التحدي الطائفي
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
في
لحظات الضعف الحضاري تتغير المعادلات الاجتماعية ، حيث تتدخل أياد أجنبية لتحقيق
مصالحها وأهدافها في البلد الضعيف ؛الذي غالبا ما يكون مستباحا على أكثر من مستوى ،
فتشعل نار الصراع الداخلي ، وتقف وراء بعض الأقليات العرقية أو الطائفية أو
المذهبية ، وتمنحها الدعم والعون ، لتجعل منها رأس حربة في الوصول إلى ما تريد ..
هذا ما حدث في زمن الحروب الصليبية الأولى ، وفي زمن الاستعمار ( الصليبية الجديدة
والراهنة ) . ولا شك أن خصوم الأمة أفلحوا في ذلك وحققوا انتصارات لا بأس بها على
حساب العقيدة والهوية والوحدة القومية والوطنية والإسلامية جميعا .
ومن
المفارقات أن هؤلاء الخصوم لم يقتصر كيدهم وعدوانهم على المسلمين وحدهم ، بل إنهم
عملوا على الكيد لطوائف ومذاهب من ملتهم نفسها ، حتى بدا بعضها منسحقا ومهزوما ،
ولعل أبرز الأمثلة ما قام به الكاثوليك والبروتستانت في القرن التاسع عشر لتحويل
الأرثوذكس المصريين ، بل والعرب عن مذهبهم ، وحققوا في ذلك نجاحات ملحوظة ، مما أدي
إلى استنجاد الكنيسة الأرثوذكسية المصرية آنئذ بالخليفة العثماني لإنقاذهم من الغزو
المذهبي الأوربي ، وهو ما تمخض عن إصدار الخط الهمايوني حماية للنصارى ، وردعا
للكاثوليك والبروتستانت عن التمدد والانتشار بالترغيب أو الترهيب على حساب المذهب
الأرثوذكسي ، وفي العصر الراهن استطاع الفاتيكان أن يسحق الكنائس المشرقية ويطوعها
بالدخول تحت عباءة مجلس الكنائس العالمي ، الذي باتت أهدافه لا تخفي في مجال
التنصير والتبشير بالكاثوليكية وحدها .. وسأعود - إن شاء الله - إلى هذه المسألة
لتفصيل أوسع في صفحات لاحقة ، مع تأصيلها تاريخيا ، ولكني أركز الآن على محاولة
تغيير المعادلة الاجتماعية في مصر والعالم العربي من خلال بعض المظاهر رغبة في تحدي
الأغلبية وقهرها وإذلالها ، في ظل الاستقواء بالعدو الخارجي ، والتماهي معه على
حساب المصالح الوطنية والقومية . .
في
الخليج ، أقيمت بعض الكنائس مؤخرا ، وصاحب افتتاحها ضجيج غير عادي من الفرح
والابتهاج في العالم الصليبي الغربي ، والتبشير في الوقت نفسه بقرب افتتاح كنائس في
أماكن أخرى في الخليج أيضا .. وهذا المهرجان الغريب الذي أقيم من أجل الكنائس
الجديدة يتناسى أنه لا يوجد أصلا مواطنون نصارى في الخليج ، باستثناء العراق ،
والنصارى الموجودون في المنطقة كلهم غرباء وعابرو سبيل ، أي ليسوا بحاجة ماسة إلى
هذه الكنائس ، ولكن الاستباحة الصليبية المتعصبة رأت إذلال العرب والمسلمين بإقامة
مبان ترمز إليها وأن لم تكن هناك حاجة إليها ، ثم التبشير بقرب إقامة كيانات طائفية
تستقل عن الدول الأم على المدى البعيد كما حدث في الأطراف ( تيمور الشرقية مثلا ،
ومن قبلها الفلبين ، وسيريلانكا .. ).
الجبابرة أحيانا لا يكتفون في قهرهم وإذلالهم للضعفاء بالقسوة والإيذاء المادي أو
البدني ، ولكن يبحثون عن إذلال معنوي أكثر تأثيرا وإيلاما للضحية .. مثل إرغامها
على تقبيل الأيدي أو الأرجل ، أو ارتداء ملابس النساء أو التسمي بأسمائهن ، أو
اغتصاب الحرائر .. وهي أمور في غاية البشاعة ، وخاصة في المجتمعات ذات التقاليد
والأعراف العريقة والقيم الإنسانية الراقية ( تأمل مثلا ما فعله الصرب الهمج في
البوسنة والهرسك ، وما يفعله الصهاينة في فلسطين المحتلة منذ قرن من الزمان ..!).
إنه
التحدي الذي تمارسه الهمجية الشرسة في تعاملها مع الآخر ، وخاصة المسلم ، وهو ما
يجعل بناء الكنائس الخليجية يأتي في هذا الإطار الذي لا تفرضه طبيعة الواقع ، ولا
الضرورة الاجتماعية التي تنبع من التسامح والمودة والمواطنة المشتركة ..
