صور من واقع الحياة

صور من واقع الحياة

سليمان عبد الله حمد

[email protected]

تلك بعض الصور التي تربيت فينا بحيث خلقت  من تشتت العلاقات الاجتماعية في مجتمع القرية الجميل وقطع أواصر الصلات الطبية التى تمدد  عبر  الزمن الماضي لتصل إلى  سماء نهر النيل المتدفق عبر السنين والذى يتدفق عبر السنوات والأعوام  لا كبر ... !!! ولا شاب !!! ... فهل من يبدل تلك الصور التي فيها كثيراً من ظلال الأمس البغيد بصور أكثر جمالاً لتصبح الحياة أكثر إشراقاً ...

قرر الذهاب الي القرية لأول مرة بعد شد وجذب ورفض وتعنت من جانب أهله، وذلك للقيام بواجب العزاء في وفاة إحدي قريباته، وسبب الرفض هو ذلك النزاع والصراع المستحكم الذي وصل الي المحاكم واستقر بين اروقتها لعدد من العقود، كأن واجب المحاكم هو إستلام القضايا وليس حلها!

وكان ذلك الخصام بين اسرته واقربائه في القرية بسبب الميراث، وهو ميراث لم يجتهدوا في تحصيله ولم يترفقوا في اقتسامه بعدالة او يبدعو في المحافظة عليه وتطويره، ولم يتعظوا لأسر كثيرة اودي بها مثل هذا الصراع الي التهلكة والصراع والتفتت والضياع وقطع صلة الرحم، مع انهم يبللون مناديلهم بالدموع كل خطبة عيد يتحدث فيها الإمام عن واجب صلة الرحم وعقوبة من ينتهكها او يقطعها، وأهمية العفو والتسامح وسموا فضلية من يتصف بهما، كأن حديث الإمام نسمة لطيفة لا تقوي علي مقاومة هجير الغفلة و الجفا والتكبر والعناد والكرامة المزعومة. وبعد ان جهز اموره توكل علي الله وذهب الي سوق مدينته الصغيرة التي انقطع عنها عدة سنوات كدحا وراء المعايش وتدبير ما يعينه واسرته علي البقاء، بعد ان جف ضرع مدينته وضربها وباء الفقر واستوطنتها الحاجة واستولي عليها الخراب وفرض مزاجه وقوانينه علي الجميع ما عدا معاونيه ورسله الذين يخلصون في تبليغ رسالته النبيلة!

وعندما وصل اليه وقبل ان يسأل عن مواصلات القرية شعر بالخجل كيف لا يعرف مكان مواصلات قرية إقربائه؟ ناهيك عن مواصلتهم وزيارتهم! فطرد ذلك الشعور سريعا وتقدم نحو إمرأة في منتصف العمر وتبدو عليها ملامح من يفقد السند ويكافح من أجل تسير دفة الحياة العاطلة، وتضع أمامها ادوات الشاي كفعل وحيد تتقن إنجازه في ظل غياب الفرص لإختبارات أخري! والزبائن حولها ملتفون ويتجاذبون اطراف الحديث وتبدو عليهم ملامح القرية من شكل ملابسهم ولهجتهم، وسأل المرأة عن مواصلات القرية فأشارت اليه أن يسأل ذاك الشخص صاحب الشنب الكبير، الذي يغطي نصف وجهه ويشكل نصف دائرة أعلي فمه كأنه غابة كثيفة تحيط بغدير للمياه، وتبدو عليه ملامح الثقة بالنفس وغالبا هو من يدفع ثمن هذه المشاريب لبقية رفقائه فمثل هولاء لا يخفون، فسأله بتحفظ بالغ مواصلات القرية وين؟ فرد عليه انشأ الله خير!

