أراب أيدول والنكبة العربية

أراب أيدول والنكبة العربية

عبد الكريم ناتي

[email protected]

يذكرني الواقع العربي الحالي بذوي الأدواء العضال الذين يوضعون في عيادات "الموت الهاديء" و يُعطَون مسكنات مركزة كي يموتوا ب "سلام" دون مشقة، لكن لا بد من موتهم بهذه الطريقة كونهم ميئوساً من شفائهم فهل ترى وصل الواقع العربي إلى هذه المرحلة؟

تنثابني الغصة و أنا أموج مع الأمواج الهائلة من سواد الناس كي نتناسى كل هذا الذي يحصل لنا، من شدته أو من ضعف مقاومتنا و ضيق أفق تفكرينا و استشرافنا للمستقبل الذي ينتظرنا إذا لم يتغمدنا الله برحمته الواسعة، و لن أقلل من شأن هذه التراكمات فهي كثيرة جداً حتى مرحلة شبه الموت، و كأن إسماعيل الذبيح ذُبِح حقاًّ و لم يُفدَ، و كأن الإرادة في الحياة الحقيقية شُلَّت تماماً، و كأننا لسنا نحن من ركبوا كل ضامر كي يوصلوا أعظم رسالة إلى أعتى ملوك الأرض و أضل شعوبها...و كأن خالدا و شرحبيل و عمرو في الشام و مصرَ لم ينهوا سطوة الروم و غلبتهم، و كأن المغول لم ينتهوا علي يد الظاهر بيبرس الذي تربى في أحضان عربية إسلامية و محا مملكة أرمينية من خارظة العالم!!

لكأني انسلخت تماماً من إحساسي بالعزة و السمو اللذين رباني عليهما هذا الدين العظيم و وصاني أن "أكون مؤمنا قوياً لا يرضى أن يكون ثانوياً أو أذاة في يد أحد غير الواحد الأحد". و قد حذر رسول الله ص ذوي الألباب من دخول جحر الضب كما كان مقدَّراً أن يدخله عموم الناس لكنهم دخلوه هم أيضاً-بما تبقى لديهم من ألبابهم- و لم يمتثلوا لوصايا النبي ص فكان زحاماً شديداً على بوابة هذا الجحر و لا يزال، وأصبح الكل يطلب مسكنات للوجع الذي لا ينتهي و النكبات المتوالية عليه من كل صوب و هذا ملخص ما وصل إليه حالنا من العدمية حتى أصبحنا "جميعاً و قلوبنا شتى"، و عملياً صار اليهود خيرا منا في تكثلهم على المصلحة المشتركة حتى و لو كانت قلوبهم شتى، و حتى و لو كانوا الأذاة الأولى في يد الشر العالمي المحيط بالأمم و منها نحن أمة "محمد ص" و يا للأسف. و أصبح حالنا كحال الدمية في يد محركها لا تقاوم و لا تعترض على كل أشكال الحركة أو الإعوجاج و الإنحراف، لكن مع اختلاف بسيط هو أننا "دمى ناطقة" و حين نرتقي سلم الوعي البشري نكون"دمى شاجبة" أو "دمى متعصبة" لا تقاوم التحريك."

توالت على العرب نكسات مذ سلموا في مشروعهم الأضخم و هو الثبات على المنهج الذي خطته الشريعة الربانية التي تمت و كملت في آخر زمن الشرائع السماوية فأصبحوا شبه جثتٍ هامدة تسير عليها مطايا العابرين من جيوش استعمارية إلى صيحات علمنة إلى مذاهب مترهلة ضربت عليها العنكبوت بنسجها كما قال الشاعر، وهكذا دواليك...و تحضرني في هذا السياق العام قصيدة كنت كتبتها من شدة غيظي و قلة حيلتي و مرارة ما يوجعني من الواقع كان من مقاطعها:

عندما تشيخ المذاهب و تموتْ

في معسكر شرقي أو غربي

يستقبل جثمانها العربي...

يُغَسِّلها و يكفنها على النمط الشرعي

ثم يعتنقها باسم الحداثة...

ثم رأيتُ فيما بعد أن ما كتبتُه في هذا المقطع لخص بشكل عام و جد موجز واقعنا العربي السياسي و الإعلامي بل العام. و بما أننا ثرنا على حالة الوجود فقد استقبلتنا حالة الفراغ فاتحة ذراعيها، بل حالة الشلل العقلي الجزئي أو الكلي، وكل من لديه حتى الآن بقية عقل يُعدُّ من ذوي الألباب الذين إن عقلوا يوما جهلوا شهراً و إن تقدَّموا ذراعاً تأخروا باعاً. و الأنكى من كل ذلك حين يتبلد الحس عن الرغبة في السمو و يقنع العقل أو بقيته بحالته هذه من الدونية و الإنحطاط.