في
السياق نفسه يأتي الإلحاح من أقلية الأقلية الطائفية في مصر على مسألة بناء الكنائس
أمرا مرادفا للإذلال العام ، ومع أن أحدا لم يشاهد نصرانيا يصلى خارج الكنيسة كما
يفعل المسلمون يوم الجمعة مثلا ؛ حيث يصلون بجوار المساجد التي تضيق بهم فيضطرون
لافتراش المساحات والشوارع المحيطة لأداء صلاتهم ؛ فإن " البلاك ووترز" الذين وظفهم
خصوم الأمة لا يكفون عن التحدي والمطالبة بزرع الكنائس في كل مكان ، بل اختيار
مداخل المدن وواجهاتها ؛ اعتقادا منهم أن ذلك سيعطي الوطن هوية غير إسلامية ، ويؤكد
على هيمنة الأقلية ، وتوغلها الظافر في الواقع الاجتماعي !
من
هذا القبيل مثلا ما نشرته الصحف مؤخرا عن غضب النصارى لإنشاء محطة بنزين في مدينة
الرحاب بالقرب من كنيسة المدينة . فقد رفضوا إنشاء هذه المحطة ، وقام خمسون شخصا
منهم برفع قضية أمام المحاكم يتضررون فيها من المحطة خوفا على أرواح المصلين (!!)(
المصري اليوم 22/3/2008م).
علما أن كثيرا من المساجد تجاورها محطات بنزين وورش ميكانيكية وغيرها ولم يتضرر
منها أحد منذ اختراع السيارات حتى الآن !
المفارقة في الأمر ، أن أرض الكنيسة المذكورة مهداة من الشركة المالكة لمدينة
الرحاب ، ولم تتقاض عنها الشركة أية أموال أو مقابلا ، وكانت ضمن مخطط المدينة الذي
ضم رسوما هندسية لمحطة البنزين في مكانها المتضرر منه !
التحدي منهج في الإذلال العام ، اتبعه الصليبيون في الأندلس قبل سقوطها ، وهو أمر
يتناقض مع قيم النصرانية السمحاء وأخلاق المسيح عليه السلام، الذي يأمر بالمودة
والمحبة وإدارة الخد الأيسر بعد الخد الأيمن ومباركة اللاعنين .. ولكن نجاح خصوم
الأمة في تحريك الأقلية وتشجيعها وإمدادها بالمال والميديا الكاذبة ، جعل التحدي
يقوى ويشتد ، وهو ما يرسب بالضرورة مشاعر مناهضة ، قد تترجم إلى مواقف على الأرض لا
يحبها من يتوقون إلى الأمن والسلام !
وإذا كانت السلطة البوليسية الفاشية تصر على أن السياسة لا دين فيها ، والدين لا
سياسة فيه ، وتعدل الدستور والقوانين لتحرم الأغلبية من التعبير عن معتقداتها
ومشاعرها الإسلامية ؛ فإننا نجد التحدي لدي الأقلية يخترق الدستور والقوانين جميعا
. وتأمل مثلا موقف كنائس المنصورة من الاحتجاج على الحزب الحاكم صاحب الدستور
والقوانين ؛ لتجاهل ترشيح بعض النصارى الذين اختارتهم هذه الكنائس على قائمته ، وقد
أعرب الأنبا داود مطران الكنائس الأرثوذكسية في المنصورة عن استيائه من تجاهل الحزب
لترشيحات الكنائس حيث لم يأخذ بكل المرشحين !! ، واحتج القس فيليبس كاهن كنيسة
الشهيد اسطفانوس في المنصورة قائلا : إنه لا يجوز ترشيح ثلاثة من النصارى فقط
ليمثلوا سبع كنائس (!)في المحليات بمختلف مستوياتها وسط هذا العدد الكبير من
المسلمين ( المصري اليوم 19/3/2008م)، الكنيسة ترشح النصارى وليس النصارى هم الذين
يرشحون أنفسهم ، ويشاركون بقية مواطنيهم في العمل العام ، لأن المسألة صارت فرزا
دينيا صاخبا يعلن التحدي جهارا نهارا !!
ترى
هل يقدر شيخ الأزهر أو فضيلة الجنرال الدكتور أو المفتي أو مجمع البحوث الإسلامية
على التقدم بترشيح أحد أو الاعتراض على ترشيح أحد ؟
إن
التحدي السافر النابع من الاستقواء الخارجي يبدو أحيانا أمرا طبيعيا في سياق الضعف
الحضاري وتهالك النظام على الاحتماء بخصوم الأمة ، بيد أن المستقبل في ظل هذا الوضع
ينذر بكوارث قد لا تبقي ولا تذر ، خاصة إذا كان هذا التحدي مدعوما في الداخل
بمجموعات من الأبواق المأجورة المنتمية إلى اليسار المتأمرك وأشباهه ، وهي أبواق لا
تعرف غير مصالحها ، والأرباح المادية والمعنوية التي ستعود إليها!