واخبره الرجل صاحب الشنب الكبير بعد ان إطمأن لوجهته ان مواصلات القرية بعد صيدلية الصلات الطيبة وأمام سلسلة محلات ود عماري للكيف الإسلامي لصاحبها إحسان تكويشة رجل البر المعروف! ويقال انه بني ثلاثة جوامع من ماله الخاص في بلاد يموت نصف سكانها من المرض والنصف الآخر هداه الجوع، ويفضح الخريف سترة مدارسها وبيوت اهاليها وتهالك شوارعها، ويقول البعض انه إستخرج التصاديق لاستجلاب مواد البناء مجانا! وتحدث آخرون عن إعفائه من دفع الضرائب والزكاة! علما بان هنالك الجامع العتيق الذي يسع الجميع، ولأحظ ان الكثيرين يتحدثوا عنه بتعظيم وإهتمام، فشعر بوخذة ضمير وأسف حقيقي وهو يشاهد إهتزاز سلم القيم في مدينته كأنها ضربها زلزال رج عقول وقلوب مواطنيها واصابها بالطشاش والعمي واغطش بصرهم وران علي نفوسهم!؟ وهو يري ذلك الإهتمام الزائد والمتكلف والتعظيم المجاني واسباق صفات الذكاء والموهبة والرشاقة علي إحسان تكويشة، علي الرغم من ملامح البلاهة والترهل التي تظهر علي صورته في واجهة المحلات! وذلك الازدرء والمهانة وعدم الإهتمام الذي يمنح بسخاء لشخص في قامة عوض منفلة، الميكانيكي الماهر واكثر اهل البلد همة ونشاط ومشاركة وكرم وضكارة، وكل ذلك بسبب أصله المجهول لأنه وجد صغيرا مرمي امام مستشفي الرحمة بالمدينة، وانكرته كل المدينة الشريفة كأنه سقط من السماء، وقد كانت السماء رحيمة بالمدينة بارساله لها بغض النظر عن الطريقة!!؟ وقد اخذه وتبناه عم الخير صاحب ورشة الميكانيكا وتربي مع زوجته الطيبة سكينة خاصة وانهما لم يرزقا بابن، كأن الله ارسله اليهم فلم يقصرا في حقه وقد كان كما توقعا حسن الظن به، فقد راعهما كبارا كأحسن ما تكون الرعاية حتي فارقا الحياة وهما راضيان عنه وعن نفسيهما، وهو لم يتزوج وفي الحقيقة لم تقبل به بنت او أسرة! ولكنه لم يحمل غبنا في نفسه تجاه احد، فقد كان يقول صادقا ان جميع بنات الحلة اخواته واهلها اهله وصغارها ابنائها وقد كان نعم الاب لهم جميعا خصوصا الضعفاء، بل للحلة كلها فقد كانت ورشته وبيته وقلبه وعقله مفتوحات للجميع في كل الأوقات ونيته وصبره ويده مبسوطات علي الدوام، كأنه سبيل متاح للجميع من غير بطاقة او هوية. وأخيرا وصل الي المكان المحدد ووجد مواصلات القرية وهي حافلات صغيرة وجيدة نوعا ما فشعر بنوع من الاطمئنان، وسأل عن سعر التذكرة ومواعيد القيام، ووجد هنالك متسع من الوقت، ولتقليل الملل قام بجولة صغيرة في سوق المدينة بعد طول غياب، وشعر ببعض التغيرات، ولكنها في الغالب تغيرات في الألوان الخارجية وبعض البهارج والزينة ولكن الأبواب والمحلات في نفس ضيقها وهي تغيرات تعطي انطباع او تعكس صور كاريكاتورية لحجم مفارقاتها! خاصة بعد تبدل نوعية التجار وشكل البضائع وطريقة عرضها، ولكن اكثر ما آلمه هو تلك النزعة الاستهلاكية والجشع والغش الذي وجده خلال هذه المسحة العابرة، كأنهم جراد أتي علي كل قيم الصدق والامانة والتكافل التي كانت تظلل هذه المدينة في وقت مضي، وكان يعتقد ان مدينته وأهله بمنجاة من ذلك، فلابد ان هذه التغييرات هي افراز لسياسات النظام في المدينة الكبيرة! ألا تتطبع المجتمعات بطبائع حكامها وتقتدي بهم في ممارساتها وطبيعة عيشها!

