إحباط سلطوي وأمريكي أمام التغطرس "الإسرائيلي"

إحباط سلطوي وأمريكي

أمام التغطرس "الإسرائيلي"

د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين

[email protected]

مع تشكّل حكومة "إسرائيلية" أكثر تطرفا بالشراكة بين نتنياهو وليبرمان مطلع العام 2009، تكثفت النشاطات الاستيطانية في الضفة الغربية، وتهربت "إسرائيل" من كل محاولة أمريكية لدفعها نحو الانخراط الجاد في العملية السلمية، ولم يثمر الحراك السياسي الكاذب نحو السلام شيئا، ولم يتمخض عن الحوار الوطني أي فرصة لإعادة الالتحام السلطوي.

في صيف 2009 تورط عباس –بتوجيه أمريكي- في ادعاء البطولة السياسية عندما شرّط العودة للمفاوضات مع "إسرائيل" بوقف نشاطات الاستيطان في الضفة الغربية، وبعد صعود تلك الشجرة تعذّر نزوله عنها بسلاسة، خصوصا في ظل حكومة ليكودية لا تحفظ ماء الوجوه للحكام في الأنظمة العربية (كما وبّخت النظام المصري)، فكيف لها أن تأبه بأشباه الحكام في سلطة هزيلة!

ومع مطلع أيلول 2009، تصاعد الحديث عن دعوة أميركية لعباس لمتابعة المفاوضات، بينما كان نبيل شعث قد أكّد في تلك الأجواء أن "الرئيس محمود عباس سيرفض أي دعوة من الولايات المتحدة لاستئناف محادثات السلام مع إسرائيل ما لم تقنعها واشنطن بتجميد جميع الأنشطة الاستيطانية" (ملحق أغطس 2009). إلا أن عباس عاد وانصاع للإملاءات الأمريكية بشكل مذل. ومن ثم حركت أمريكا مسار المفاوضات في حينه في أكثر من اتجاه:

توكّل النظام المصري –عرّاب المصالح الأمريكية- بتحضير الأرضية الفلسطينية للمفاوضات، فأعدّ ورقة المصالحة، لتجهيز الأجواء الدافعة لمسار المفاوضات، وسلمها للفصائل بتاريخ 9/9/2009. وقد تناولت ترتيبات إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني، وتفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، إضافة إلى تشكيل قوة أمنية بإشراف مصري وعربي لإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية (ورقة المصالحة). وأعتبر حزب التحرير في فلسطين أن "الورقة المصرية للمصالحة خطوة جديدة على طريق أمركة وتصفية قضية فلسطين"، وأنها توطئة لخطة الرئيس الأميركي، والتي تقتضي إفراز طبقة سياسية للقيام بمهمة التنازل، ولذلك حسمت الورقة المصرية موقف الفصائل من المنظمة، ونصّت على الحفاظ عليها إطارا ومرجعية سياسية، وكانت حركة فتح قد أعادت انتخاب محمود عباس رئيسا لها في آب 2009.

وفي هذه الأجواء، حاولت أمريكا تحريك المسار السوري –إذ ظلت تتحرك ضمن رؤيتها حول تلازم مسارات الحل وتربط تقدم المفاوضات الفلسطينية-"الإسرائيلية" مع مثيلتها السورية، وتحرّك قادة تركيا في أيلول 2009 كعرّابين للسلام بين سوريا و"إسرائيل"، رغم إدعائهم تجسيد نموذج إسلامي في الحكم، ورغم تفاخر أردوغان بتاريخهم العثماني في ظل الخلافة.

وفي 25/9/2009 تم لقاء عباس ونتنياهو في واشنطن دون وقف الاستيطان، فسقط عباس عن الشجرة دون أن يعبأ بسقوطه أحد. وبرّر عباس –الذي ارتطم أنفه بالتراب- انصياعه ذاك بالقول "لا نريد أن نخرج بأزمة مع الأمريكيين أو أن نفتعل أزمة".

ولم يتمخض عن لقاء واشنطن شيء يذكر، غير أن "إسرائيل" تابعت جرائمها مستخدمة منطق الهروب للأمام، فعاودت قصف غزة في 5/10/2009، واقتحم اليهود المسجد الأقصى، وكانت قد باشرت حفريات خطرة تحت المسجد الأقصى في حزيران 2009.

