سوريا... الحل في الميادين والخنادق لا في المؤتمرات والفنادق

سوريا... الحل في الميادين والخنادق

لا في المؤتمرات والفنادق

د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين

[email protected]

تصاعدت وتيرة التحركات الدولية للتباحث والتوافق حول نهج التعاطي مع ما يجري في سوريا، ولكنها ظلت بلا أفق قريب، وتظهر فيها بعض معالم الارتباك السياسي عند بحث أنجع السبل للتعامل مع ثوّار الشام، بل يتسع نطاق الجدل حتى دخل أروقة الإدارة الأمريكية، بعدما كُشف عن تباين في وجهات النظر ما بين وزارتي الخارجية والدفاع حول التدخل في سوريا (أخبار العربية 20-6-2013).

وفيما يظل المشهد السوري دمويا والمشهد العربي مخزيا ويستمر الموقف الدولي تآمريا، تكشف أرض الشام عن ثورة ليست كالثورات، ولذلك فإن النظرة الواعية للواقع المتفجر في سوريا تحتاج إلى حل مصفوفة من معادلات التوافيق والتباديل ومجموعة من المتناقضات، ما بين روسيا وأمريكا وأوروبا والدول الإقليمية التي تسير في ركاب القوى الاستعمارية: وهذا المقال يسهم في تفكيك تلك التداخلات إسهاما في الحفاظ على توجيه بوصلة الثورة نحو غايتها.

كشف مؤتمر الدول الثماني عن تباينات في وجهات النظر لدى القوى الاستعمارية فيما يتعلق بالآليات والتوقيت، وإن ظلّت متفقة على إستراتيجية "الحل السياسي"، ومتوافقة ضمنا على التصدي "للإسلاميين"، رغم جعجعات أوروبا (بريطانيا تحديدا) حول جدوى الانقلاب العسكري كما نقلت العربية نت عن مجلة التايمز في 20-6-2013، وخصوصا أن كاميرون قال إثر مؤتمر مجموعة الثماني: "نحن ملتزمون باستخدام الدبلوماسية كحل سياسي لإنهاء الحرب في سوريا"، وقد كان ذلك المعنى ضمن فحوى البيان الختامي لقمة مجموعة الثماني.

وضمن ذلك السياق، ضبطت التحركات العربية الرسمية تصريحاتها وحصرتها "بالحل السياسي"، رغم ما بدا في الموقف المصري الرسمي من مظاهر تطور، وخصوصا بعد تصريحات مرسي بأنه سيقطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، وبعدما احتضن مؤتمر العلماء، لكن المؤتمر حافظ ضبطه للجهاد المطلوب في حدود الإيقاع الشعبي (المحدود مهما تعاظم) بعيدا عن تحريك الجيوش (المؤثر والفعال).

 

وأمام هذه المشاهد المتلاحقة والمتتابعة، تبرز الحاجة لنظرة سياسية فاحصة لمواقف الأطراف كلها تسهم في الوعي على الأحداث واتخاذ المواقف الشرعية منها:

 

بداية، لا يخفى على المتابع أن أمريكا -ذات النفوذ العتيق في سوريا- لن تتخلى عنها ولن تقبل أن تندحر عنها تحت ضغط تحركات العالم السياسية، ولذلك فهي تتحرك في مجموعة من الأعمال على صعيدين:

1)    صعيد الدبلوماسية على الساحة الدولية والأنظمة العربية، تدفع فيه أجندتها مباشرة أو عبر الآخرين.

2)  صعيد الاختراق وصناعة العملاء داخل صفوف "المعارضة" وذيولها الثورية، وتضبط فيه توجيه أي دعم –سياسي أو عسكري أو حتى إغاثي- لا يؤدي إلى  الاختراق وتمكينها من الهيمنة على رموز سوريّة تصنعها لما بعد الثورة.

