المصالحة الفلسطينية.. آفاق مسدودة
المصالحة الفلسطينية.. آفاق مسدودة
معين الطاهر
توقفت عجلة المصالحة الفلسطينية، مع أن عجلاتها، منذ بدأ الحوار حولها، ظلت تدور في الهواء، ولم تلامس الأرض يوماً، ولم تتقدم على مدى المصالحات المتعاقبة متراً واحداً، أو تحقق طموحاً، أو تبني أملاً، ولم تساو ثمن الحبر الذي كتبت به بنودها، ناهيك عن دماء ومعاناة أهل فلسطين من آثار الانقسام المستمر.
انتهت الفترات الزمنية المقررة في بنود المصالحة الأخيرة، كما انتهى غيرها من مصالحات سابقة: لم تتم الانتخابات كما هو مقرر، ولم يعقد المجلس التشريعي اجتماعا واحداً، ولم تمنح الحكومة الثقة، ولم تحجب عنها، وبقيت حكومة الوفاق بلا وفاق، وبقي الوطن مقسماً، ولم يصل حرس الرئاسة إلى غزة، أو يستلم معابرها التي استمر إغلاقها، بل استفحل عن السابق بفضل الإجراءات المصرية والإسرائيلية، والصمت أو التواطؤ الفلسطيني الرسمي. أدى ذلك إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة، بعد العدوان الإسرائيلي، وتوقف ملفات إعادة الإعمار، لتحل محلها وترتبط بها المطالبات المستمرة بنزع سلاح المقاومة فيها، شرطاً لازماً وضرورياً لبحث أي ملف، بما فيها ملف المصالحة نفسها، لتحاول عبر الحصار والتواطؤ أن تستكمل ما عجزت الحرب والآلة العسكرية الصهيونية عن تحقيقه.
فشلت المصالحة هذه المرة، في تكرار ممل لفشل كل اتفاق سابق، تم التوقيع عليه، لتغليبها الشكل على الجوهر، والاهتمام بالبنود التفصيلية المتعلقة بالانتخابات، وتقاسم السلطة، وتشكيل الحكومة، وإدارة المناطق، على الأمر الجوهري المتعلق بالصراع العربي الفلسطيني مع العدو الصهيوني، وكيفية التعامل معه ومواجهته، وذلك على الرغم من كل التنازلات التي قدمتها حركة حماس، لتسهيل تشكيل الحكومة والاتفاق على مهامها. ففي ضوء تطور الأوضاع الإقليمية في المنطقة، وفي مصر تحديدا، لم يعد هذا كافياً، ذلك أن الاتفاق على البرنامج السياسي والتأثيرات الخارجية تحكما دوماً في مسار المصالحة.
في عهد الرئيس المصري، محمد مرسي، تم توقيع اتفاق للمصالحة. لم تكن السلطة مرتاحة لهذا الاتفاق، بحكم العلاقة الخاصة ما بين حماس والرئيس محمد مرسي في حينه. لذا، مالت مع الضغوط الإسرائيلية والأميركية واشتراطات الرباعية الدولية للمصالحة التي ولدت ميتة، ولم تتجاوز آفاقها الحفل الكبير الذي أقيم في القاهرة في حينه، وبمشاركة فصائل وشخصيات فلسطينية كثيرة.
في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، يلاحظ تغيير كبير في السياسة المصرية تجاه قطاع غزة، تجاوز ما درجت عليه مصلحة الدولة المصرية في العهود السابقة. لم يعد سراً القول إنه، في زمن حسني مبارك وعمر سليمان، كان يُغضّ الطرف، في أحيان كثيرة، عن تهريب السلاح المتدفق على غزة، وعن بناء مئات الأنفاق على الحدود. إذ هنالك مصلحة استراتيجية للدولة في مصر، أن يكون في غزة بعض السلاح وبعض المقاومة، وأن يكون لمصر عليها بعض التأثير، في ظل الإجحاف الموجود في اتفاقات كامب ديفيد، والمتعلق بالوجود العسكري المصري في سيناء.