و لعل أخطر أسلحة شلل يواجهها العقل العربي المتبلد هي هذه المسكنات الوقتية المستمرة التي تتستر على أورام و بلايا عظمى في تشكيلته و فلسفة حياته العامة التي تعتمد على الإستهلاك و الماضوية و التفاخر بما لا ينتج و لا يبدع حتى صار كل ما يمُُث إلى كلمة "عرب" بصلة يوضع في أواخر القوائم على المستوى العالمي، و لا ينبئك بهذه المأساة كمن يعيش في بلد أوربي أو أجنبي عموماً...اللغة العربية لا يعرفها أحد و كذلك التاريخ العربي، و كيف لهما أن يُعرفا و قد جُهلا و تُنُكِّر لهما من ذويهما فأصبحنا نرى العربي يستحي أن يتكلم لغته أو أن يتحدث عن تاريخه، بل أصبح من البديهي أن نسمي الأشياء بمسميات أجنبية و أن نقيس كل شيء على ما يقوله علماء الغرب و فلاسفته و أدباؤه حتى تاه قيس و ليلى في متاهات رومو و جولييت، و حتى انطمست ملامح العلماء العرب و المسلمين في متاهات السرقات و التحريفات العلمية الغربية، و حتى ذاب العقاد و المنفلوطي و المازني و نجيب محفوظ و غيرهم في رواية لفيكتور هوجو أو مقولة لسمون دي بوفوار...لم تعد نكهة لفن أو فلسفة أو إبداع أو بحث علمي إلا إذا صادق عليه الغرب مباشرة أو أعطاه جواز المرورفي أدهاننا، لتصيبنا حساسية العروبة و العربية و ينثابنا الإحساس بالدونية كلما تذكرنا ما يصلنا بثقافتنا العربية و بلغة يجمع العلماء على أنها أصل اللغات العالمية، ثم أصبحت الصبايا تحببن كحُب الشقراء لحبيبها الأشقر و تشتهين الحب على طريقة "تايتانك"...و لم يعد يشتهر من أهل الأدب و الإبداع إلا من كان غربي النفس لكن بشرط: "أن يرتدي قبعة الكووْبوي و أن يطيل شعره إلى أسفل منكبيه" لكن الصورة لا تكتمل إلا إذا وضع في فمه "بايب أو غليون" يقول بعدها نصف كلمة بالعربية و عشرة بالفرنسية أو بالأنجليزية فيقول الناس:"واو...كم هو شيكْ"...و قس على ذلك المبدعات.

لا أنكر تذرقي للفن و إصراري على أن أي صنعة ينبغي لها أن تكون فناًّ بكل المقاييس حتى في أقل الأشياء أهمية في الحياة، و قد سمى الله نفسه "بديع السماوات" أي صانعها بإتقان متناهٍ" و الإتقان هو مربط الفرس لكنْ...هل يصح حتماً الإنسلاخ عن المحلية و الصرف على الفكرة البسيطة بقدر يُخلُّ بميزان الضرورة و يتعسف على أهمية الأشياء و ترتيب هذه الأهمية من حيث درجة حضورها فيما يلزم إنسانية الإنسان و كرامته و أولوياته الحياتية؟

لا شك أن لعنةً ما تلاحق البيترو-دولار كونه ربما يسرق حقوق أهله فيه أو ربما لأنه لا يقسم على الناس بالعدل و بالكيفية التي يرضاها الله واهب النعم...و لو كان حلالا لما صُرف في أوجه الحرام بهذ الشكل أو بولغ في صرفه فيما لا يستحق، و قد أظهرت الثروات البترولية سطوة لا مثيل لها على الإعلام و على كل شيء في الواقع العام، و لم يتأمل الناس لحظة لماذا يبتلي الله هؤلاء بالإنفاق على أوجه الفساد و الإفساد...هل لأن أموال النفظ حلال؟ حاشى لله أن يسخر لطيباته أهل الشر.

