في مشفى الأمراضِ العقليةِ في حلبَ
في مشفى الأمراضِ العقليةِ في حلبَ
البراء كحيل
هناكَ فيْ مشفى الأمراضِ العقليةِ فيْ حلبَ طوى شطراً منْ حياتِهِ قبْلَ أنْ ينحدرَ إلى مغربِهِ ذلكَ الكوكبُ الفخمُ الذي خفقَ في سماءِ العالمِ لحظةً , ثمّ اختفى . بعدَ أنْ نشبَ بهِ ظفرٌ جارحٌ منْ أظفارِ الدهرِ فَجرحَ قلبهُ جرحاً دامياً فكانَ عنوانُ حياتهِ :
إنَّ حظيَ كدقيقٍ فوقَ شوكٍ نثروهُ *** ثمَّ قالوا لحفاةٍ يومَ ريحٍ اجمعوهُ
سعدٌ ... منذُ اشراقةِ شمسِ مولدهِ وفي سنواتهِ الأولى ظهرَ نبوغهُ وتنبأ لهُ أهلُ المعرفةِ بمستقبلٍ يعلو فيهِ نجمهُ في سماءِ الإبداعِ , حيثُ كانَ ذكياً لمّاحاً فَطِنَاً مُتفوقاً على أقرانهِ في جميعِ مراحلِ دراستهِ .
كانَ كُلّما أطلّ بقامتهِ المهيبةِ ورزانةِ خطواتهِ كأنّهُ اشراقةُ الفجرِ المنيرِ فيْ صفحةِ الأفقِ مُبشراً بيومٍ جميلٍ وهكذا كانَ سعدٌ يُبشّرُ وجْهُهُ بمستقبلٍ زاهرٍ لعالِمٍ عظيمٍ أو طبيبٍ ماهرٍ أوْ لرُبما لقائدٍ فذٍ فهوَ الذي تقرأُ في جبهتهِ سطراً مُحرراً بقلمِ العلمِ والحكمةِ .
ومع مرورِ الوقتِ وتقدمهِ في دراستهِ عجزَ والدهُ الفقيرُ عنْ تَحمّلِ أعباءِ دراستهِ وحِينما قررَ أنْ يهجرَ العلمَ لينتقلَ إلى العملِ لبِسَـتْ أديمَ وجههِ غبرةٌ قاتمةٌ غيّرتْ حالهُ منْ حالٍ إلى حال .
خاضَ في أعمالٍ لا يليقُ بأمثالهِ منْ ذوويْ الكفاءةِ والعلمِ والذكاءِ أنْ يعملوا فيها بلْ يجبُ أنْ يكونَ أمثالهُ فيْ جامعاتِ المعرفةِ ومختبراتِ العلمِ لكيْ يخدموا وطنهم فيما همْ فيهِ متفوقونَ ولكنّ دولةَ الاستبدادِ وحكومةَ الظلمِ لا تهتم لأمثالِ هؤلاءِ العباقرةِ لأنّها تعلمُ أنّ نورَ العلمِ يحرقُ عرشَ الظلمِ .
تزوّجَ سعدٌ وأنجبَ ثلاثةَ أطفالٍ فزادَ همّهُ وعَظُمَ حملهُ , وأصبحَ في حالةٍ مزريةٍ و منظرهُ مرعبٌ مخيفٌ كأنمّا منتفضٌ منْ كفنٍ وكيفَ لا وهو العبقريُ الذكيُّ العاجزُ عن الإبداعِ والعطاءِ لأنّ مجتمعَ الاستبدادِ يقفُ عائقاً أمامَ طموحهِ الذي لا حدّ لهُ , وأصبحَ سعدٌ في صراعٍ نفسي شديدٍ بينَ مَا يملكُ منْ قدراتٍ وبينَ ما يلاقي منْ عراقيل وصعوباتٍ فلمْ يتحملْ عقلهُ ذلكَ البلاءَ فدخلَ مشفىً متخصصاً بالأمراضِ النفسيةِ في اللاذقيةِ وغادرتْ زوجتهُ المنزلَ فكيفَ لها أن تعيشَ معْ زوجٍ لا ينتمي لهذا العالم ؟ .
تابعَ العلاجَ والدواءَ لفترةٍ زمينةٍ ثمّ عادَ لبيتهِ وعادتْ زوجتهُ لهُ فهيَ كريمةٌ لمْ تكن غادرةً ولا ظالمةً لهُ كمَا فعلتْ دولةُ الاستبدادِ , ولكنْ معَ خروجهِ منْ مرحلةِ العلاجِ عادَ منْ جديدٍ ليصطدمَ معْ حكومةِ الظلمِ والاستبدادِ وفي لحظةِ غيابٍ عنْ الوعيِ وغيابِ زوجتهِ عنْ المنزلِ ألقى بأولادهِ منْ شُرفةِ المنزلِ لكيْ ينتقلوا إلى خالقهم شاكرينَ والدهم الذي عجّلَ بهم إلى حيثُ لا ظُلمَ ولا استبداد .
تمّ الحُكمُ عليهِ في محكمةِ المستبدِ بالإحالةِ إلى مشفى الأمراضِ العقليةِ بحلب وكأنّهُ هو المجرمُ وليسَ الحاكم !
بالأمسِ فارقَ سعدٌ الحياةَ ليلتحقَ بأولادهِ هناكَ حيثُ الحاكمُ العادلُ الرحيمُ الذي لا يظلمُ أحداً .
هكذا تقتلُ دولةُ الاستبدادِ المبدعينَ وتُنكّـلُ بالعباقرةِ وتزرعُ خِنْجَرها في صدورِ العلماءِ لأنّهم الجنودُ الذينَ يكسرونَ سورَ الاستبدادِ ليزرعوا مكانهُ شجرةَ الحريةِ .