وعندما أحسّ الكيان اليهودي بتصاعد الضغط الأمريكي نحو المسار السلمي، أخذت قيادته تحرّض على ضرب إيران. وكان التلويح "الإسرائيلي" بضرب إيران كالكرت الأصفر الذي ترفعه "إسرائيل" كلما تصاعد الضغط عليها نحو المفاوضات. واستغلت أوروبا الموقف وأخذت تُسخّن الأجواء ضد "إيران"، فيما ظلت أمريكا تعمل على إطفاء نار الحرب، وتدفع نحو "التعامل مع مسألة البرنامج النووي الإيراني عبر مجلس الأمن" لإحباط مماحكات أوروبا ومشاكسات "إسرائيل".

وحيث أن الموقف الأمريكي من إيران (ومعها سوريا) يُشكل على بعض المتابعين السياسيين، لا بد من لمحة توضيح لارتباط النظام الإيراني بمصالح أمريكا، ومن ثم فهم الموقف الأمريكي الرافض لضرب إيران:

دون الحاجة للرجوع إلى نشأة النظام الإيراني، فإن تقرير بيكر هاملتون حول أزمة العراق الذي صدر نهاية العام 2006، قد شدّد على أهمية الدور الإيراني والسوري في إنقاذ أمريكا من وحل العراق، بعدما أكّد "التعاون الإيراني-الأميركي في أفغانستان"، وقد أوصى بالبحث في "إمكانية تكراره لتطبيقه على الحال العراقية" (ملخص نص تقرير بيكر- هاملتون). ثم إن بعض التقارير قد كشفت أن إيران ساعدت أمريكا على احتلال العراق، وكان الرئيس الإيراني نجاد قد شدد في أكثر من مناسبة على أن إيران مستعدة للتعاون مع أمريكا في تسوية المشكلات في العراق وأفغانستان في مقابل أن تبدي واشنطن احتراما بإيران وسياساتها (صحيفة الراية في شباط 2009).

وكانت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) قد نقلت على لسان جون سوارز سفير بريطانيا لدى الأمم المتحدة في 22/2/2009 أن طهران عرضت التعاون مع واشنطن لإسقاط طالبان والإطاحة بصدام، ونقلت عن هيلاري مان عضو الوفد الأمريكي الذي أجرى حوارات مع الإيرانيين أن مسئولاً عسكرياً إيرانياً "قام ببسط خريطة على طاولة النقاش وحدد عليها الأهداف التي أراد أن تركز عليها الولايات المتحدة وخاصة في شمال أفغانستان"، وقالت مان "أخذنا خريطة الأهداف التي اقترحها الإيرانيون إلى القيادة المركزية للقوات الأميركية (سنتكوم) والتي اعتمدتها ضمن الإستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة في أفغانستان". هذا عدا عن الدور الإيراني الوسخ (المستند للمذهبية) في العراق. ولذلك فقد ظلت "إسرائيل" تستخدم ورقة إيران أمام أمريكا في تنفيس الضغط.

وظلّت "إسرائيل" مصرّة على نهج الاستيطان، وسيطرت على الأجواء السلطوية حالة من الإحباط السياسي. وفي تشرين أول 2009 صدر تقرير جولدستون حول الحرب على غزة، وتورّط عباس ومساعديه في الحيلولة دون التصويت على التقرير الذي دعا إلى تقديم مجرمي الحرب "الإسرائيليين" لمحكمة العدل الدولية. وأدى ذلك الموقف المخزي إلى توتر الأجواء السياسية الفلسطينية حول عباس، ووصفه البعض بـ"تسونامي غولدستون"، ووصل الأمر إلى رمي صورته بالأحذية في غزة. وتعاظمت الدعوات الفلسطينية للمطالبة بتقديم الرئيس الفلسطيني محمود عباس ومساعديه للمحاكمة، وعزلهم من مناصبهم (الشرق الأوسط في 6/10/2009)، (ولاحقا كشفت تسريبات الجزيرة تورط عباس في التآمر على الحرب على غزة).

