مصر وقوتها الناعمة...!!

حسام مقلد *

[email protected]

لا شك أن أي متابع موضوعي منصف للدور المصري على الساحة الخارجية يلحظ الآن وبوضوح شديد انحساراً بل تآكلا مستمرا في قوة مصر الناعمة في دوائر عدة من المجالات الحيوية شديدة الأهمية لمصر الدولة والشعب والمكانة والتاريخ، بغض النظر عن الحاكم أو الحكومة أو السلطة الحاكمة، ومصطلح القوة الناعمة أو الـ (Soft Power) من المصطلحات الحديثة نسبيا في هذا المجال، وقد طرحه خلال التسعينات الدكتور(جوزيف ناي) رئيس مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي، ومساعد وزير الدفاع في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون.

وتعد القوة الناعمة أحد أبرز أشكال القوة التي تستخدمها الدولة في سياساتها الخارجية، وتشكل إطارا عاما من الأنماط والسلوكيات الثقافية والدبلوماسية والسياسية تسعى من خلالها إلى حماية مصالحها، والترغيب في إقامة العلاقات المتينة معها، وتحقيق أهدافها والترويج لأفكارها وسياساتها وأيديولوجياتها المختلة، دون اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية الخشنة أو الـ (Hard Power) وبدهي أنه ينبغي ألا تتبنى الحكومات تفعيل قوتها الناعمة بطريقة فِجَّة؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى نتائج عكسية، وفي الواقع فإن العديد من مظاهر القوة الناعمة يجب ألا ترتبط بالحكومات مباشرة، رغم أنها قد تساهم جزئياً في تحقيق أهدافها، وتكمن أهمية القوة الناعمة في أنها تجعل للدولة ثقلا إقليميا ودوليا، إضافة إلى العناصر الإستراتيجية الأخرى التي تزيد من قوة الدولة ومكانتها العالمية.

ومن الملاحظ أن كثيرا من الدول بعد انتهاء الحرب الباردة اتجهت بقوة نحو تفعيل مصادر وعناصر قوتها الناعمة، ومظاهر ذلك آخذة في التصاعد والازدياد، خاصة في عصر العولمة والمعلوماتية والسماوات المفتوحة، فعلى سبيل المثال أصبحت الدراما التركية (خاصة المسلسلات) أحد أبرز وسائل السياسة الخارجية التركية في العالم العربي ضمن القوة الناعمة لتركيا، واستطاعت هذه الدراما أن تحدث تأثيرا إيجابيا لدى الكثير من المشاهدين العرب، وقد تزامن ذلك مع عودة الدور التركي ( العثماني...!!) في العالم الإسلامي، والمواقف الإيجابية الرائعة والمشَرِّفَة التي اتخذتها تركيا ( وبخاصة رئيس وزرائها السيد رجب طيب أردوغان) تجاه القضايا العربية المصيرية، لاسيما القضية الفلسطينية والقدس، والموقف التركي المشرف إبان حرب غزة الأخيرة...!!

 

في المقابل يرصد الباحثون تراجعا مصريا دراماتيكيا في معظم المجالات: ففي مجال الدراما لا تنازع في حقيقة تراجع الدور المصري لصالح الدور السوري، وفي المجال الإعلامي اكتسحت فضائية الجزيرة القطرية بمهارة وجدارة واستحقاق وحرفية وجودة عالية سوق الخبر وصناعة الرأي العام، وصياغة وتشكيل ميوله وتوجهاته، على حساب القنوات المصرية العتيقة التي لا تتمتع بمصداقية كبيرة (...!!)حتى لدى البقية الباقية من مشاهديها، وفي الحضور السياسي والدبلوماسي العالمي بدأت الأنظار تتطلع إلى عواصم وحواضر عربية أخرى كالدوحة والرياض ، وتبتعد ـ شيئا فشيئا عن القاهرة وشرم الشيخ ـ وسيشكل ذلك حتما على المدى البعيد ضربة قوية للنفوذ الثقافي والحضور السياسي والدبلوماسي المصري.

في الحقيقة وبصراحة شديدة لا بد من مراجعة شاملة وفورية لمجمل الوضع المصري برمته وبكل تداخلاته وتعقيداته وتشابكاته المختلفة لمعرفة أسباب هذا التردي العام الذي أدى إلى تآكل القوة الناعمة المصرية بهذا الشكل المذري، ففي  الوقت الذي تتعاظم فيه قوى الدول الأخرى، ويتغير العالم من حولنا لا زلنا نتعامل بقدر كبير من التعالي والغرور وازدراء الآخرين، واحتقار آرائهم، وتهيمن النظرة الضيقة لمصالحنا الوطنية العليا على صناعة القرار، وتغيب الرؤية الإستراتيجية بعيدة المدى، ويدافع عن هذه النظرة أشخاص أحاديو التفكير انفراديون يهمشون الآخر، ولا يقيمون له وزنا، ويتصرفون في غطرسة وشيفونية زائفة!!

وهذه الطريق لو استمرت بنفس الأسلوب فمن المؤكد أنها ستؤدي إلى انقراض قوتنا الناعمة وزوالها تماماً، فالكثير من دول العالم في عالمنا العربي وإفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية قد تغير بالفعل وأصبح يساير عصر المعلوماتية ومجتمع المعرفة، بينما لا تزال مصر (بمؤسساتها الضعيفة الهشة، ونظام حكمها المركزي المتسلط ...!!) محصورة (أو محاصرة ) في تراث المجتمعات التقليدية المتخلف ( التي يسميها جوزيف ناي بالمجتمعات ما قبل الصناعية) بينما تنهض وتنطلق دول أخرى مثل الصين والهند والبرازيل بما لديها من اقتصاديات قوية وما تمتلكه من منظومة إدارية شفافة لها آليات وقوانين محددة تطبق على الجميع دون أي محسوبيات أو تلاعب.

إن أحدث حصاد مرٍّ جنته مصر من سياسات التعالي على مجالها الحيوي في عالمها العربي وقارتها الأفريقية يتمثل في فشل مؤتمر شرم الشيخ لدول حوض النيل، واتجاه دول المنبع السبع للانفراد بالقرارات المهمة المتعلقة بمستقبل مياه نهر النيل الذي يمد مصر بنحو(98%) من احتياجاتها من المياه العذبة التي هي الحياة !! في نفس الوقت الذي تتواجد فيه إسرائيل بكثافة في هذه الدول وتقيم معها علاقات دبلوماسية واقتصادية حميمة، ودخلت دول أخرى على الخط للاستثمار في دول حوض النيل مثل الصين وإيطاليا وإيران...!!

أما مصر فقد حصرت عزتها وكرامتها الوطنية بكل شيفونية في مباراة كرة قدم... واكتفت من أفريقيا ببطولات كأس الأمم الأفريقية...!! نصيحة أقولها مخلصاً لكل من يهمه الأمر (...): إذا ما استمرت الاتجاهات السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والاجتماعية السائدة حاليا في مصر أم الدنيا وأرض الكنانة فلا تبتئسوا ولا تحزنوا إن ضاعت كل قوتنا الناعمة وغير الناعمة، وانتقلت الزعامة والقيادة في المنطقة إلى أيدٍ أخرى أكثر مهارة وإتقاناً، وعقول أكثر وعياً ونضجاً، وأسرع فهماً وإدراكاً للمتغيرات الدولية المتلاحقة!!!

              

 * كاتب إسلامي مصري