حلايب وشلاتين..
الطيب عبد الرازق النقر
الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
لعل من العبث أن نقيم الدليل على سمو وتفرد مصر العربية التي لا ينبغي لأحد أن يجحد فضلها، أو يغمط بِرّها، فلها في أعناق العُربِ قلائد لا يفكها تعاقب الحدثان، فهي موئل الفكر والثقافة، وراعية الأدب والفنون، فكل متفنن مجيد فشا ذكره على الألسنة وقرع صيته الأسماع، استقى من ينبوعها الزاخر، فمصر هي القريحة الجياشة والعقل المُلهِم والقلم الناصع والرحيق العذب الذي يتجدد أريجه كل حين، هي الريادة التي لا تتنافر الآراء حيال عبقريتها، أو تتناكر الأهواء حول ألمعيتها، هي أسرار الوجود التي أضفى العالم بأسره حُلل الثناء عليها.
إن مصر التي تقمصت لباس العز، وتفرّعت ذُرْوة المعالي، تجمعها بالسودان آصِية رحم، ونسب شابك، أواصر قربى أقرّها النيل الخالد الذي لم يعرف شكلاً من أشكال الجمود، أو تطف به سمة من سمات الهمود، بل ظلّ كما عهده الثرى المجهود يُجزل لنا سوابغ النعم، ويجدد لنا نوابغ القِسم، إلا أن هذه العلاقة الوثيقة العرى شابها الكثير من الأزمات، وأحاطت بها المُلِمات، فالصلات الواشجة والتاريخ المشترك واللغة السامية التي يتحدث بها شطرا الوادي أمست تعاني من رزء حلايب وشلاتين الفادح، ولعل الحقيقة التي لا يخالجني فيها شك، أو تنتابني فيها مرية، أن الشعب السوداني الذي أغضى على القذى، وسكن على الأذى، مقرُّ أُنسه، ومجمع حبوره، وقُلادة ابتهاجه، أن تعود حلايب وشلاتين إلى من تلهبت غُلتهم، وتسعرت أحشاؤهم، تعود إلى من طرقتهم الهموم وتضيفتهم الغموم، تعود إلى من تكدمتهم المضارب وتكهمتهم المخالب وتنهشتهم الأظفار، تعود تلك الديار إلى من صعد شواهق الحُلم وتسلق شوامخ الصبر وعلا هضاب الوفاء، تعود إلى السودان الذي أسلى من الهم ووحد الصف وجمع الكلمة، ولكن مهلاً إن التراب الذي حواه الخليل الصفي والعون الظهير والردء النصير ولجّ به امتناعه عن إعادته لأسياده الذين حازوه منذ حقب طوال، لن يعود بطلائع الأمنيات وجموح الأهواء وطغيان الأحاسيس، بل يعود بإقامة الشواهد على صحة إدعائنا، فنحن نزعم أن حلايب التي أخذ الشيب بناصيتها وأدركها الهرم، ظلت طوال حياتها الممتدة تُكن للسودان وداً خالصاً وعشقاً صردا، لأنها جزء أصيل منه، وقل مثل هذا في كل الأراضي السودانية التي شمخ فيها الشقيق بأنفه، لن نتخلى أبداً عن هذه البقاع وإن زاد أهل السيادة صراخنا بالفتور والإهمال، لأن لها عندنا ذمة لا تضاع وعهد لا يخفر.
سوف تعود هذه الأمصار الغالية إلى السودان حتماً ولكن ليس باحتدام الهيحاء وإذكاء نيران الوغى، فلا يسرنا أن يتلاحى البلدان، تعود حلايب الغالية وشلاتين العزيزة إذا ضجّ إعلامنا الصخّاب بالشكوى والتذمر، وحرك لسانه السليط بالإنكار والدهشة، دون أن يبسط لسانه بأذى تجاه الشقيقة الكبرى، أو يطوي صدره عليها بضغينة، تعود حلايب وشلاتين إذا كانت ذكراها تتأود كالغصن المياس في قنواتنا الغافلة، فما الذي يمنع أن نقدم للعالم صوراً من البيان الوهاج عن تبعية هذه المناطق للسودان دون أن نلجأ للإكثار من عرضها في ذلك الشريط الضيق الذي يصف درجات الحرارة كما تفعل فضائيات مصر، فكل شيء فيهما يدفعك دفعاً لأن تقر في إذعان وتسليم بأنهما يمتان لجنوب الوادي بصلة ويصلان إليه بسبب، فذلك الرجل الأسود الذي يدب في حواشيها والذي يطفح وجهه بشراً سوداني محض، وينبئك عن هذا أريحيته وكرمه وزيه وكلامه، نعم كل شيء في حلايب وشلاتين يبعث على أن تكون بعيداً عن معترك الشكوك، وبمعزل عن مواطن الظنون، فالبينات الواضحة من أدلة التاريخ والسير والحجج الدامغة من شواهد الطبع والعقل، تقيم الدليل على صحة زعمنا الذي شيدناه على قواعد من الصدق والصراحة، إذن حتى يعود ثغرنا يفتر بالابتسام ويومض محيا البشاري بالوئام، يجب أن تسيطر معضلة حلايب وشلاتين على القلوب وتهيمن على الضمائر، نعم لا ينبغي أن تسكن الحركات أو تخشع الأصوات التي تحتكم لمبادئ العزة وتستضيء بنبراس الكرامة، فبعد أن وقفنا على حواف الخصام مع الشقيقة مصر التي تهيمن على حلايب وشلاتين منذ محاولة اغتيال الرئيس المصري المخلوع مبارك في العاصمة الإثيوبية، دعونا نطلب من حكومتنا التي تغرد فوق أفنان الجمال، أن تكف عن إرسال ألحانها الشجية التي تصدر عن قيثارتها، وتتأهب لأن تكون أندى الخصماء صوتاً وأفحمهم حجة وأصقلهم خاطر، في المنظمات الدولية التي تفصل في قضايا النزاع، فلم يبق في قوس الصبر منزع.