الحل السياسي ضرورة وطنية

م. شاهر أحمد نصر

[email protected]

لنبدأ من النهاية:

قليلون من توقعوا عدم حسم الصراع في بلادنا قبل نهاية عام 2012. ومع حلول عام 2013 يبقى الصراع مفتوحاً، مع أن خاتمته معروفة لكل محلل يرى فيه صراعاً بين بنية سياسية تجاوزها الزمن وإرادة شعب يريد مواكبة العصر وتجاوز كل المظالم، والفساد، وما يعيق الحرية والكرامة الإنسانية؛ ببناء دولة مدنية برلمانية متحضرة على أسس دستورية ديمقراطية  تعددية، تسمح بتداول السلطة وتجديد بنيانها... ومع القناعة بأنّه لا مستقبل للبنية السياسية القديمة، وسنصل في نهاية المطاف إلى بنية عصرية جديدة، كان عنوان أول مقال كتبته بعيد انطلاق الحراك الشعبي السلمي: "لنبدأ من النهاية"؛ الذي جاء في خاتمته: "لمّا كنا سنصل عاجلاً أم آجلاً إلى تطبيق هذه الأسس في النهاية، نرى أنّه من الحكمة أن نبدأ من هذه النهاية، متجنبين كثيراً من الضحايا، وهدر الطاقات، والزمن." (20 نيسان 2011)؛ ذلك المقال الذي رفضت هيئة وإدارة تحرير صحيفة (الأسبوع الأدبي) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق نشره، لأسباب ترتبط، من وجهة نظري، بهيمنة الرأي الواحد الذي يرى، دائماً أنّه الوحيد المخول أن يبحث عن حلول للصراع، ويرى أن الحل عسكري، مع قليل من عمليات تجميل للبنية القديمة... ومع استمرار أبناء الشعب في الحراك المدني السلمي لأشهر وهم يرفعون مطالب أقر الجميع ـ بما في ذلك ممثلو البنية السياسية القديمة ـ بشرعيتها، ولما تبين أن تطبيق تلك المطالب، والبدء من النهاية سيقود إلى التغيير، وتجاوز تلك البنية؛ أخذت قوى متضررة من التغيير في تلك البنية تبحث عن سبل احتواء الحراك الشعبي السلمي والقضاء عليه، ولخص الأستاذ فاروق الشرع ذلك في لقائه مع صحيفة الأخبار في أواخر عام 2012 بقوله: "في بداية الأحداث كانت السلطة تتوسل رؤية مسلح واحد، أو قناص على أسطح إحدى البنايات"، ومن يعيد تذكر تسلسل الأحداث، يلاحظ كيف أخذت تنتشر مصطلحات: المندسين، والمسلحين، والمأجورين، ولوائح العار... وكيف أخذ يهرب السلاح، ويوزع... وأخذت تسقط الضحايا، ولعل التحقيق، في مسألة وقوع الضحايا في حماة بعد المظاهرات السلمية التي كانت تضم عشرات الآلاف، دون أية حوادث تعكر سلميتها، يبين من كان وراء ذلك، ـ كما تبين تصريحات محافظ حماه في حينه إلى تلفزيون (شام إف أم.) ـ على سبيل المثال. وأخذ الصراع يتعقد وامتد من صراع في سوريا ناتج عن تناقضات داخلية بالدرجة الأولى، لتتداخل فيه حلقات جديدة من الصراع على سوريا في سوريا، وحلت لحظة يحاول فيها أعداء سوريا استثمارها إلى أقصى حد، وإطالتها إلى أبعد مدى...

من يوقف الدمار قبل فوات الأوان:

مع التأكيد على أنّ الأسباب الجوهرية للصراع هو التناقضات الداخلية، ولن ينتهي إلا بمعالجة تلك التناقضات بتغيير البنية التي ولدته، وإقامة بنية عصرية جديدة، كما أسلفنا، فإنّه من المفيد التمعن في أهداف كثير من القوى والدول التي يبدو أنّها تتنازع على سوريا في سوريا، من دول إقليمية يريد بعضها أن يحول سوريا إلى خندق دفاعه الأول، ويطمع آخرون في إعادة عمارها، ويهدف آخرون لتدميرها...