 

وهما صعيدان يفضي أحدهما إلى الآخر، ويتداخلان عبر اتصالات رموز "المعارضة السورية" مع الأنظمة العربية والقوى الدولية. وأمريكا إذ تدرك خطورة الموقف في سوريا، وهي تراها حبلى وتخشى من جنين حيّ يتحرك في أحشائها، تحاول تشويه المولود "الثوري" بالحُقن "الجينية" المسمومة، إن لم تتمكن من قتله قبل الولادة، ولذلك صرح أوباما في ألمانيا: "نريد ضمان عدم استخدام أسلحة كيمياوية أو وصولها إلى أيدي الذين يريدون استخدامها... إننا نريد إنهاء حرب".

 

وتتلخص أعمال أمريكا في العمل على الوصول إلى أحد خيارين: إما أن تتمكن من تشكيل وتأطير جهات سياسية "معارضة" تستعيد من خلالها النفوذ الأمريكي في الشام عبر نهج إعادة التشكّل، كما فعلت في مصر، وإما أن تدمّر البلاد فتمنع أي قوة جديدة في الشام من تغيير خريطة النفوذ الأمريكي في المنطقة، ومن تغيير المعادلات الأمنية على حدود "إسرائيل" ربيبة أمريكا، وحاملة طائراتها المتقدمة في الشرق الأوسط.

 

وحول هذه الأجندة الأمريكية، تحتشد دول إقليمية عشعش فيها النفوذ الأمريكي: سواء ظهرت كأنها في صف الثوار كتركيا ومصر أو اصطفت على خط الدفاع عن نظام بشار كإيران، ومعها حزبها الذي يتستر بتاريخه "المقاوم" كما تتستر إيران بخطبها النارية ضد "إسرائيل" وأمريكا. ومن المفارقات أن الصنفين –على الجانبين شكلًا- يرفعان شعارات إسلامية، بينما يمارسان كل ما يحقق المصلحة الأمريكية في إبقاء سيل الدماء حتى ينضج الحل السياسي. ولذلك فتحت مصر قناة السويس لعبور سفن التسليح لنظام بشار، وفتحت تركيا أرض العثمانيين لحلف النيتو لنصب بطاريات الصواريخ، لحين حاجة للتدمير الشامل لسوريا.

 

وتبرز روسيا التي أعطتها الأحداث فرصة الظهور كدب شرس، وهي تحاول تحقيق بعض المصالح والصفقات الرأسمالية، وفتحت أمريكا لها المجال لذلك الدور، كيف لا وقد رضيت روسيا أن تلطخ وجهها بالموقف الوسخ –أمام العالم- في دعمها لنظام يقتل الأطفال، فاستفادت أمريكا من الموقف الروسي في اتجاهين: (1) اتجاه تحميل روسيا وزر ذلك التسليح والدعم للنظام المجرم، (2) وأجر إطالة عمر الصراع، حتى تحقق إحدى غايتيها من التركيع أو التدمير.

ومن هنا كان الرئيس المصري قد صرح عندما زار روسيا قبل أسابيع أن موقف مصر (الذي هو انعكاس للأجندة الأمريكية) يتطابق مع الموقف الروسي، وفي الوقت نفسه لا تظهر أي خلافات بين الموقف الإيراني والروسي. وما بدا في اجتماع الثماني من ممانعة روسية ضد الدفع الأوروبي لتسليح "المعارضة"، هو في الحقيقة انعكاس للموقف الأمريكي، لأن أمريكا تركب الدب الروسي وهو يدفع مصالحها وأجندتها للأمام.