لاحقاً، وفي عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، تبدلت أولويات السياسة المصرية، وتم تدمير آلاف الأنفاق حتى في فترة الحرب. وجرى تجريف كل البيوت المصرية على الحدود، وترحيل سكانها لضمان عدم حفرها من جديد، إضافة إلى الإغلاق المحكم شبه الدائم لمعبر رفح، الوسيلة الوحيدة المتاحة لمواطني غزة، للتواصل مع العالم الخارجي.
لذا، لم يكن مستغرباً، وفي ظل هذا الموقف المصري، والحرب على داعش، أن يقول الرئيس محمود عباس، لصحيفة مصرية، إنه لا يفرق بين "حماس" وداعش، محاولا تعزيز علاقاته مع النظام المصري، مبررا له كل إجراءاته، ومطلقاً رصاصة الرحمة على ما تبقى من اتفاق للمصالحة، بوضع نفسه في محور، وزج "حماس" في محور آخر، لا يمكن التصالح معه.
نعم، كان يمكن للمصالحة أن ترى النور، لو تم الاتفاق على برنامج حد أدنى لمواجهة العدو الصهيوني في فلسطين، حتى لو كان ذلك على مستوى الهجوم السياسي في المحافل الدولية، وتعزيز أشكال المقاومة الشعبية. لكن، من الواضح أن هوة كبيرة تفصل بين موقف السلطة وموقف المقاومة بحدها الأدنى، وتزداد هذه الهوة اتساعاً كل يوم.
فرصة التقدم لطلب العضوية الكاملة في الأمم المتحدة انتهت، هذا العام، بانتهاء دورة الجمعية العامة، والانضمام للمنظمات الدولية ومحكمة الجنايات لم يتعد إطار التلويح والتهديد بالإقدام على هذه الفعلة، تماما كما الحديث عن وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل وحل السلطة.
باتت ملامح المشروع السياسي الفلسطيني واضحة، التقدم إلى مجلس الأمن، وخلال المشاورات سيتم استبدال مشروع القرار الفلسطيني بآخر فرنسي، أو فرنسي عربي، ينص على العودة إلى المفاوضات مدة سنتين إضافيتين بإشراف دولي، بدلا من التسعة أشهر التي لم تسفر عن نتيجة بإشراف أميركي. وتأجيل كل الإجراءات الفلسطينية التي يتم التهديد بها، إلى حين انقضاء المدة الجديدة.
لدى الثوار تعريفهم للسياسة الثورية، وهي تغيير الواقع والانقلاب عليه، أما الطبقة السياسة الفلسطينية، فإن تعريفها للسياسة لا يختلف عن التعريف الشائع لها، وهي فن الممكن. والممكن عند انقضاء السنتين سيكون صفراً مربعاً. العدو الذي لم يلتفت للوسيط الأميركي، ولم يلتزم بشروط المفاوضات السابقة، سيجد في المهلة الجديدة هدية مجانية له، بحيث لن تجد القيادة الفلسطينية، بعد سنتين، ما تتفاوض عليه.
قطعاً، ثمة طريق آخر غير التسويف والمماطلة، وإهداء العدو الزمن الذي يحتاجه، طريق يفضي إلى مصالحة حقيقية، وفعل ثوري موحّد في مواجهة العدو الواحد، وهو طريق الانتفاضة الشعبية في الضفة وتشكيل إدارة وطنية موحدة في غزة. وأظن أنه الطريق الوحيد المتاح والمجدي والأقل كلفة على مستقبل الشعب الفلسطيني وأمته العربية.
فعلى الرغم من الضعف الإسرائيلي الراهن، والارتباك الواضح في السياسة الأميركية، إلا أن القيادة الفلسطينية ما زالت عاجزة عن أن تتلمس طريقها. ويوما بعد يوم، تثبت قدرتها في إضاعة الفرص المتاحة.