تصل السفاهة إلى درجة أن يُمنح المليون دولار و المليونان و الأكثر لأجل ركلة كرة من مارادونا أو لأجل ساعة يد في مزاد أو هدية للمغنية فلانة و الصحفية الساقطة علانة أو... ل"حَكم في لجنة أراب أيدول"! لا أعلم بالتحديد ما هو أجر هؤلاء الأربعة أو غيرهم في أمثال هذه المسابقات لكنني على يقين أن مال النفط سخي جدا في هذه البرامج و غيرها، إلى درجة أن تطل علينا إحداهن بحلي قيمتها ثلاثة ملايين و نصف المليون دولار...ثروات لم يُحَصِّلها من ذابوا في الفن ذوباناً. لكن هل انتهى الأمر عند هذا الدرجة من السفاهة أم أنها أشياء كثيرة متداخلة الأبعاد و النتائج؟

لو قُدّر لنا أن نطلع على ميزانية هذا البرنامج و غيره من أشباهه لهالنا مقدراها و لدمعت أعيننا من الظلم الذي يقع على المواطن العربي المسفوحة كرامته و دمه و أمواله في كل مكان من وطنه الذي يرزح تحت نير الفتن و التدخلات و الأوامر و التطبيع، ناهيك عن قصة الهوية التي لم يعد أحد يجرؤ على التشدق بها في زمن العولمة الثقافية-الإقتصادية. ثم لو تأملنا بعمق سر هذا التقليد الأعمى لوجدنا أن يداً واحدة هي التي تحرك الإعلام العالمي و هي اليد الماسونية صاحبة مقولة "إذا عارضتَ صفيناك كما صفينا الآخرين بأيدنا أو بأيدي شعوبهم"، وقد وعي أرباب النفط في الخليج هذه المقولة-أو قل هذا الدرس- جيداً بعد اغتيال الملك فيصل رحمه الله على يد ابن أخيه العميل فأصبحوا يتقاضون أقل من المقابل لكن شريطة أن يصرف في التطبيع و الخواء و التبعية التي لا تعرف قول "لا". و من جملة هذا أن جل هذه المسابقات هي نسخ "عربية" من أصول أجنبية و كأن الأمر صريح و صارم بتقليد كل منتوج غربي حتى أنه لم يعد للإبداع العربي رائحة فيها أو في غيرها، ثم يتطور الأمر "سياسياً" و بشكل مقزز أو مضحك أحيانا، ليكون للحكومات رأيها رسميا في قضية مرشحيها و أبعاد ترشحهم على المستوى السياسي و الشعبي، و لكي يُستغلوا بشكل واضح لإسكات الشعوب الغاضبة المقهورة و تخذريها و تقديمها قرابين للأعداء الذين يتربصون بها في لحظة، فتنتهي القضية عند هذا الحد و يُنسى البرنامج و المرشح ليتجدد اللقاء المخزي على مدار العام فلا يستريح الناس من حقن التنويم و المسكنات، و بين هذا و ذاك مسلسل تركي أردوغاني، حتى تقول العجوز ذات السبعين:"نحن ننتظر البرنامج على أحر من الجمر". وقد تطور الأمر من البهتان المبين إلى أن يُرسل السجناء من قلب سجون الإحتلال برسالة إلى "السوبر ستار" مفادها أنهم "أضربوا إضرابا عاماً ضحوا فيه بأطنان من لحومهم لأجل السماح لهم بمشاهدة الفضائيات و خصوصا "الأم بي سي" التي يعدونها أحسن قناة في العالم العربي، ثم خصوصا خصوصاً "معبود العرب" الذي صار "محبوب العرب مع التعديل""...كان كاتب فيلم "معبودة الجماهير" أكثر صراحة من الأم بي سي في تسمية الأشياء بمسمياتها و لفظ IDOL

     في جمع اللغات يعني "معبود" و ليس "محبوب" و قد عبد الناس دون أن يشعروا محمد عساف. يأتي بعد ذلك فصلان من فصول الدراما الإعلامية العربية لتمنح "الأمم المتحدة" لقب "سفير النوايا الحسنة" للسوبر ستار و محمد عساف، و تثور حمية الرئيس الفلسطيني أبو مازن فيمنح مواطنه لقب "سفير النوايا الحسنة للفنون" لتتقاطر شذرات المجد و التهليل على هذا البرنامج و أهله و فائزه بينما أصحاب النوايا الحسنة الحقيقيون قابعون في السجون و تُفعل بهم الأفاعيل لمجرد أنهم قالوا "ربنا الله ثم استقاموا"...ثم يأتي الفصل الأخير من المسرحية المقيتة العفنة فيصل المرشح إلى المطار ليكون في استقباله حفنة يسمونها "الشعب" و كل ذلك تحت رعاية ولاة الأمور حفظنا الله من أمورهم...آمين