شهود زور على بحور الدماء السورية

شهود زور على بحور الدماء السورية

فادي شامية

لقد بات واضحاً اليوم أن "حزب الله" يقاتل في سوريا، ليس في محافظة حمص وحسب، وإنما في دمشق وريفها وعلى مساحة الجغرافيا السورية. المواطن البسيط في لبنان يعرف هذه الحقيقة. المسؤولون كافة يعلمون أيضاً. اللاجئون السوريون يروون قصصاً كثيرة حول الأمر، والنعوش الآتية من سوريا، والمشاهد المنشورة في وسائل الإعلام تصدق ذلك كله.

في 11/10/2012 أقر أمين عام "حزب الله" بشطر من هذه الحقيقة – بصيغة مخففة- بقوله: "هؤلاء – الذين في ريف القصير- لبنانيون منذ أكثر من 150 سنة... وبينهم متفرغون في الحزب... وقد قرروا الدفاع عن أنفسهم وعن أرواحهم وعن أعراضهم وعن أملاكهم".

والواقع أن نصر الله لم يكن قادراً على مزيد من التجاهل أو النفي بعد مقتل وتشييع أحد مسؤولي الحزب في البقاع حسين ناصيف المعروف بأبي العباس (30/9/2012)، فأقر بشيء من الحقيقة، مع أن في ذلك إحراجاً له ولقيادات كثيرة في الحزب؛ ظلت تنفي أي مشاركة قتالية في سوريا؛ أياماً قليلة قبل التاريخ المذكور.

اليوم، ومع اعتراف "حزب الله" علناً بالمشاركة في القتال في سوريا في منطقتين على الأقل: ريف القصير "دفاعاً عن اللبنانيين الشيعة في مواجهة التكفيريين"، ودمشق وريفها "دفاعاً عن المقامات الشيعية هناك"؛ يبدو أن كل نفي صدر قبل ذلك عن مشاركة الحزب القتالية لم يكن إلا شهادة زور حول بحر الدماء السورية.

والحقيقة أن تورط الحزب في الدم السوري كان واقعاً ملموساً منذ الأيام الأولى للثورة؛ وعلى أقل تقدير منذ أن تحولت الثورة عن طابعها السلمي الذي حافظت عليه أشهراً قبل أن يبدأ حمل السلاح. منذ ذلك الحين وحتى الأمس القريب صدرت مواقف لا تكاد تحصى؛ تنفي كلها هذه الحقيقة.

نصر الله ينفي طويلا قبل أن يقر

قبل الإقرار الأول من قبل نصر الله بالتورط بالدم السوري (11/10/2012)، وقبل التبني اللاحق للمقاتلين الأحياء والأموات، عبر القول: "من حق هؤلاء أن يدافعوا عن أنفسهم وعن ممتلكاتهم وعن وجودهم، وهذا عليه إجماع العقلاء، ومن قُتل في هذا السبيل فهو شهيد"، فقد كانت مواقف نصر الله ترسم سقفاً من الإنكار التزمت به قيادات الحزب كلها (27/2/2013).

وللتذكير فقد استهزأ نصر الله في 7/2/2012 بالاتهامات الموجهة لحزبه بالتورط بالدم السوري، قائلاً: "فليدلنا أحد على هذه الجثث (التي سقطت في المعارك)" وذلك في الخطاب نفسه الذي قال فيه: "بعد التدقيق تبين أن لا شيء في حمص" في الوقت الذي كانت فيه دماء أهلها لم تجف بعد من المجزرة المريعة التي ارتكبت فيها (ليل 4/2/2013) وذهب ضحيتها 217 سورياً غالبيتهم الساحقة من حي الخالدية.

في 16/2/2012 نقل نصر الله الاتهامات الموجهة إلى حزبه نحو خصومه فقال: "لماذا لا تقفون على الحياد؟ هذه المشاركة الميدانية ألن تترك أثرها على العلاقات بين البلدين؟!". أما في 3/1/2013 فعاد إلى سياسة الإنكار بقوله: "هناك منهجان حيال الأزمة السورية؛ الأول تجنب التدخل والآخر نقل المعركة إلى لبنان. النظام ليس بحاجة لا إلينا ولا إلى أحد أن يقاتل إلى جانبه، وذلك ليس من مصلحته، ونحن لم نأخذ بعد هكذا قرار وهذا غير موجود حتى هذه اللحظة... من اليوم الأول هناك أطراف في المعارضة السورية يتحدثون عن إرسالنا مقاتلين على سوريا وهذا كذب ولا يزال كذبا"!.

الشيخ قاسم: تأصيل للتزوير

وإذا كانت مراجعة مواقف رأس الهرم في "حزب الله" تظهر شيئاً من الاضطراب، وكثيراً من فقدان المصداقية، فإن متابعة أقوال نائبه الشيخ نعيم قاسم تظهر إمعاناً كبيراً في تزوير الحقائق.

في 15/4/2012 لفت قاسم إلى "وجود محاولات اليوم في لبنان لإثارة قضايا هامشية كوجود مقاتلين للحزب في سوريا"، مؤكداً أن "سوريا لا تحتاج إلى عناصر أو قوات من حزب الله فلديها شعب وإدارة قويين، وكل ما يقولونه ليس صحيحاً"!

وفي 6/10/2012 قال قاسم: "إن حزب الله حريص على عدم زجّ لبنان في الأزمة، فهو يحتاج لأن يكون بعيداً، من أن يكون منصة ضد سوريا"، آسفاً لسياسة "تيّار المستقبل" التي تقوم على "إيواء المسلحين في لبنان، وتسهيل تهريب السلاح من لبنان إلى سوريا، ودفع الأموال للمسلحين هناك"! لكن قاسم عاد ليقول في 12/3/2013: "إن حزب الله لا يخفي وقوفه إلى جانب الرئيس السوري، لكنه لا يتدخل في سوريا"!.