وتحت وقع هذا "التسونامي" السياسي، أعلن عباس (في 5/11/2009) نيته عدم الترشح لولاية ثانية في الانتخابات التي دعا لإجرائها مطلع 2010. وسواء أكان إعلان عباس ذاك مجرد فقاعة إعلامية أو من أجل إيصال رسالة سياسية إلى جميع الأطراف، لحثّهم على تحريك "العملية السلمية"، فقد أعلن أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه "أن اللجنة التنفيذية أكدت تمسكها بالرئيس عباس". وإذا اعتبر إعلان عباس من باب "الحرد" على أمريكا، فقد ردّت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أنها تتطلع للعمل مع الرئيس الفلسطيني بأي صفة جديدة (العربية نتفي 5/11/2009) .

وتصاعد الإحباط في أوساط بعض قيادات المنظمة، وبدا كأنهم يفقدون البوصلة؛ وفي تلك الأجواء كتب القيادي في حركة فتح عثمان أبو غربية مقالا سياسيا يعبر عن تلك الحالة (بعنوان "ما العمل؟ سؤال مطروح فلسطينياً وعربياً" في 2/11/2010)، قرر فيه أن هنالك خطا أحمر –لدى اليهود- يقضي بعدم قبول أية سيادة أخرى سوى سيادة الاحتلال في المنطقة الواقعة بين البحر والنهر، وأن أقصى ما تطرحه هو دولة أشبه "بقن دجاج في باحة البيت الإسرائيلي"، وأن المفاوضات عندها ليست سوى مناورات، في سياق التظاهر بالحراك (الكاذب) نحو الحل وضمن حملة العلاقات الدولية.

وحاولت أوروبا تحريك المياه الراكضة، فباشرت حملة اتصالات مع حركة حماس مع نهاية 2009، وراج في وسائل الإعلام صدى لنية الاتحاد الأوروبي الإعلان الصريح عن موقفه تجاه تقسيم القدس، كعاصمة للدولة الفلسطينية وعاصمة لما تسمّى "إسرائيل". فحذّرت الخارجية "الإسرائيلية" دول الاتحاد الأوروبي من مغبة ذلك (الجزيرة نت في 1/12/2009).

ثم تحركت روسيا مع مطلع العام 2010 لجر قيادات حماس نحو المشروع السلمي، وتتابعت الاتصالات، حتى زار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل موسكو في 8/2/2010، وتحدث هناك عن السلام مستخدما لغة الحكام، ثم أكّد في لقائه مع قناة روسيا اليوم في 10/2/2010 قبوله للتسوية على أساس حدود 67 وسلام الأقوياء، واعتبر المقاومة مجرد ورقة ضغط، ورحب بمؤتمر موسكو المتعثّر، وكان لقاء مليئا بمصطلحات المنظمة والأنظمة التنازلية، وعلى رأسها مصطلح التسوية.

وفي مواجهة التحركات الأوروبية والروسية، عاودت أمريكا تحريك الملف الفلسطيني، للحفاظ على تفردها فيه، فشهدت الساحة السياسية تحركات للزعماء العرب ولقادة الفصائل الفلسطينية، ولكنها ظلت كغلي الحجارة.

ومع هذه التحركات عادت "إسرائيل" لنهج الهروب للأمام فجددت تهديدها لإيران من أجل تفريغ التحركات الأمريكية نحو تفعيل مسار السلام، ونقلتالجزيرة نت في 4/2/2010 عن نتنياهو قوله "يجب أن نجند العالم كله لقتال نجاد"، واستمرت أوروبا في محاصرة إيران سياسيا، وتحدثت البي بي سي في 3/2/2010 عن تحريض رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير على إيران وهو يتحدث للجنة تقصي بشأن العراق، بما توافق مع انتقاد خلفه في الحكم، جوردون براون، لبرنامج إيران النووي. ولذلك حنت إيران رأسها أمام العاصفة الأوروبية وقبلت بمقترحات أمريكا لتخصيب اليورانيوم في الخارج، لسحب البساط من تحت أرجل "إسرائيل" وأوروبا.

إضافة لذلك تابعت "إسرائيل" تحدّيها لمشاعر المسلمين، وقرر رئيس وزرائها، في 21/2/2010 اعتبار المسجد الإبراهيمي في الخليل، ومسجد بلال بن رباح في بيت لحم، ضمن المناطق التراثية "الإسرائيلية"، ثم قامت مجموعات إرهابية يهودية باقتحام المسجد الأقصى، وعاثت فيه فسادا، وأطلقت النار على المصلين فيه، وتم كل ذلك في ظل استخذاء السلطة والأنظمة العربية.

