة في الصورة لدى أطياف من مجتمعنا العراقي.
بيد أن حبل الكذب والمؤامرة قصير، نعم سنخسر ضحايا عزيزة، ولكن العراق سوف لن يضيع، يتوهم بل هو غارق في الأوهام والأحلام من يعتقد، أنه يستطيع بذلك أن يمكث في العراق، لا بل هو سيغادرها كل المحتلين، أسودهم وأبيضهم، مطروداً مدحوراً جريحاً مهاناً. التاريخ ليس يوماً واحداً وقراءته ليست للتسلية وإزجاء الوقت، بل للعبرة والاعتبار.
فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقالة جزء من مقابلة تلفازية مع إحدى الفضائيات العربية بتاريخ 25 / حزيران / 2013