ويظل تأثير أوروبا على المشهد السوري محدودا، وهي تحاول الحضور الدولي والظهور بمظهر القادر على الفعل، ولكنها لا تخرج عن محاولات وضع العصا في العجلة الأمريكية التي يدفعها الدب الروسي. صحيح أن أوروبا تتحرك عبر دول عربية مؤثرة إقليميا وقد ظلت "وفية" لعراقة ارتباطها البريطانية العتيقة مثل قطر والأردن، إلا أنها في النهاية ترضخ لما تفرضه أمريكا وتتبناه، وهي إذ تحاول دفع موضوع التسليح للثوار بفعالية أكثر من أمريكا إنما تسعى لأن تحظى بمزيد من الحضور والتأثير، ولكن أمريكا تستمر في كبح تأثير تحركاتها، وإفراغها من مضمونها الفعلي. ومن غير المتوقع أن تتمكن أوروبا من الفعل المؤثر في ثورة الشام، خارج حدود تأثير أبواقها الإعلامية مثل فضائية الجزيرة.

أما الثوار على الأرض، فما زالوا هم بيضة القبان، وما زالت قواهم الحاضرة ميدانياً عصية على التطويع أو التركيع، وهم إذ يعلنون أن "الشام عقر دار الإسلام" يتحدّون بذلك كل القوى الاستعمارية ومن يسبّح بحمدها من الدول الإقليمية، ولذلك لا يمكن أن يحصلوا على التسليح الفعّال من أي قوة في الأرض دون ثمن سياسي كبير، هو في حقيقته ارتماء في مستنقع العمالة، حتى لو حاولت بعض الكتائب المسلحة إخفاء نواياها، وعدم إظهار غايتها الإسلامية.

وتتصاعد وتيرة محاولات الترويض لمجموعة في الكتائب الشامية المسلحة، "وتأهيلها" سياسياً لتكون قابلة لتلقي السلاح الغربي ولطمأنة الغرب على نوعية الأيدي "الآمنة" التي يمكن أن تتسلمه (كما في مؤتمر استنبول الذي جمع قادة معارضة الفنادق مع عدد من قادة مقاتلي الخنادق (20-6-2013). وهذه المحاولات تتضمن خطورة كبيرة على الثورة، لأنها مفتاح الشر الأمريكي، وهي –إن نجحت لا قدّر الله- ستقسم الكتائب إلى صنفين، وتبذر بذور الاقتتال فيما بينها عند أول شرارة تطلقها أمريكا.

إن هذا التدافع الدولي الذي تبرز فيه التنافسات الاستعمارية على المصالح الرأسمالية، ظل منضبطا بقانون لا يظهر جليا في الإعلام، ولكنه حاضر بسفور في أروقة السياسية العالمية، وهو الاتفاق على منع ظهور قوة إسلامية تعيد الشام "عقر دار الإسلام"، كمصلحة حيوية للقوى كافة.

لذلك يتلخص المشهد في حالة من صراع الإرادات بين ثوار يريدونها إسلامية صافية خالصة يحملون مشروع الخلافة، وبين جبهة تضم كل الجهات السياسية والدولية والإقليمية التي تتفق على منع تحقق ذلك المشروع، وهي تتنافس فيما بينها على نصيب أكبر في النفوذ والمصالح.

 

وهذه الخلاصة تقود إلى حقائق لا جدال حولها:

- يخطئ –إن لم نقل يُجرم- كل من يظن أنه يمكّن أن يتمخض عن المؤتمرات الدولية والعربية وعن حوارات الفنادق أي حل يحقق للثوار غايتهم، لأنه موجود في الميادين والخنادق.

- يجرم من يقبل أن يتسلح بالسلاح الأمريكي للتخلص من العميل الأمريكي، وليس أمام الثوار إلا الاستمرار على نهج يحقق التسليح الذاتي، ورفض أي ثمن سياسي للسلاح.

- يجرم كل من يظن أن الارتماء في حضن أوروبا أخف إثما من البقاء في حضن أمريكا، لأن قبول مبدأ الاختراق هو الضربة القاضية  على كل ثورة، وليس أمام الثوار إلا الانعتاق كلياً من كل تبعية، مهما كلف ذلك من ثمن، ليبقى بريق ثورة الشام: هي لله.. هي لله.