ناقوس خطر

لا شك أنّ المستفيد الأول من تدمير البنية التحتية والدفاعية في بلادنا هم أعداؤها، ولا شك في أنّ إسرائيل تطمح لزيادة النعرات والعداوات في المجتمع السوري، وترغب في تدمير ليس فقط البنية الاجتماعية، والبنية التحتية الاقتصادية، بل ويهمها في الدرجة الأولى تدمير تلك القواعد الصاروخية التي لا مثيل لها، حتى على أراضي دول حلف وارسو السابق، والتي بنيت في الثمانينيات، إبان حكم أندروبوف، ـ تلك التي أسقطت طائرتين أمريكيتين فوق سماء بيروت، وتلك التي أبعدت الأسطول السادس عن شواطئ بيروت في عام 1982 ـ  ولو تطلب تدميرها استخدام صواريخ تحمل اليورانيوم المخضب، كما حصل في العراق، وما سيخلفه ذلك من أمراض سرطان وأوبئة وأضرار على الإنسان والنبات والحيوان في سوريا... فضلاً عن القضاء على سلاح الطيران السوري، وإعادة سوريا عقود إلى الوراء، وقطع علاقاتها مع أية دولة صديقة يمكن أن تزودها لاحقاً بالسلاح لحماية الأمن الوطني، ولاستعادة الجولان...

من الضروري لكل مهتم في شؤون البلاد أن يأخذ جدية هذه المسألة بالحسبان، وإيقاف أي نهج يقدم الذرائع ويخلق الظروف الملائمة لتدمير مقدرات البلاد... والتوجه إلى الحل السياسي كمخرج رئيسي يجنب الوطن مزيداً من الخسائر والفرقة الاجتماعية والدمار المتصاعد في البنى الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية...

العالم يتغير، وروسيا تتغير

ومن الضروري الانتباه إلى حقيقة أنّ إسرائيل تعتمد في تحقيق أهدافها هذه، ليس فقط على الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد أمن إسرائيل أولى أولوياتها، وليس على أوربا فحسب، بل، ومن الضروري الانتباه إلى أنّها تجهد للاعتماد على قوى صديقة لها في روسيا أيضاً... فـ روسيا ليست هي نفسها روسيا إبان العهد السوفيتي، بل روسيا المعاصرة دولة تبنت النموذج الرأسمالي، المختلف حتى عن النموذج الرأسمالي الأوربي، الذي اعتمد في القرن العشرين كثيراً من الجرعات الاشتراكية الإنسانية، ليبني مجتمعات فيها كثير من مقومات الضمان الاجتماعي، والدعوة لحقوق الإنسان، أما روسيا، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، فقد تبنت في نهاية القرن العشرين، رأسمالية مافيوية برغماتية بحتة، بعيدة عن النزعات الإنسانية، لا تفكر كثيراً ببؤس أطفالها، فما بالك ببؤس أطفالنا... هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية ترتبط البنية الحاكمة في روسيا بأوثق الروابط مع إسرائيل... فهذا يوري موخين، والكسندر شابالوف، يكتبان: "في 27 شباط (فبراير) عام 2008 خطب حاخام روسيا بيرل لازار في في هيئة شابد في أوكسفورد (الموقع الصوتي:

http://www.chabadreseareach.co.uk/oxford/rabbiberllazar.mp3

وإليكم بعض المقتطفات من خطابه: "لم يقم أي زعيم روسي أو سوفيتي في أي وقت بفعل مقدار ما فعله فلاديمير بوتين لليهود. في جميع المجالات... أكد أريل شارون في جلسات ثقة معي عدة مرات بعد العديد من لقاءاته مع ف. بوتين أنّه "يوجد لدينا، نحن اليهود، ولدى إسرائيل صديق كبير في الكرملين". هناك أحاديث كثيرة في روسيا حول يهودية دميتري مدفيديف. يتحدثون عن أمه التي قد تكون يهودية. لا أعرف كيف أعلق على ذلك. نحن لا نتعامل معه كيهودي. ولكن سأقول لكم ما يلي. قبل ثلاثة أيام من إعلانه خليفة للرئيس ف. بوتين جاء د. مدفيديف إلينا في مركزنا، حيث وعد، بأن يكون كل شيء بالنسبة لنا على أفضل حال. إننا نحصل أكثر مما يمكن أن نتمنى... ويأتي اليوم أرفع قادة روسيا ضيوفاً إلى مركزنا. يأتي ب. غريزلوف، ويو. لوجكوف، وس. ميرنوف وكثيرون غيرهم. لقد أصبحت زيارة قادة روسيا إلينا روتيناً". انظر:

