لا تتركوا ذقونكم للناشرين
نصيحة للكُتَّاب:
فيصل عبد الحسن
يعاني سوق الكتاب وطباعته ونشره في العالم العربي من تصرفات بعض الناشرين السيئين، الذين اسأوا كثيراً لصناعة الكتاب وللكتاب وللقراء في الوقت ذاته، وللأسف هم من أكثر الناس لؤماً وبخلاً، في هذا المجال الثقافي الحيوي لجميع المثقفين كتاباً وقراء، وهناك مثل أسكتلندي أختص بهكذا نوع من البشر يقول " يعجبك شكل هؤلاء الناشرين وحديثهم وكرمهم الظاهري، وهم في الحقيقة مثل الحرباء يتلونون كفيما تدور مصالحهم ".
يحدثونك ــ عندما يعرفون أنك كاتب ــ عن صداقتهم القديمة لك .. وأنت لا تعرفهم، ولم تكن صديقاً لهم في يوم من الأيام ، ويبدون اعجابهم بما تكتب، وربما ذكروك بما كتبته، ونشرته ونسيته وهو كثير.. وهم في الحقيقة يخططون بلؤم شديد لسرقة مالك وجهدك ومواهبك وإسقاطك في حبائلهم ! "
ربما وضع الأسكتلنديون المثل عن بعض ناشريهم في القرن السابع عشر أو الثامن عشر، لأن الحياة الثقافية في أسكتلندا وغيرها من المناطق في أوربا صارت مثالاً تحتذى في شفافيتها ورعايتها لحقوق الكتاب واحترام ذوق القارىء.
فتقول في نفسك وأنت تقرأ ذلك أن بلادك وباقي الدول العربية لا تخلو من النماذج الطيبة، وإن السيئين ما هم إلا فقاعة ستنطفىء بعد عمر قصير ..
النسخ الفضائية
حالما تبدأ بفتح صدرك لناشر من هؤلاء حتى يصدمك بصفات في غاية البخل، فتحكي له عن ظرفك المادي الصعب ككاتب، وحلمك بإن ترى كتابك السابع أو الثامن منشوراً لتغمض عينيك قرير النفس بعد نشره، وما ان يعرف أن لديك كتاباً جاهزاً للطبع، حتى تبرز أنيابه، وتخمن ما يرمي إليه من خداع من كلماته، وينسى ما حدثك عن كرمه في بداية حديثك معه، واعجابه بما تكتب، وينسى أنك من مواطنيه وأهله، وينسى أن الزمن أزرى ببعض الكتاب، الذين كتبوا عن أوجاع الناس في منافيهم، وفي الوطن الذي مزقته الأطماع، وعبث بمستقبل أبنائه الأشرار من كل لون وشكل وقومية، وجعلهم بعد علوهم في ضيق الحاجة والخوف من المستقبل، وليس بين أصابعهم غير قلمهم الذي يكتبون به عن أوجاع مواطنيهم ووطنهم، ومالهم القليل الذي جمعوه بعد لأي طويل.
هذا الناشر تراه يكشرعن الوحش البشري الذي روضته قيم الحضارة في البعض وأزادته شراسة في البعض الآخر، حتى تأتي الفرصة ليظهر قبحه، فيقول لمن قصده لطبع كتاب ناسياً كل مجاملاته السابقة" أن طبع الكتاب لديه يكلفك بين 800 ــ 900 دولار وسيطبع من كتابك ألف نسخة وسيبعث لك ب30 نسخة فقط منها ..
طبعا هو لن يطبع غير هذه النسخ الثلاثين أو الأربعين بوسائل الطباعة الحديثة، أما النسخ الباقية، وهي تسعمائة وستون نسخة فهي فضائية، لا وجود لها في الواقع، وهو عادة يطبع أربعين نسخة في مطابع تطبع على مقدار الطلب، فإذا طلبت نسخة واحدة سيعطونك نسخة واحدة، وإذا طلبت عشر نسخ أعطوك عشراً، وكل طلب بثمنه طبعاً، لكنه بالطبع يظن أن من قصده لا يفهم شيئاً في عالم الطباعة وتوزيع المطبوع وهو ــ لفرط أستهانته بالمتعاملين معه من الكتاب ــ لا يقرأ في (السي في) الخاص بأي منهم، والمنشور لأغلبهم في الشبكة العنكبوتية، ويقرأه القاصي والداني والمذكور فيه أن الكثيرين منهم حازوا تعليماً عالياً، وتعاملوا مع الكتاب، ودور النشر فترات طويلة، وعرفوا أسرار هذه الحرفة، وخبروا أسعار الأحبار و بند ورق الطبع، وسمك الورق ومواصفات الأغلفة.
كاتب فقير
يوهمه تاجر الكتب بأنه سيطبع له ألف نسخة من كتابه، وهو في الحقيقة لن يطبع أكثر من أربعين نسخة، عشر نسخ سيبقيها لديه للمشاركة بها في معارض الكتب، ويرسل له الثلاثين المتبقية ببريد المطبوعات، الذي لا يكلفه كثيراً، فتصير النسخة الواحدة عليه على افتراض أنه أخذ منه 900 دولاراً 30 دولاراً ...
