حكومتنا تقيم وليمة لأعشاب البحر

حكومتنا تقيم وليمة لأعشاب البحر

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

في هذه الأيام المكروبة المنكوبة في ظل حكومة الحزب الوطني، يقفز إلى ذهني ذكرى الرواية الخسيسة الساقطة "وليمة لأعشاب البحر" للسوري حيدر حيدر، وقد قامت الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر بإعادة طبعها سنة 2000م.

كلها إفرازات جنسية قذرة وإساءة صريحة للدين والرسول، والقيم، والأخلاق. مما دفع النقاد من أصحاب الكلمة النظيفة إلى الحملة عليها. ولكن رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة التي قامت بطبع الرواية الساقطة وصف الحاملين عليها بأنهم مجموعة "فشلت في أن تحكم بالقوة والسلاح فأرادت أن تحكم حركتنا..." أخبار الأدب 7 / 5 / 2000م.

وأحمد الله تعالى إذ مكنني من أن أكتب كتابًا في نقض هذه الرواية الهدامة بعنوان "رواية وليمة لأعشاب البحر في ميزان الإسلام والعقل والأدب" صدر سنة 2000م عن دار الاعتصام بعد طبع "هذه الرواية الجريمة" بعدة أشهر.

وقد أعطى حيدر حيدر روايته هذا العنوان؛ لأن واحدًا من أهم أبطالها، وهو "مهدي جواد" انسحب من الحياة وألقى بنفسه في البحر منتحرًا؛ ليكون طعامًا أو "وليمة لأعشاب البحر" .

* * * *

قلت لصحابي وهو يحاورني: إن هذه الرواية لها مؤلفان: مؤلف نظري هو حيدر حيدر... ألفها حروفًا وكلمات، ومؤلف عملي هو حكومة الحزب الوطني التي كانت السبب في جعل شبابنا "ولائم لأعشاب البحر". قال صاحبي: لم أفهم.

قلت: فلنبدأ المسيرة من أولها:

من تقرير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان:

ذكرت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان أن سواحل كالابريا (جنوب إيطاليا) استقبلت 14 زورقًا محملة بأكثر من 1500 مهاجر غير شرعي معظمهم من المصريين، وذلك خلال الربع الأول من هذا العام استنادًا إلى إحصائيات صادرة عن سلطات الأمن الإيطالية.

ووفق الإحصاءات، فإن إجمالي عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين دخلوا إيطاليا عام 2007 عن طريق البحر يبلغ نحو 1419 مهاجرًا، فيما لقي 500 مهاجر مصرعهم غرقًا بالبحر المتوسط حتى الآن مقابل 302 مهاجر فقط خلال عام 2006 بأكمله.

وتشير الإحصائيات أيضًا إلى أن عدد الشباب المصريين الذين تم ترحيلهم من دول جنوب إفريقيا خلال عام 2006 بلغ 6748 شابًا.

وقالت المنظمة في تقريرها إن الفيوم سجلت أعلى نسبة بين المحافظات المصرية في هجرة شبابها لأوروبا، وإن قرية "تطون" تعد الأشهر على مستوى الجمهورية في هجرة الشباب خاصة إيطاليا، حيث يقدر عدد أبنائها في إيطاليا بحوالي ستة آلاف شاب من 40 ألف نسمة هم إجمالي سكان القرية، ويقال إن اسمها مأخوذ عن اسم أحد شوارع إيطاليا.

وتطلق القرية التابعة لمركز أطسا بالفيوم أسماء إيطالية على المحال التجارية بها، حسب التقرير. وتحظى هذه القرية بشهرة عريضة، حتى إن الكثير من المواقع على شبكة الإنترنت وبينها الموسوعة الشهيرة "ويكبيديا" استرعتها ظاهرة هجرة شباب القرية إلى أوروبا وإيطاليا على وجه الخصوص.

والقرية التي تقع في الجنوب الغربي لمحافظة الفيوم، تعتمد في اقتصادها على التجارة وبعض الزراعات، لكنها وجدت في السنوات الأخيرة أن السفر للخارج أوروبا وإيطاليا تحديدًا يعد مصدرًا ثمينًا.

وتعتمد هذه القرية على الهجرة إلى إيطاليا منذ السبعينيات من القرن الماضي، لكنها أولاً كانت هجرة شرعية، إلا أن الكثير من شبابها سعى في الآونة الأخيرة إلى الهجرة بشكل غير شرعي عبر البحر من ليبيا.