http://rusram.livejournal.com/64393.html?style=mine

 (انظر: يوري موخين ـ الكسندر شابالوف ـ لماذا تكذب كتب التاريخ ـ دار الطليعة الجديدة ـ دمشق -2012). ولقد كرر جيرونوفسكي رئيس الحزب الليبرالي والمرشح لرئاسة روسيا عام 2012 في خطابه الذي نقلته قناة روسيا 24 التلفزيونية مباشرة، تلك الأفكار عندما قال: "سنطلب من بوتين أن يقدم إلى الشعب الروسي جزءاً نذيراً مما يقدمه لليهود وإسرائيل"... وليس سراً أن أول زيارة لبوتين بعد انتخابه رئيساً لجمهورية روسيا الفيدرالية، إلى الشرق الأوسط كانت لإسرائيل، والملفت استقبال نتناهو له جالساً على كرسيه في مكتبه (بحجة المرض)، فانحنى بوتين لمصافحته...

نحن في حاجة إلى صداقة جميع الدول

إنني لا أورد المعلومات أعلاه للدعوة إلى اتخاذ موقف مسبق من روسيا على الإطلاق، بل نحن في حاجة إلى صداقة جميع الدول، بما فيها روسيا، لا سيما بعد استتباب الأمور والبدء بوضع سياسات التنمية الاقتصادية والبشرية الإستراتيجية، ليس التقنية وحدها، بل ولتطبيق سياسات النمو الاجتماعي، والسياحي، والاقتصادي ولا سيما الزراعي، فمدينة روسية واحدة، على سبيل المثال، تستهلك فائض إنتاج سوريا من الخضار والفواكه، وسيكون ذلك ضرورياً لمن سيهمه تطوير وتنمية سوريا... وأخشى أن يكرر البعض الخطأ الذي حصل في أربعينيات القرن الماضي عندما رفض السفراء العرب في الأمم المتحدة اللقاء بجاكوب مالك: المندوب الروسي في الأمم المتحدة، لبحث موضوع فلسطين، وأنوه إلى أنّ الإسرائيليين، وربما كثير من موظفي وزارة الخارجية الروسية يسعون لقطع العلاقات مع السوريين بكافة أطيافهم... ولقد أوردت الشواهد أعلاه عن مستوى العلاقات الإسرائيلية مع الإدارة الروسية للتعرف إلى الحقائق والتعامل مع الواقع كما هو... وكي لا يظنن أحد أن لافروف ناطق باسم وزارة خارجية هذه الدولة العربية أو تلك، بل قد يكون لإسرائيل في وزارة الخارجية الروسية نصيب كبير أيضاً...

لكن، وفضلاً عن أصدقاء إسرائيل أولئك، توجد في روسيا، أيضاً، فئات واسعة من المثقفين، والمفكرين، والكتاب، والضباط الكبار الغيورين على مصالح روسيا الوطنية، والصادقين في صداقتهم مع الشعوب العربية التي تربطها مع الشعب الروسي أواصر صداقة تاريخية، فئات تتأثر بأفكار بوشكين الذي استلهم سيرة النبي محمد من القرآن، ومن اطلاعه على السيرة النبوية، كما هو جلي في قصائده "النبي"، و"المغارة" وغيرهما، وبأفكار تولستوي الذي ثمن مكانة الرسول العربي، وأصدر كتاب "حكم النبي محمد"... وأفكار دوستيفسكي، وغوركي، وغيرهم...

النظرة النقدية

ومع أن إسرائيل هي المستفيدة الأولى من خسارتنا صداقة روسيا، فإنّ ذلك لا ينفي ضرورة النظرة النقدية، وتوجيه النقد للمواقف السياسية الروسية، ولا سيما عندما تقارب قضايانا بعيداً عن الحقيقة، ومتطلبات الواقع الموضوعي، والتي تعود إلى أسباب كثيرة، ستوضحها الأيام، ومن بينها الضعف في عمق قراءة الواقع، وغياب المفكرين الكبار عن الساحة الروسية... وهذا يذكرنا بتبني لينين في بداية القرن العشرين رأي تروتسكي القائل بانتقال مركز الثورة العالمية من أوربا الغربية إلى روسيا. ولكن ذلك الانتقال لم يعنِ انتقال مركز الفكر العالمي بالضرورة إلى روسيا، وجرت محاولة قسرية لجعل روسيا مركزاً للفكر العالمي، فأصيب الفكر الإنساني، وخاصة الاشتراكي، ببؤس ما يزال يعاني منه، وأعتقد أنّ روسيا في حاجة إلى مفكرين عظماء، لأن ضعف التحليل الفكري، يصيب السياسة بخسائر متتالية، وتحتاج هذه المسألة إلى بحث مستقل... وفي كل الأحوال، ستبقى روسيا جزءاً من منظومة معالجة النزاعات في منطقتنا، وعلينا معرفة كيفية استثمارها بالشكل الصحيح، والأمثل، في صالح شعوبنا.