وفجأة تذكر موضوع الرحلة فقطع حبل خواطره وقفل راجعا سريعا وشعر ان جسمه يتصبب عرقا، كأن حبيبات العرق تثور وتتمرد علي الجسم الذي يحاصرها، كثوار غاضبون سئموا حياة الذل والمهانة فانفجروا استجابة لنداء الحرية ودوزنة مع إيقاع الكرامة الذي يغطي كل الفضاء، وعند وصوله الي موقف الحافلات وجد حافلته علي وشك المغادرة وقد إمتلأت، فافسحوا له مجال ليصل الي مقعده في آخر الحافلة، فارتمي عليه بإهمال واسند ظهره الي الخلف وحاول ان يمد رجليه بصعوبة للحصول علي اكبر قدر من الراحة لتخفف عنه عناء الرحلة وهو من يكره المواصلات والسفر والرحلات! وتحركت الحافلة وحمد الله علي ذلك وقبل ان يهنأ بحمده بدأت الحافلة سلسلة طويلة من التوقفات الجانبية لشراء بعض الأغراض كتكاليف لابد من إنجازها من جانب السواق لبعض سكان القرية الذين لم تسمح لهم ظروفهم او انشغالهم بالحضور الي السوق، وفي النهاية إنلطقت الحافلة في طريق طويل، وبدأ السواق في ممارسة هوايته المفضلة، لعبة المخاطرة وهو يتخطي الآخرين بتلذذ وتشجيع من بعض الركاب، وهي لعبة ثمنها الموت او العجز الكلي او الجزئي، ولكن كل ذلك لا يردعه عن ممارسة تلك الهواية القاتله! فقال لنفسه ما أرخص الحياة في القرية! وترك نفسه لهواجسها وخواطرها كيف سيستقبلونه؟ وهل سيعرفونه؟ وهل سيقتنعون بان الغرض من الزيارة هو واجب العزاء فقط؟ وفي هذه الأثناء بدأ صوت مغني يعرفه تماما يطرق اذنيه، ويا للعجب!! نفس الأغنية التي تثير لواعجه وأشجانه وذكرياته المريرة! يالله اتري ان هنالك اتفاق بين الشاعر والفنان والسواق علي التربص به ونبش الماضي وتجديد احزان السنين والإصرار علي إعادته لأيام ظن انه نساها! وشعر في تلك اللحظة انه ابنا للمآسي والضياع وان نبالهما ستدركه في اي مكان! وفجأة انتبه لوجود امرأة بجانبه فردد في سره أمنيته القديمة المتجددة ما أجمل النساء إذا ما إقتدينا بالسرة بت عوض الكريم! فحاول ان يتبادل معها الحديث كسرا لروتينية الرحلة ولكي تتعمق معرفته بأجواء القرية، وسألها بتهذيب شديد محاولا بقدر الإمكان إخفاء لهجته وان يقترب من لهجتها! كيف الحال؟ ولكنها فاجأته بعدم الرد والبرود والإنزعاج من هذا الفضول! فارتد حاسرا وهو كسيف ويشعر بمرارة هذا الصدود الغير متوقع من جانبه! وزاد ذلك الموقف من مخاوفه وهو اساسا ما ناقص رعب! وتنبه الي انه مختلف عن الآخرين داخل الحافلة، شكل اللبس والتسريحة واللهجة وعموما ملامحه تدل علي انه ابن مدينة وهو لديهم مصدر شكك وإستعلاء وإستهزاء!! كل ذلك توارد الي خاطره في تلك اللحظ او هي محاولة لايجاد العذر لمن تجلس بجواره او قد يكون نوع من الغرور الداخلي الذي يصور له انه لا يمكن ان يصد او يرفض! ومضت الحافلة تنهب الطريق وحولها كثبان الرملة تمتد الي ما لا نهاية، لابد انها تحمل في جوفها أطنان من الذهب وآلاف من الأكفان! ووسط هذا المحيط من الرمال تنتشر القليل من المباني ونقاط التفتيش القائمة في وسط الصحراء! وهو يظنها قد اكسبت أهلها هذه الجفوة والصرامة والقسوة في التعامل، وتساءل كعادته في هذه الرحلة المترعة بالتساؤلات؟ ما أهمية نقاط التفتيش وتفتش عن ماذا داخل البلد؟ وتذكر قول صديقه عن ولع السلطة المغتصبة بالتفتيش كحالة من التطمين النفسي لظنونها ومخاوفها التي تسيطر عليها كمرتكب المعصية، لذلك فهي لأ تثق بالظاهر او النور وتبحث عن المخفي والظلام حيث تختبئ وسط جرائمها، لذلك تلجأ للتفتيش داخل قلوب شعبها وتقسمهم الي فريقين أحدهما مظلم ومتخم ومتبلد مرضي عنه والآخر شفاف ومنهك وعنيد ومغضوب عليه وقد وضعت كل إمكانتها الإقتصادية والأمنية للفصل بين الطرفين! ولكنه لاحظ انهم يحرصون كل الحرص علي تحصيل الأموال! كمن يؤدي واجبه المقدس الذي خلق من اجله! خاصة من جانب رجل الحركة او بطل المرور الذي لا يقهر ويثير الفزع في قلوب السواقين كقط شرس يتربص بفئران مذعورة! وقد انتبه لمشادة بين رجل المرور والسواق وذلك ليس بسبب السرعة الزائدة وهو محق في ذلك، وليس بسبب خلل في العربه وهو بالتاكيد موجود لو دقق فيها مقارنة بشروطهم التعجيزية! ولكن