بشار في خطاب الإنكار.. الجيد للمعارضة
ياسر الزعاترة
بعد شهور من الغياب خرج بشار الأسد ليخاطب شعبه (بل عدوه بتعبير أدق).
خرج في لحظة حرجة ليتصنع التماسك في مواجهة الثورة، وبالتالي الإيحاء بإمكانية الانتصار أملا بالبحث عن حل سياسي يعتقد أن الأجواء الإقليمية والدولية قد منحته دفعة معقولة.
في الجوهر، يبدو من المؤكد أن توالي الأحداث قد أقنع بشار -وإن لم يعترف بذلك- أن الانتصار على الثورة قد بات في حكم المستحيل، حتى لو كان بوسعه الصمود لشهور أخرى، بل حتى لسنوات، مع أن الشكوك تبدو كبيرة حول مدى قدرته على الصمود رغم الدعم الإيراني الهائل عسكريا وماليا، والروسي (عسكريا وسياسيا).
لكنه يرى في المقابل أن الطرف الآخر -أعني قوى الثورة- ليست في أحسن حال رغم تقدمها البطيء على الأرض، ولا يحدث ذلك إلا بسبب الحصار المفروض عليها بعد أن أصبح الموقف الأمريكي التابع للكيان الصهيوني أكثر ميلا لتسوية تبقي بشار في السلطة بدل المراهنة على بديل غير مضمون، من دون استبعاد الخيار التقليدي، ممثلا في استمرار المعركة ولعبة التدمير، لاسيما بعد أن اطمأن نتنياهو لمصير الأسلحة الكيماوية بضمانات روسية من جهة، وبوجود فرق كوماندوز جاهزة للسيطرة عليها فورا في حال سقوط النظام.
وحين يكون الموقف الأمريكي التابع للصهاينة على هذا النحو، فإن ذلك سيؤثر بالضرورة على مواقف الغرب عموما، بل وعلى تركيا والدول العربية الداعمة للثورة، بدليل أن الدعم المالي والعسكري الذي يُقدم للثوار قد بات يتراجع في الشهور الأخيرة رغم الاعتراف الكبير بالائتلاف الوطني ممثلا شرعيا وحيدا للشعب السوري.
في هذه الأجواء خرج بشار في خطاب يتصنع الثقة بالقدرة على الانتصار، بينما يستجدي الحل السياسي، ولو قدم بضاعته اليوم في بدايات الثورة، لربما قبلها البعض، لكنه سخر من الشعب ومن المعارضة وراح يصنفها بطريقة كاريكاتورية تثير السخرية.
لقد عول بشار على عسكرة الثورة من أجل وصمها بالإرهاب، واعتقادا منه بأن ذلك سيمكنه من التخلص منها بسهولة، وهو كان في الشهور الأولى يستجدي وجود مسلح واحد، كما ذكر فاروق الشرع، لكي يستثير غريزة الغرب ضد ما يسميه الإرهاب.
في قراءة حيثيات الخطاب، وبعيدا عن اللغة العاطفية، والمقدمة والخاتمة الطللية التي تميز بها، فإن جوهر الحل الذي طرحه يُعد بائسا قياسا بمبادرة جنيف، وقياسا بالعروض التي كان يتحدث عنها الأخضر الإبراهيمي. إنه حل يتحرك بكل حيثياته تحت سقفه (بشار) شخصيا، بل تحت سقف النظام القائم بأجهزته الأمنية والعسكرية. إن خريطة الطريق التي طرحها لا تتعامل في جوهرها مع ثورة مسلحة راح ضحيتها 60 ألف سوري، وملايين المشردين والمصابين والمعتقلين، بل مع حراك احتجاجي يطالب بالإصلاح لا أكثر، والنتيجة أننا كنا إزاء حالة إنكار تثير الازدراء.
خريطة الطريق التي طرحها لا تطالب باستسلام الثورة والثوار فحسب، بل تطالب باستسلام القوى الداعمة لها أيضا، إذ تنص مرحلتها الأولى على وقف دعم المسلحين، ووقف الأعمال المسلحة، مع آلية لمراقبة التنفيذ (لم يتحدث عن قوات مراقبة دولية، لكنها قد تفهم من السياق).
بعد ذلك تبدأ الاتصالات والمشاورات بين “كافة أطياف المجتمع السوري” من أجل عقد مؤتمر للحوار الوطني ينتهي بميثاق وطني يُعرض على الاستفتاء، وبعد ذلك تشكل حكومة وطنية موسعة، تجري حوارا من أجل دستور جديد يُعرض على استفتاء أيضا. ثم تجري بعد ذلك مناقشة القوانين الناظمة للحياة السياسية، ومنها قانون الانتخاب، ثم مؤتمر للمصالحة الوطنية.
مسلسل طويل قد يستمر شهورا طويلة بين وقف إطلاق النار، وبين الدستور الجديد وصولا إلى انتخابات يختار فيها الشعب ممثليه، ما يعني أن النظام سيبقى على حاله القائم، مع تغييرات طفيفة تجعل سوريا أقرب لديمقراطيات الديكور التي عرفها العالم العربي قبل ربيع الثورات، وهي ديمقراطيات لا تسمن ولا تغني من جوع في ظل أنظمة عادية، فكيف في ظل مؤسسة أمنية وعسكرية تسيطر عليها نخبة طائفية (لم يأت على ذكر من انشقوا من عسكر النظام، وهم بعشرات الآلاف، ما جعل الجيش ممثلا لطائفة وليس للشعب)، ومعلوم أن من يسيطر على المؤسسة العسكرية والأمنية هو الذي يسيطر على البلد بصرف النظر عن تبدل الحكومات.
ما ينبغي أن يقال في الخلاصة أن بشار لم يعترف بوجود ثورة، بل بحرب مع عصابات إرهابية، كما أن الحل الذي طرحه لا يقترب البتة من طروحات الإبراهيمي (وقف لإطلاق النار، وحكومة بصلاحيات كاملة)، ما يعني أن على الأخير إذا كانت لديه ذرة من إنسانية أو كرامة أن يعلن استقالته فورا ليضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، وإلا فهو شريك في سفك الدم السوري.
لقد منح الخطاب الائتلاف الوطني مادة للخروج من تهمة الرفض التي كان يُتهم بها، وجعلت النظام هو المتهم برفض الحل السياسي، وهذا من دون شك أمر جيد ينبغي أن تنبني عليه سياسة جديدة من تركيا والعرب الداعمين للثورة. وفي أي حال، فالثورة مستمرة ولن يستسلم الشعب مهما طالت المعركة وكثرت التضحيات.