في 10/3/2013 قدّم قاسم مطالعة عجيبة (حوار مع صحيفة الأنباء الكويتية)، قال فيها: "إن ما رأيناه في سورية أن الاعتراض على أخطاء نظام وعلى منعه لبعض الحقوق للناس، تحوّل بشكل سريع جداً وخلال الأيام الأولى إلى عمل عسكري في مواجهة النظام مدعوم بهذه المنظومة الدولية"، شاطباً بذلك وقائع لا تكاد تُحصى عن سلمية الثورة السورية، وخذلانها من العالم أشهراً طويلة قبل أن تتحول إلى ثورة مسلحة.

أضاف قاسم: "موقف حزب الله منطلق من مساندة النظام السوري كجزء من الموقع المقاوم... وقد رأينا عودة للسوريين في الأيام الأخيرة بسبب اطمئنانهم إلى أن أماكن سكنهم مأمونة"!، ورغم أن ذلك كله لا يشبه الحقيقة، فإن التزوير الكامل تمثل بقوله: "هؤلاء تعرضوا في منطقة القصير ومحيطها إلى هجمات وضغوطات غير عادية... عندها وجدنا من واجبنا كحزب الله أن نساعد هؤلاء لكي يحموا قراهم وبلداتهم، كي يبقوا فيها من ناحية، وكي لا يهجروا إلى لبنان من ناحية أخرى. هذا استلزم أن نساعدهم بالتدريب والتسليح والمساعدة، وهذا ما فعلناه وأعلناه أمام الرأي العام، ونحن لا نعتبر أن هذا الأمر تدخل في الشأن السوري"، وفي ذلك تحريف في موضوعين على الأقل؛ قلب الأدوار بين الضحية والجلاد في القصير، والتخفي وراء عائلات لبنانية يقول إنها تقاتل هناك، مع أن مواكب التشييع تجري في لبنان.

"حزب الله لم ولن يقاتل في سويا"!!

ما يسري على نصر الله وقاسم يسري أيضاً على قادة آخرين في الحزب. وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ نائب رئيس المجلس التنفيذي للحزب الشيخ نبيل قاووق، الذي أعلن بحزم ووضوح في 28/5/2012 أن "حزب الله لم ولن يقاتل في سوريا"، وهو نفسه عاد ليقول في 15/10/2012 "إن التورط في هذا الأمر خطير، وأخطر ما فيه أن الفرقاء في 14 آذار تورطوا بدماء الشعب السوري"!، لكن قاووق- وخلافاً لمواقفه السابقة كلها- قال في 22/4/2013، في ذكرى أسبوع على مقتل أحد عناصر الحزب في سوريا (عباس ريحان): " إن شهداء حزب الله (في سوريا) هم شهداء كل الوطن لأنهم كانوا يدافعون عن أهلهم اللبنانيين... كل لبناني يستشهد في الدفاع عن أهله اللبنانيين هو شهيد كل لبنان وشهيد كل الوطن... يجب الكف عن الإساءة لهؤلاء الشهداء الذين هم شهداء كل الوطن"!

ما يثير العجب أيضاً موقف أصدره النائب عن "حزب الله" علي فياض في 18/4/2012 دعا فيه الدولة للتحرك ضد سياسيين وصحافيين دعوا إلى تسليح الداخل السوري، معتبراً أن "عدم تحرّك الحكومة يطيح بأهم مرتكزات اتفاق الطائف". بذلك اعتبر فياض الدعوة للتسليح أو التسليح الفعلي للثوار- إن صح- إطاحة باتفاق الطائف، ما يعني أن القتال الفعلي – الذي يقوم به "حزب الله" راهناً- هو نسف – من باب أوْلى- لاتفاق الطائف.

على النهج ذاته سار نواب آخرون عن الحزب. محمد فنيش –على سبيل المثال- لم يخجل في القول "إن حزب الله لا يتدخل بأي شأن داخلي سوري مهما قيل من اتهامات وافتراءات" (6/10/2012)، وذلك بعد أسبوع واحد فقط على تشييع الحزب للقائد حسين ناصيف في بعلبك. كما لم يخجل من قبله مسؤول العلاقات الدولية في الحزب عمار الموسوي من مهاجمة "بعض القوى المحلية التي تصر على زجّ لبنان في قلب الأزمة، من خلال إيواء المقاتلين، وتوريد المال والسلاح إلى داخل سورية، وهذا من شأنه أن ينعكس على الاستقرار، وأن يشكل تهديداً جدياً للأمن في لبنان"!.

الطريف وسط هذا المشهد المكرب؛ إصرار وزير خارجية لبنان على نفي التهم عن "حزب الله"، رغم إقرار الحزب نفسه، وتشييعه العشرات من قتلاه في لبنان. عدنان منصور بهدوء عجيب قال في 27-2-2013: "لا صحة لما يتم تداوله عن وجود مقاتلين لحزب الله داخل سوريا. هناك قرى لبنانية وسكانها لبنانيون موجودون داخل الأراضي السورية، وما حصل هو دفاع عن النفس من قبل هؤلاء"!

بعض من في "حزب الله" وحلفائه يحاول استغباء الناس إلى اليوم؛ بزعم أن الحزب بريء مما يتهمونه به وأنه "يصبر على الأذى" وأنه "لا يقاتل بسوريا"، فيما مسيرات التشييع تمر في شوارع، وأزقة، ومن بيوت اللبنانيين! أليس هؤلاء هم شهود الزور على المجزرة السورية الكبرى أمام محكمة الرأي العام؟!.