السبب للعجب ان شكل السواق لا يعجبه!! مما يسبب الضيق لمزاجه وللركاب! كأنهم اشتكوا من هذا السبب العجيب! وبعد دفع المعلوم مضاعفا تحركت الحافلة وانقسم ركاب الحافلة بين قلة مؤيدة لرجل المرور بأعذار واهية وعبيطة وعبثية وأكثرية كانت متضامنة مع السواق وحقه الواضح! وكالت التهمم والسباب والرفض لطغيان رجل المرور! ولكن للأسف كل تلك الاحتجاجات والثورة كانت داخل الحافلة وبعيدا عن رجل المرور ولا يسمعها سوي ذرات الرمل التي لم تغير وقعها منذ ملايين السنين! ومضت حافلته وظن لبرهة انها تمضي في طريق لا حد له كطريق شعبه مع العذاب والمحن والخذلان! وحاول مرة أخري كامتداد لطبعه العنيد أن يبادل جارته اطراف الحديث، محاولا ان يحكي لها عن اخته، ولكنها شاحت بوجهها مرة أخري بطريقة اكثر عنفا، اكدت له ان الموضوع اكبر من مسألة رفض لابن مدينة وذلك عندما لاحظ ان من يجلس امامها هو شقيقها ويحمل ايضا شنبا كبيرا كأنما هذه القرية تقيم مهرجانا دولي للأشناب الكبيرة وهو احتمال رمز للرجولة في هذه القرية، لذلك قدر ان مصدر هذا الصدود هو مزيد من الخوف و الإحترام لاخيها وهو بالتأكيد من يوفر لها الحماية والرعاية! لذا فيجب إحترامه وإظهار أعلي درجة من الإنضباط السلوكي! وليس اقلها بالطبع عدم التحدث مع الغريب ذو النيات السيئة والمآرب الخفية المرسلة مع كلامه الناعم المذيب للقلوب، فحدثته نفسه كيف يكون الحال لو اخبرهم انه ذاهب لعزاء زميلته اوصديقته يا للهول!! فسرح لبرهة متذكرا قول صديقه الذي يظنه اصبح يشاركه عقله هذا اذا لم يحتله كله، فتذكر كلام صديقه عن تحرر المرأة وحاجتها للتعليم والإستقلال الاقتصادي والوعي ودورهم في تفجير كل طاقاتها وتخليصها من هواجسها وإهتماماتها الشكلية والحصرية ككائن مخلوق للإنجاب والسرير وملحقاته من حنة ودلكة وكريمات! وتذكر قول صديقه ايضا في لحظة يأس بأن ما يحملانه من أحلام العدالة الإجتماعية والمشاركة وتعظيم الإنتاج وحق المواطنة، مجرد عملة غير مبرئة للذمة في زمن البنوك الدولية وطوفان الحياة الإستهلاكية وعوالم النيولبرالية او كما يسميها صديقه! ولكن ما جدوي الحياة دون احلام وآمال تملك طاقات تعين علي مواجهة الواقع بكل قبحه وتطمئن علي التحكم في المستقبل او علي الأقل تقف حائط صد ضد منبع اليأس والإستسلام وهذا لوحده يكفيها ويبرر وجودها! لايدري لماذا في هذه الاثناء تذكر المرحوم حميد وقصيدته ست الدار وشعر بنوع من الأسي يعتصر قلبه! وفجأة تنبه الي إلتفاتة مباغتة من جارته فشعر بشئ من الحرج! وتساءل ايكون صوت حديثه مع نفسه ارتفع؟ او تري الروح الطيبة لحميد قد فاضت في تلك اللحظة فاغرقت الجميع بطيب شذاها وذكراها العطرة وهي روح خلقت ليستوطنها الجميع ويقيم فيها بغير حساب! ياالله ما اصعب الحياة وأصعب اسئلتها وما ابعد إجابتها المعلقة علي عنق الزمان! وعندما سأل وعرف انه اقترب من القرية حاول ان يطرد الافكار السوداء ويستدعي التفاؤل ولو قسريا حتي يشكل له مدخلا حسنا، وما يطمئنه اكثر انه جاء لغرض العزاء صادقا وليس طمعا في ميراث او حق مغتصب كما يقول اهله، وبعد ان اوصله السائق لمكان العزاء ودعه شاكرا ولكن السائق لم ينتظر شكره فقد إنطلق مسرعا ليقضي بقية مشاويره ويخلد الي الراحة. ودخل الي مكان العزاء متوجسا ولكن تبدد ذلك الخوف عندما إستقبله اقربائه اهل العزاء بصورة جيدة غيرت تماما تلك الصورة المسبقة عنهم، خاصة بعد ان جالسهم لدرجة اذابت كثيرا من سوء الفهم والعتاب واللوم! ولكن ما لا ينساه في تلك الأيام البسيطة التي قضاها في القرية هو ذلك الشعور المتناقض من ابناء القرية عموما وهي مشاعر تحمل الإعجاب والخوف منه! والإطمئنان لقريتهم وفي نفس الوقت الرفض والشعور بالنقص تجاهه! اما هو فقد عاش ايام كأنه عاد الي حضن امه بعد غيبة وغربة طويلة! ولكن في قلب هذا الإحساس تفجرت رغبة أكيدة لا تقاوم بالمغادرة والرحيل!

زمن وأحن ومحن فيها كثير من ظلال الشك والرغبة في عدم العودة إلى ذاك المكان والزمان .. فلا بد من الرحيل والعودة من حيث اتيت !!! ناساً يا هاجري تلك الأمنيات الجميلة ...