ستنتصر إرادة الشعب

وبالعودة إلى المسألة الرئيسية التي نناقشها، نرى أنّه، وإلى جانب الدول، دخلت قوى متعددة في الصراع في بلادنا ضد البنية القديمة، ومن بينها قوى تتبنى شعارات لم تكن مرفوعة إبان الحراك الشعبي السلمي، وتبدو متخلفة، وسيترك انتصارها آثاراً كبيرة على مستقبل التطور في سوريا، وقد تكون تلك القوى من إفرازات الحياة السياسية الاجتماعية والواقع الموضوعي الذي تتجسد فيه وحدة وصراع المتناقضات والأضداد... وكيلا ينتصر أو يسود  أحد الضدين المغاليين في جذريتهما، نأمل أن تتفتح في الربيع قوى جديدة جديرة بأخذ البلاد إلى بر الأمان، والحل السياسي هو السبيل لذلك... ولمن يتخوف من سيادة التطرف في بلادنا نقول: إنّ بنية المجتمع السوري أكبر ضامن لعدم حصول ذلك، فهي بنية أفرزت تاريخياً المحبة والوئام بين جميع السوريين من مختلف المذاهب، والطوائف، والانتماءات، وهذه البنية بطبيعتها حامل اجتماعي ليس للتطرف بكافة ألوانه، بل للاعتدال وللقيم الحضارية... إنني أؤيد الرأي القائل بأنّ المسألة معقدة، وليست بهذه البساطة، لكنها بحاجة إلى حل سياسي، الذي أصبح من ضرورات أمن حماية سيادة الوطن، ويؤمن أجواء سليمة لتنمو قواه الوطنية الخيرة وتنضج بعيداً عن العنف، والبطش، والاستبداد... ولكل من يتمسك بالبنية القديمة، ويظن أنّها ستنتصر، وتعود إلى ماضي عهدها، نقول: إرادة الشعب هي التي ستنتصر، ولا يمكن لبنية تجاوزها الزمن منذ أواسط القرن العشرين، أن تسود في القرن الواحد والعشرين، مهما أدخل عليها من ترقيعات، وصدق من قال: لا يصلح العطار ما أفسد الدهر.

ضرورة إعمال العقل

لا يمكن إعادة التاريخ إلى الوراء مهما حاول أعداء سوريا، مهما ازداد ضيق الأفق، والحقد، ومهما حصل من قتل وتدمير... ومن الضروري إعمال العقل، ورؤية الواقع وصيرورة الحياة، وتنفيذ التغيير الذي تتطلبه الحياة، وإرادة الشعب، وتجنيب الوطن الدمار الذي يخدم أعداءه، من دون جدوى أو فائدة تعود، حتى إلى من يتبنى نهج الدمار... تحتاج الأوطان إلى عقل استراتيجي واسع الأفق يضع صالح الوطن والشعب وحمايته من العبث والدمار فوق كل الاعتبارات والمصالح الذاتية؛ في مثل هذه اللحظات التاريخية يتوحد الخاص والذاتي بالعام، ويبقى الصالح العام هو ضامن الخاص والذاتي وحاميه. ومهما ازداد التنافر بين القوى، ستأتي لحظة تكون الأغلبية من جميع الأطراف المتنافرة، بمن فيهم بعض من يتمسك سلمياً بالبنية القديمة جزءاً من الحل، وسيحتاج الوطن إلى الجميع، إنما ستكون علمية إعادة التأهيل صعبة، وواسعة، وعميقة، وشاملة، أساسها الحل السياسي الذي يتجاوز البنية المسببة للصراع، ومخططات أسر البلاد أو تدميرها... وكما علمتنا الحياة، جميع من مروا وسيمرون على هذا تراب إلى زوال، والبقاء للأرض والشعب والأوطان، فهلا أعملنا العقل، وتبنينا حل سياسي يبدأ من النهاية لإنقاذ الشعب، والوطن...