وحول الأسباب والدوافع للهجرة غير الشرعية للشباب المصري، أكد التقرير الحقوقي أنها ظاهرة عالمية، لكن الدوافع الاقتصادية في مصر تأتي في مقدمة أسبابها، وأهمها ارتفاع مستويات الفقر، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتفشي البطالة وعدم توافر فرص عمل.

وحسب التقرير، فقد زادت نسبة البطالة خلال الأعوام الماضية، حيث وصلت إلى 10% عام 2002، وفي عام 2003 زادت النسبة إلى 10.7% ، وزادت هذا العام إلى أكثر من 11%، وهو ما شكل دافعًا لدى الشباب للهجرة بشكل غير شرعية، بعد فقدان الأمل في إيجاد فرص العمل سواء في تخصصاتهم أو حتى في غيرها، وأصبح البحث عنها كالحلم الذي يلوح من بعيد ولا يستطيع أحد تداركه.

وعن طرق الهجرة، قالت المنظمة الحقوقية إن الشباب المصري يقع في دائرة المحظور من خلال اللجوء إلى سماسرة السوق ومكاتب السفريات غير القانونية ووسطاء الهجرة الذين يتقاضون من كل شاب ما يقرب من 30 ألف جنيه للسفر، وتنتشر على الحدود مع ليبيا أو في بعض محافظات الصعيد عصابات للنصب على الشباب، وتتقاضى منهم مبالغ طائلة بدعوى توفير فرص عمل لهم في إيطاليا أو أوروبا ثم يهربون بهذه الأموال دون أن يحاسبهم أحد.

وأكد أن رحلة الشباب تنتهي؛ إما بالموت أو السجن والترحيل، إذ أنه بسبب عدم توفر الوعي لدى هؤلاء الشباب بمخاطر الهجرة غير الشرعية يلقون حتفهم وهم في طريقهم إلى أحد الموانئ الإيطالية، حيث يتم تسفيرهم على متن مراكب قديمة ومتهالكة والنتيجة غرقهم وسط البحر المتوسط، وحتى من ينجو منهم ويصل إلى ايطاليا يعتبر مخالفاً للقوانين الإيطالية، ويتم إعادته مرة أخرى إلى أرض الوطن مرحلاً مهانًا إلى بلده مرة أخرى.

وأشار التقرير لوجود العديد من الطرق لتهريب المهاجرين غير الشرعيين، منها الطرق البرية عن طريق التسلل إلى ليبيا، حيث يتم تهريب المهاجرين إلى إيطاليا ومالطا وعن طريق الأردن يتم تهريب المهاجرين إلى قبرص واليونان أو تركيا.

   آخر شخص اتصل به الغرقى يحكى  لصحفية أسرار عمليات التهريب:

ومن روايته للصحفية شيماء جمعة نقتطف بعض ما باح به لها:

_ ...............

- سافرت اليونان من 10 سنوات عن طريق التهريب وبعدها تمكنت من الحصول على الإقامة .

 - ...............

- يوجد طريقان للتهريب من تركيا إلى اليونان أو أي دولة أوربية يتجمع المهربون فى أزمير ومعهم الأفراد الذين يريدون الهرب وبعدها يحدد الطريق إما بحرى وهو الأرخص يتكلف من 1.5 : 3   ألاف يورو وخطورته فى مراكب الصيد التى يستخدمها الهاربون فهى مراكب غير صالحة للاستخدام وموقوفة عن العمل مثل السلام 98.

- ...................

- المهرب يستخدم الهاربين فى تهريب المخدرات او السلاح او أى شئ . فقط يختار شخصا منهم ويعطيه شنطة لا يعرف الآخر ما بها , وحتى لو عرف ما بها لا يمكنه الرفض لآن القتل أقل حاجة ممكن يتعرض لها فى هذه الحالة

- .......................

- مندوبو السفارة المصرية بيذلونا هناك أى حاجة بأسعار مرتفعه جدا ومعاملة سيئة مثلا لكى تحصل على جواز السفر تدفع 125 يورو بدون وصل  يضعهم المندوب فى جيبه أمام عينك غير انه يعطلك لأيام طويلة وفى النهاية البيانات خاطئة والأسماء مكتوبة غلط ,  وللحصول على ختم على أى ورقه تدفع 25 يورو.

- ......................

- أول مرة سافرت اليونان كان اليونانيون يستغربون كيف أكون مصريا وأذهب للعمل لديهم بعد أن كانوا هم يعملون لدينا وقال لى أحدهم أنت من بلد غنى جدا , قلت له غنى بس مسروق .

- .....................