وفي هذه الأجواء من تعنّت نتنياهو أمام التحركات الدولية، حذرت رئيسة المعارضة في كيان الاحتلال اليهودي ليفني عن خشيتها من أن "الصراع السياسي بين إسرائيل والفلسطينيين من الممكن أن يتحول إلى نزاع عقائدي لا يمكن إيجاد حل له" (قناة المنار في 1/3/2010)، وتوافقت تصريحاتها تلك مع تصريحات لعباس حذّر فيها مما أسماه "الحرب الدينية، وقال عباس "أعلنت بصراحة في أوروبا كأن إسرائيل تريد أن تشعل حرباً دينية في المنطقة" "(القدس العربي في 1/3/2010).

ومع ذلك ظل نتنياهو يتصرف كلاعب مشاكس في ساحة معاقين من الحكام العرب، وظلت عوراتهم تتكشف أمام تحديات نتنياهو، ثم وفّر وزراء الخارجية العرب عباءة لستر عورة رئيس السلطة ووافقوا في القاهرة في 5/3/2010 على استئناف المفاوضات غير المباشرة لمدة أربعة أشهر، بينما أقرّوا في قمة سرت في آذار 2010 بعجزهم عن أي فعل جاد يرد على مشاكسات نتنياهو.

ومع استمرار عناد نتنياهو، عبر الرئيس الأمريكي أوباما عن "شعوره بالإحباط بسبب تعثر جهود السلام في الشرق الأوسط" بغض النظر عن "حجم الضغط الذي تمارسه واشنطن" (رويترز في 14/4/2010). وتوترت الأجواء السياسية بين أمريكا و"إسرائيل"، ووجّه السفير الأمريكي السابق في "إسرائيل" مارتن أنديك انتقادات حادة لنتنياهو قال فيها "إذا كانت إسرائيل ترى في نفسها قوة عظمى لا تحتاج إلى أي دعم من الولايات المتحدة، فسيكون بوسعها في ذلك الحال اتخاذ قراراتها الخاصة بها" (جريدة القدس 21/4/2010).

ثم سيطرت أجواء من الحيرة في الأوساط العربية والسلطوية، استغلها الرئيس الليبي (الهالك) القذّافي لتجديد الحديث عن حل الدولة الواحدة، وذلك خلال لقائه بوفد فلسطيني خلال نيسان 2010 (الراية نيوز 14/4/2010)، إذ بقيت بعض الأصوات تدندن إعلاميا حول حل الدولة الواحدة بين الفينة والأخرى.

ومع استمرار أجواء الإحباط وعناد نتنياهو، انعقدت قمة سرت من جديد في تشرين أول 2010، وتحدّث فيها عباس عن تقديم بدائل لمفاوضات السلام المتعثرة، وذكر من بينها تقديم طلب عضوية دولة فلسطين على أساس حدود عام 1967 في الأمم المتحدة (تقرير لموقع سكاي نيوز في 28/11/2012)، فكانت تلك التصريحات بداية لمسار جديد من أجل تجاوز عناد نتنياهو، وقد ألقى هذا التوجه بظلاله على تحركات السلطة اللاحقة، ضمن مسار بدا كأنه بديل عن مسار المفاوضات.

وهكذا ظل المشهد الفلسطيني بلا أفق سياسي للسلطة ولفصائل العمل الوطني، رغم السقوط المذل لعباس عن الشجرة التي تسلقها عندما شرّط عدم العودة للمفاوضات إلا بوقف الاستيطان، ورغم صدور ورقة المصالحة الفلسطينية التي تضمنت تجهيز الأجواء لمسار المفاوضات، ورغم ارتفاع نغمة القبول بدولة في حدود 1967 عند قيادات حماس، ورغم المحاولات الأمريكية والأوروبية والروسية، وظلت "إسرائيل" ترد بارتكاب الجرائم وبتهديد إيران، مما أوصل قادة المنظمة لحالة من الإحباط، ومن ثم عبر أوباما نفسه عن شعوره بالإحباط.