فداء.. وأحرار سورية ..
فداء.. وأحرار سورية ..
والصمت الإعلامي العربي
جان عبد الله
في الخمسينيات من القرن الماضي ، كان العامل الوحدوي عاملا جماعيا يجمع شمل العرب في مختلف أقطارهم ، رغم اختلاف أوضاعهم الرسمية والشعبية و الحزبية ، ويتفاعل هذا العامل مع الأحداث الهامة التي واجهها شعبنا في سورية ومصر والعراق و لبنان ، من تمويل السد العالي إلى تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر وحلف بغداد و مقتل العقيد عدنان المالكي ، لكن الأمور ازدادت تفاقما مع ازدياد حمى الصراعات الدولية الكبرى في مرحلة الحرب الباردة ، وكان شعبنا السوري يجد في هذه الظروف الصعبة حليفا له ومناصرا على ضفاف النيل ودجلة وفي الأردن ولبنان الشقيق .
لكننا نلاحظ مع الأسف ، منذ عقود أربعة أن إخواننا في بعض الأقطار العربية ، قد تركوا السوريين يواجهون قدرهم بنفسهم رغم الأهوال التي تلم بهم ، فعندما ارتكب النظام السوري القائم ، مجازر في حماة وتدمر و جسر الشغور وحلب وباقي المحافظات ، صمتت الإذاعات العربية كما صمتت إذاعة لندن و مونت كارلو وصوت أمريكا ، وكأن هذه الجرائم ترتكب في كوكب آخر.
أما اليوم .. فإن زمرة النظام تتابع اعتقال الأحرار لا لذنب اقترقوه ، وإنما لأنها لا تحتمل كلمة حق تقال في وجهها سلميا ، و إلا فما معنى اعتقال فداء الحوراني و أحمد طعمة و علي العبدالله وجبر الشوفي و محمد ياسر العيتي و أكرم البني و وليد البني ؟؟؟ ، رغم أن الشعب السوري كله يعيش في حالة اعتقال دائم وسجن كبير ، فهنيئا لكم يا أحرار الوطن ، وهنيئا لك يا فداء ، ولكم أن تفخروا بنضالكم هذا .
ولفداء الحوراني أقول : لقد استحقيت بجدارة شرف حمل الإرث النضالي لوالدك ولمدينتك حماة التي تتمتع بشيء من الفرادة بين المدن السورية ، منحتها لقب الحصن المنيع وحاضرة البوادي ، ووالدك يافداء ... زرع الثقة لدى الطبقات الشعبية الفقيرة ، وفقد في إحدى صدامات هذه الطبقة أخاه واصل و ابن اخته غالب الشيشكلي .
لقد كان والدك ... صاحب رؤية وطنية وسياسية واضحة ، ميزته على كثيرين من زملائه ورفاقه في البرلمان والحزب ، فلبى نداء ثورة العراق عام 1941 مع رفاق له ، من أمثال جمال الأتاسي و توفيق شاتيلا ونخلة كلاس و أدهم عكاش وغيرهم ، بعد أن كان سبقه إليها إبن عمه عثمان الحوراني و فوزي القاوقجي .
والدك ... ترك مع الدكتور عبدالسلام العجيلي ، مقعده في البرلمان ، و عبر عن طريق لبنان يوم 9 كانون الثاني 1948 ، سيرا على الأقدام إلى الجليل في فلسطين ، مع رفاقه الذين تجاوز عددهم الثلاثمائة من أمثال الدكتور فيصل الركبي و خليل كلاس وعلي عدي وعبدالكريم زهور و آخرين .
والدك .... كان رمزا للوطنية و النضال لجيلنا ، حيث كنا مجموعة من طلاب جامعة دمشق ، نزوره في منزله الكائن بجانب ساحة العباسيين في الجهة المقابلة لكنيسة الروم الكاثوليك ، بعد أن استقال من نيابة رئاسة الجمهورية العربية المتحدة ، نهاية عام 1959 ، كنا نزوره لنتزود بنصائحه و توجيهاته رغم مضايقة المفرزة الأمنية التي كانت ترابط في مدخل المنزل وتاخذ أسماء الداخلين و الخارجين .
لقد أغمط تاريخ سورية الحديث حق هذا الرجل الذي كانت تؤرقه فكرة تعميد مبادئه بالنضال الحقيقي ، و اكتفى بما يروجه له الإعلام الأجنبي .
ويحق لك يا فداء أن تفخري بمدينتك حماة ، عالية الجبين والجدران ، وليس كما ذكرت الأخت منهل السراج في مقالها بأنهم ( استوطوا حيطها ) ، لقد قاومت هذه المدينة الباسلة قرابة ثلاثين يوما ، عندما طوقتها قوات غدر النظام ، في الثاني من شباط 1982 ، وابتدأت بقصفها وتدمير البيوت و المساجد و الكنائس فيها ، لترتكب أفظع مجزرة وحشية يندى لها جبين الإنسانية ، حيث قدر الخبراء عدد القتلى يومها من 32 إلى 50 ألفا ، ناهيك عن الأعداد الكبيرة للمفقودين والمهجرين الذين تجاوز عددهم أكثر بكثير من هذا الرقم ، وإني لأذكر أن مدينة دمشق وحدها استقبلت قرابة خمسين ألفا من هؤلاء المهجرين ، هذا عدا الذين استطاعوا عبور الحدود إلى العراق و الأردن ، ولقد تم خلال هذه الجريمة تدمير 54 مسجدا وكنيستين كبيرتين ، وكل هذه البشاعة لم تستصرخ الضمير الإنساني و لا ضمير القائمين على أجهزة الإعلام العربي والغربي في وجه هذه الزمرة التي تحكم بشريعة الغاب .
مدينتك يا فداء ... أعطت سورية جناحا كبيرا من الوطنيين العسكريين الذين لعبوا دورا مشرفا في تاريخ سورية الحديث ، من أمثال مصطفى حمدون و عبدالغني قنوت و يوسف المير و ممدوح الشاغوري و كنعان حديد و نعسان زكار و عبدالغني عياش و عدنان حمدون ... والقائمة تطول .
اعتقالك يا فداء ....مع الأحرار السبعة مؤخرا ، إنما هو إذلال و إهانة للشعب السوري وتحطيم لرموزه الذين صنعوا هويته الوطنية .
اعتقالك يا فداء ...بدعة جديدة لزمرة هذا النظام ، وهو اعتقال للمعنى الوطني السوري ، فليحذر هؤلاء من انتفاضة هذا الشعب الذي سيحطم يوما كل هذه الأصفاد ، لأنه يريد نظاما عقلانيا مدنيا ، يستند إلى المنظومات الدستورية الشرعية و إلى مبادئ حقوق الإنسان و شرعة الأمم المتحدة ، بعد أن انحطت مكانة سورية عربيا و دوليا على أيدي هذا النظام الفاسد ، حتى بدت في أنظار العالم أجمع و كأنها مملكة للمافيا ... وليست جمهورية شعب أبي .
أخيرا ... فإني لأخشى مع الكثيرين أن يكون الغرض من اعتقالك ، هو إثارة جديدة للنزعات الانتقامية و الثأرية المتراكمة والتي ( لا سمح الله ) قد تترافق مع الشحن الطائفي والمذهبي الذي يمكن أن يؤدي إلى مزيد من التفكك الاجتماعي و تمزيق للوحدة الوطنية.