- حاولنا الدخول إلى اليونان بالطريقة الشرعية ووفينا كل الشروط من وضع حساب فى البنك وإجادة اللغة الإنجليزية وغيرها ولم يتم الموافقة على إعطائنا التأشيرة فاضطررنا للذهاب بهذه الطريقة .

- .......................

- يوجد فى اليونان وحدها 300 شخص من بساط كريم الدين .

 - ........................

- ظروف المعيشة هى التى أجبرتنا على ذلك , الناس هنا عايشه تحت الصفر ب50 كيلوا ’ شخص مثل مختار سراج أحد الناجين عمره 37 سنة ولدية أربعة أبناء يعيش هو وإخوته الخمسة فى بيت بالطوب النئ كل فرد متزوج ومعه أطفال كل واحد فى حجرة والحمام مشترك يبقى الموت مش ها يفرق معاه فى حاجة ولو عاش ها يعيش الناس دى كلها .

 - .......................

-المجموعة دى كان فيها 15 فرد من بساط كريم الدين قبل ما يسافروا من تركيا كانوا على اتصال بى . وقالوا لى تعال معانا بس رفضت واستمر الاتصال بينا إلى أن خرجوا فى المياه وبعد يومين رجعوا تانى لأن البحر كان عالى والجو برد وبعد ذلك  سافرو تانى وانقطع الاتصال حتى عرفت أن مختار فى المستشفى. وبقية الحكاية معروفة .

***

وآخر هذه الولائم ما نشر في الصحف المصرية ومنها الأهرام يوم 13 / 12 / 2007م تحت عنوان غرق مركب عليها تسعين شخصًا قرب سواحل تركيا.

وفي الأهرام يوم 15 / 12 / 2007 نقرأ العنوان المأساوي الآتي:

انتشال 49 جثة بينهم 42 مصريًّا ـ ربان المركب الغارقة أمام تركيا كدسها بـ 90 راكبًا، برغم أنها تتسع لـ 15 فقط.

والنيل أيضًا:

وكذلك النيل يبتلع 16 شخصًا رابع يوم العيد كانوا يركبون ميكروباص سقط بهم من سطح معدية دير مواس، نقص الكباري على النيل سبب انتشار المعديات المتهالكة (الأهرام 23/12/2007م).

وقال المواطنون: إن هذه المآسي ستستمر  بسبب تهالك المعديات، وعدم وجود كباري على النيل.. حيث لا يوجد في كل محافظة من محافظات الصعيد سوى كوبري واحد في العاصمة، باستثناء قنا التي يوجد بها أربعة كباري؛ لأنها تمتد على النيل لمسافة 260 كيلو مترًا. وهي أطول محافظة من محافظات الصعيد من حيث الامتداد الطولي على النيل.

وقد انتقد أهالي قرى شرق النيل بدير مواس إهمال المسئولين في إعداد المراسي بصورة سليمة تحافظ على أرواحهم وأشاروا إلى أن معدية الوحدة المحلية التي تقل الأهالي من جزيرة التل إلى تل العمارنة معطلة منذ أكثر من 14 شهرًا مما يضطر الأهالي إلى استخدام المعديات واللنشات الخاصة التي تعمل بين مرسى دير مواس ومرسى الحاج قنيدل، خاصة أن المعدية التابعة للوحدة المحلية، والتي تخدم سكان الحاج قنديل لا تعمل بسبب انخفاض منسوب المياه في النيل.

ونشرت مجلة المصور تحت عنوان: "حوادثها مستمرة حتى إشعار آخر ـ معديات الموت عددها 10 آلاف.. أغلبها متهالك وبدون ترخيص".

لن تتوقف معديات الموت عن حصد أرواح الأبرياء، ولن يكون حادث دير مواس بالمنيا الذي راح ضحيته 17 شخصًا هو الأخير، فقد يتكرر الحادث في أي لحظة في ظل وجود ما يقرب من (10) آلاف معدية متهالكة أغلبها بلا ترخيص . وتعاني من غياب الصيانة والرقابة تنتشر في أغلب محافظات مصر بل في العاصمة نفسها، ففي القاهرة الكبرى معديتان الأولى تربط بين المعصرة والحوامدية، والثانية بين البدرسشين وحلوان تنقل بشرًا ومواشي وسيارات، وتعمل معدية المعصرة منذ ما يقرب من ربع قرن ولا تجد الصيانة اللازمة. (المصور 28/12/2007م).

