ما الواجب على الأطباء عند ازدحام الجرحى ونقص الكوادر؟
ما الواجب على الأطباء
عند ازدحام الجرحى ونقص الكوادر؟
السؤال:
يصل إلى المستشفيات بعض الجرحى حالتهم ميؤوس منها، وموتهم قضية وقت، لشدة الإصابات والتهتكات في أعضائهم وأطرافهم، وتأخذ محاولة إسعافهم وقتًا وجهدًا كبيرًا، ويحجزون أسرَّة وأجهزة، ثم يموتون في غالب الأحيان.
ويصل أحيانا معهم أو بعدهم أشخاص إصابتهم أقل خطورة ولو توافرت لهم الجهود أو الأجهزة لأمكن إنقاذ أرواحهم أو أعضائهم من البتر .
فهل يجوز لنا إذا حضر لنا بعض هؤلاء الميؤوس منهم أن نصرف الجهد والأجهزة لمن هم أقل خطورة، أو أن ننزع عنهم الأجهزة بعد وضعها؟
__________________________________________
الجواب :
الحمد لله مُقدِّر الموت والحياة، والصلاة والسلام على رسوله الأمين الذي كانت رسالته هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور، أما بعد:
فإنَّ مداواة الجرحى، وعلاجهم، والقيام على شؤونهم واجب، لا يجوز التقصير فيه، أو التخلي عنه، إلا إن قام الدليل القاطع من أهل الاختصاص على اليأس من حياة الجريح فلا حرج عليهم في ترك علاجه، وإن تَزَاحَمَ المرضى ولم يمكن علاجهم جميعًا قُدِّم من تُرجى حياته على من يغلب على ظن أهل الاختصاص موته لشدة إصابته، على التفصيل التالي:
أولاً: الأصل أنَّ كل جريحٍ أو مصابٍ يجب علاجه، مهما كانت إصابته والضرر النازل به؛ قياماً بحقه، وحفاظاً على نفسه المعصومة من التلف، لا فرق في ذلك بين مسلم وآخر؛ إذ المسلمون متساوون في العصمة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه علي رضي الله عنه : (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ) رواه أبو داود، والنسائي.
ثانياً: إذا جزم عددٌ من الأطباء المختصين بأن الجريح ميؤوس من حياته، بسبب وفاة دماغه أو توقف قلبه وتنفسه توقفاً تاماً لا رجعة فيه، فلهم ترك علاجه والتوقف عن إعطائه الأدوية، أو سحب أجهزة الإنعاش الطبية التي تغذيه، وهذا ما قرره مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في مؤتمره الثالث عام 1407هـ /1986م.
ثالثاً: إذا غلب على ظن الأطباء المختصين أن الجريح أو المصاب لا يرجى شفاؤه أو برؤه؛ لشدة إصابته، أو مكان حدوثها، إلا أن علاجه لا يتعارض مع مصلحة أخرى أولى وأهم منها، ففي هذه الحال يلزمهم علاجه؛ عملاً بالأصل من وجوب استنقاذ النفس البشرية، ولأن إنقاذ حياته مصلحة مظنونة لا معارض لها يبرر تركها.
رابعًا: إذا وصل عددٌ من الجرحى (كما يحدث في القصف الجماعي)، وتضايقت الموارد (البشرية أو المالية أو المعدات) عن علاج الجميع وإسعافهم، فعلى الأطباء تقديم من تُخشَى وفاته وترجى حياته، ولهم أن يؤخروا من غَلَب على ظنهم اليأس من حياته؛ لأن المصلحة الراجحة تقدَّم على المصلحة المشكوك في تحصيلها، وتغليباً لما هو مرجو على ما هو ميؤوس منه.
كما لهم أن يؤخروا من كان علاجه يحتمل التأخير؛ تحقيقاً لمصلحة الجميع.
فإن اشترك الجرحى في رجاء علاجهم، قُدِّم أولهم وصولاً؛ لأنَّ من سَبَقَ إلى شيئ فهو أحق به، قال ابن نجيم –رحمه الله- في " الأشباه والنظائر": "لَا يُقَدَّمُ أَحَدٌ فِي التَّزَاحُمِ عَلَى الْحُقُوقِ إلَّا بِمُرَجِّحٍ، وَمِنْهُ: السَّبْقُ".
خامساً: إذا باشر الأطباء علاج من لا يرجى شفاؤه وبرؤه فيما يغلب على ظنهم، ثم جاءهم من يرجون شفاءه إذا عالجوه، ويخشون موته إن تأخروا عن علاجه، ولا قدرة لهم على علاج الجميع، فيتركون المريض الأول ويعالجون الثاني تغليباً للمصلحة الراجحة؛ إذ نجاة الثاني بالمبادرة إلى علاجه مصلحة محققة أو غالبة، ونجاة الأول مصلحة متوهمة أو مرجوحة، والقاعدة الشرعية تقول: إذا تعارضت مصلحتان قدمت أرجاهما أو أعظمها.
وإذا تزاحمت الحقوق ، فإنه يُقدَّم منها ما يمكن تداركه على ما لا يمكن تداركه.
ولا يُقال هنا إن ترك علاج الأول سبَّبَ وفاته؛ لأن ترك العلاج لم يكن تهاوناً وتفريطاً، بل لوجود مصلحة معارضة هي أرجح منها .
سادساً: ينبغي ألا ينفرد في الحكم باليأس من حياة المريض -بموت دماغه أو توقف تنفسه أو غلبة الظن بعدم البرء- طبيب واحد، بل يكون ذلك موكولاً للجنة من الأطباء ما أمكن، وذلك بعد النظر في حالة المريض ودراستها.
سابعاً: ما جاءت هذه التساؤلات إلا من حاجة ميدانية ملحة، وهذا يوجب على جميع المسلمين، -وخاصة التجار والموسرين- الإنفاق في تجهيز المستشفيات الميدانية وغير الميدانية بالمعدات اللازمة، كما يوجب أيضا على الأطباء أن ينفروا ولو بعضًا من أيام وشهور العام لتحقيق الواجب الشرعي في علاج جرحى المجاهدين وعامة المسلمين، قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].
وأخيرًا:
فإنَّ عمل الأطباء في ذلك هو من الجهاد في سبيل الله تعالى، ونرجو لهم بذلك الأجر العظيم من الله تعالى، فنوصيهم بالصبر والمصابرة، واحتساب الأجر ، وهم في ظل هذه الظروف من القصف والحصار، والضغوط الشديدة، مجتهدون، لا وزر عليهم إن أخطؤوا الاجتهاد بعد بذل الوسع.
نسأل الله سبحانه أن يرفع عن شامنا الحبيب الكرب وأن يشفيَ جرحانا، وأن ينصرنا على أعدائنا، وأن يبُرم للشام وأهله أمراً رشداً، يُعزُّ فيه أهل الطاعة، ويُذلُّ فيه أهل المعصية، والحمد لله رب العالمين