ومن لا يعرف اسعار الطبع وثمن بند ورق الطباعة، فأن طباعة الثلاثين نسخة مع الإرسال البريدي لا يكلفه في أقصى حد 180 دولاراً، أي بحدود 6 دولارات للنسخة الواحدة، وصاحبنا مقاول الكتب والناشر المخضرم سيربح من كاتبنا، العبد الفقير لله تعالى أكثر من 700 دولاراً فهل هناك اسوأ من هذا الناشر، الذين يتبجح بنزاهته، والتزامه الديني، وعلمانيته (في بعض الاحيان التي يحتاج فيها لضرورات دعائية أن يصير علمانياً) وكل هذا طبعاً حسب سوق البورصة وارتفاع أسهمها؟
وحين يتذلل الكاتب لأمثال هذا الناشر بفقره وعدم قدرته المالية على دفع المبلغ، يشعر أن الطائر سيفلت من بين يديه ولن ينال لحمه وريشه، فيطرح على الضحية حلاً، أن يطبع له خمسمائة نسخة فقط من الكتاب، ولقاء هذا التخفيض في عدد النسخ يخفض المبلغ المطلوب من الكاتب، فينقص مما طلب في بداية الأمر مائة وخمسين دولاراً أو مئتي دولار، وهو في الحقيقة لن يطبع غير الثلاثين أو الأربعين نسخة، وأنه خفض المبلغ لشعوره بأن الكاتب فقير ولن يستطيع دفع ال 900 دولار كاملة، وأنه سيفلت من كماشته، فيقص على الكاتب قصصاً مريعة عن عالم تسويق الكتاب، ويوضح له أن القلة القليلة هي التي تقتني كتاباً مطبوعاً في عالمنا العربي، فنحن أمة لا تقرأ، أمة تأخذ ثقافتها من السماع في المقاهي، أو من المذياع والتلفزيون والأنترنت وأن الكتاب سلعة خاسرة في سوق البيع والشراء بلا جدال.
لا تتركوا ذقونكم
وأمام هذه الجمل الواضحة التي لا لبس فيها يوقع الكاتب العقد معه، وهو لا يشعر أن كل لفتة من لفتات الناشر، وكل كلمة أو عبارة ينطقها وطريقته في التعامل معه تشير إلى أنه يسخر منه، ومن حلمه بإن يصير كاتباً مشهوراً، في هكذا وضع ودور النشر في العالم تطبع ملايين النسخ من الكتب لكتابها، وتسوق تلك الجيوش المؤلفة من النسخ المطبوعة في أرقى المطابع، ولا يصير كتابها مشهورين، والكاتب المسكين أبن أمة الضاد يريد بثلاثين نسخة من كتابه أن يصير مشهوراً، ولنا ان نهمس بأذنه وغيره نصيحة للكُتَّاب: لا تتركوا ذقونكم للناشرين، ونقول لهم بالفم الملآن، لن تصيروا مشهورين لوبقي أمثال هؤلاء الناشرين مسلطين على رقابكم كالعلق، فهم يسرقون الكُتَّاب، ولا من يوقفهم عند حدودهم ويقول لهم " أمسك حرامي ".
أتذكر أني قبل خمسة عشر عاماً طبعت لي دار نشر صغيرة راوية، وكنت وقتها اعيش بالدار البيضاء، ولن أذكر هنا أسم دار النشر هذه، لئلا يصير مقالي إعلاناً لهذه الدار، التي غدت الآن مؤسسة كبيرة بفعل أمانة صاحبها، وعدم غشه للمتعاملين معه، فقد وقعت معه عقداً حدد لي فيه عدد النسخ، التي سيسلمني إياها يداً بيد، وحدد في العقد موعد التسليم و نوع الماكنة التي ستطبع كتابي وحجم الورق، ووزن الورقة الواحدة، وصفات الورقة من حيث الصقل والجودة، وشكل الغلاف وورقه وكم لون فيه، وهل هو مسلفن أو عار من السلفنة، ولم أعطه من المال غير العربون الرمزي، حتى سلمني ما أتفقت معه عليه واستلمت كتابي في صناديق كارتونية، وخرجت منه معززاً مكرماً لا أشعر بالغبن، أو أن شخصاً ما نصب عليَّ، والظاهر ان أسلوبي في الكتابة اعجبه فوقع معي عقداً لكتابة كتاب لقاء مبلغ مالي محترم يعد في ذلك الوقت كبيراً عوضني مبلغ طبع كتابي، وأسعد عائلتي في وقت شحت فيه مصادر الدخل، ولا تزال علاقة الود والمحبة بيني وبين هذا الناشر الأمين إلى اليوم الحالي، ياليت كل الناشرين العرب هكذا، لكنها للأسف تبقى أمنية فقط والواقع المر يكذبها.
* كاتب عراقي مقيم في المغرب