تركيا في مواجهة المجهول
تركيا في مواجهة المجهول
د. ياسر سعد
بإلغائها قرارا برلماني أتخذ بأغلبية ساحقة ( 403 صوتا مقابل 107) فيما يتعلق بحق المحجبات بالدراسة الجامعية تكون المحكمة الدستورية التركية قد خطت خطوة واسعة نحو حظر حزب العدالة والتنمية الحاكم وقذف البلاد والعباد في أتون المجهول. قائد الجيش التركي يشار بويوكانيت دعا الحزب الحاكم إلى احترام قرار المحكمة الدستورية بما يتعلق بالحجاب, الحجاب والذي تلتزمه أكثر من ثلثي التركيات ويعتبر في القاموس العلماني من الحقوق الشخصية للمرأة خصوصا إذا كان قرار ارتداؤه نابعا من قناعة شخصية دون ضغوط أو إكراه.
قضاة معينون من قبل رئيس سابق يمتلكون الحق بالتشريع للأمة متخطين خياراتها الديمقراطية ومجلسها البرلماني المنتخب. أية وصاية تلك التي تستخف بالشعب التركي وأي علمانية متطرفة هذه التي تقول للناس ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد؟ الأمة التركية في الانتخابات الأخيرة أعطت ثقتها وأولت قيادها وبشكل كاسح لحزب العدالة والتنمية. ليس لأن الحزب نجح في نزع ألغام كان تهدد الجسم التركي وقام بمصالحة بين تركيا وتاريخها وقيمها فحسب, بل لأن إنجازات الحزب في سنواته القليلة في الحكم نقلت البلاد نقلة نوعية من وضع سياسي مضطرب واقتصاد متداع وأحوال متردية وفساد مستشري وإشكاليات متعددة إلى اقتصاد مزدهر ووضع تجاري متقدم ودخل مرتفع للفرد. سياسة الحزب الحاكم جعلت من تركيا قوة إقليمية لها مكانتها ودورها كما نجحت في التعامل بإيجابية مع الإشكالية الكردية المزمنة ومع ملف الأقليات.
الانقلاب التركي المرجح والمغلف بقرارات قضائية يبدو أنه حصل على دعم أمريكي, فمن الملاحظ أن الإدارة الأمريكية والتي تعلق على التطورات في بورما وموزمبيق وغيرهم, لم تُظهر وقفة جادة أو حازمة من التصرفات والسلوكيات المناقضة لأبجدية الديمقراطية في تركيا. ولعل إدارة بوش لم تغفر لحكومة اردوغان رفضها السماح للقوات الأمريكية استخدام الأراضي التركية في احتلال العراق. كما إن الإستراتيجية الأمريكية القائمة على نشر الفوضى الخلاقة وإعادة تشكيل الشرق الأوسط لا تناسبها كثيرا بروز دور إقليمي لتركيا الديمقراطية والتي تتمتع باقتصاد متين. وعلى النقيض فإن وجود حكم مهزوز في أنقرة يفتقر للغطاء الشعبي ويحتاج للدعم الخارجي يعتبر أمر أكثر جدوى ومنفعة للمصالح الأمريكية.
مواقف الدول الأوربية في مجملها أكثر وضوحا من الموقف الأمريكي مما يحدث على الساحة التركية, فقد حذر الاتحاد الأوروبي مما أسماه تداعيات سلبية في حالة صدور حكم بحظر حزب العدالة والتنمية, وقال مفوض الاتحاد الأوروبي المسؤول عن شؤون توسيع عضوية الاتحاد أولي رين إن المفوضية تعارض الدعوى التي تناقشها المحكمة حول حظر الحزب الحاكم, وإن المفوضية قد لا تبقى حيادية في المسألة "نظرا لأن تركيا مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي". الأوربيون يخشون من أن اضطراب الأوضاع في تركيا وتراجع اقتصادها سيفتح الباب أمام هجرات واسعة مما يؤثر على القارة العجوز والتي تجاهد وبكافة الوسائل والسبل للحد من الهجرة إليها غير الشرعية عبر المتوسط. كما إن انهيار النموذج التركي المعتدل قد يؤدي إلى بروز تيارات متطرفة تجد من العنف الوسيلة الأجدى في التغيير وهو أمر سيثير إشكالات لأوربا والتي تحتضن بعض بلدانها جاليات تركية كبيرة .
في الزلزال الذي هز تركيا عام 1999, سقطت حرمة انتقاد المؤسسة العسكرية وتهاوت هيبتها جراء البطء الذي لازم تحرك الجيش في إغاثة المتضررين, كما قارن المواطنون الأتراك بين المساجد العثمانية التي صمدت أمام الزلزال والأبنية الحديثة في تركيا العلمانية والتي تهاوت كالورق لتفضح فساد النخبة والذي نخر الحياة السياسية في تركيا لعقود. الانقلاب التركي والذي سيكون أشبه بزلزال يطيح بمنجزات اقتصادية واستقرار تمتع به الأتراك, سيزرع القناعة في قلوب كثير من المواطنين بأن النخب العلمانية أصبحت في جسم الأمة مثل الخلايا المدمرة والتي من الصعب بمكان التعايش معها, وهو ما قد يفجر صراعات وأزمات تهدد تركيا ومستقبلها.