***

 وسبب هذه الكارثة هو " الإهمال الجسيم" من المسئولين. وللأسف كل العالم يؤمن عمليًّا بقاعدة "الوقاية خير من العلاج".  أما مسئولونا فيؤمنون ـ نظريًّا ـ بأن العلاج خير من الوقاية.. أقول نظريًّا ؛ لأن العلاج يأتي من قبيل المواساة: لا يتعدى انتقال الكبير جدًّا لموقع الحادث، أو أنه يتابع بنفسه حالة الضحايا .وينتهي الأمر بصرف مبلغ من المال لأسر الضحايا. وتعود ريمة لعادتها القديمة!!!

قال صاحبي: ولكن ما ذنب الحكومة في غرق شباب خاطروا بحياتهم باختيارهم دون علمها؟

قلت: هل نسيت أن في القانون ما يسمى "جريمة القتل بالترك"، ومثالها أن تترك الأم رضيعها دون إرضاع حتى يموت..؟. الحكومة تركت هؤلاء ليصلوا إلى  أقصى درجات اليأس، وسنعود لهذه النقطة. أتذكر كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو عثرت بغلة بالعراق لكنت المسئول عنها أمام الله لِمَ لَمْ أسو لها الطريق" ؟ إنها كلمة ترمز إلى شمولية مسئولية الحاكم في الإسلام. والإسلام يُجرِّم المسبب الأول الأصيل، قبل الفاعل الأخير المباشر.

ورحم الله عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حين جاءه صحابي يشكو خادمه؛ لأنه سرق منه... وطلب منه أن يقيم عليه حد السرقة، وهو قطع اليد، فأقر الخادم بأن سيده صادق، ولكنه يجيعه فهو يضطر أن يسرق ليأكل. فقال عمر للشاكي: لو سرق خادمك بعد ذلك لقطعت يدك أنت.

يا صاحبي: أنا لست مسرفًا حين أقول أن حكومتنا الرشيدة هي المسئول الأول عن مصرع هؤلاء الشباب؛ لأنهم يعيشون عهدًا من البطالة والفقر، وأزمة المساكن، وغلاء الأسعار، وديكتاتورية الحكم، وكبار ينهبون ويهبشون... حاضر ضائع ومستقبل مظلم.

ومع ذلك نجد من الكبار من يصف هؤلاء الشباب بالغباء، ومخالفة القانون، وآخرون من الكبار يتهكمون عليهم، ويقول بعضهم؛ لو أن هذا الشاب ـ بدلاً من أن يدفع 20 ألف جنيه ـ للهجرة غير المشروعة، وأقام بالمبلغ مشروعًا لكان هذا أنفع له وللوطن.

وأنا أسأل هؤلاء الكبار أن يدلوني على مشروع يتكلف هذا المبلغ فقط. يا سادة أنتم تعيشون في عالم آخر... أنا أعرف كهربيًّا دفع لصاحب العمارة 25 ألف جنيه ليأخذ مكانًا يضع فيه باترينة في مدخل العمارة على الحائط , ليعرض بعض الأشياء الكهربائية، ويضع لافتة تعلن عنه.

والشيء المؤسف أن المشكلات تزداد تفاقمًا وسوادًا وضياعًا، وأصبح من حق المواطن المصري أن يردد قول الشاعر:

رُبَّ يومٍ بكيت منه فلما             صرت في غيره بكيت عليه

من توابع سياسة الحكومةة:

والناظر إلى أحوالنا حاليًا لا يجد إلا المصري اللامكترث... اللامبالي؛ لأنه لا يجد أمامه القدوة الحسنة من الكبار حتى يقتدي ويلتزم، وأصبح الإهمال في كل الأوساط: فمن آخر ما قرأنا حادث مترو الأنفاق الذي تركه السائق ليتشاجر مع الركاب فكانت النتيجة خروج المترو عن خطه، واقتحامه أماكن أخرى أدت إلى ضحايا كثيرين.

أما ما يرتكبه رجال الأمن من استخدام طرق لا إنسانية مع المواطنين، قد تؤدي ببعضهم إلى الموت، فذلك أصبح شيئًا عاديًّا.

ولا يمضي يوم دون مأساة، ومن أواخرها انهيار عمارة الإسكندرية ومصرع قرابة ثلاثين شخصًا، يقولون إنها كانت مخالفة. وبعدها ثبت أن الإسكندرية بها عشرات الآلاف من العمارات المخالفة والمهددة بالسقوط، ودفن آلاف المواطنين تحتها. والرشوة اصبحت الوسيلة المثلى عند السادة الكبار ...جدا .

فالمصري للأسف يعيش الآن غريبًا في وطنه، والحال تسوء وتسوء، وكل يوم تصريحات برفع مستوى المواطنين وانحياز الدولة إلى جانب الفقراء ومحدودي الدخل، أما أمراض الكبار من سرقات، وانتهابات، ورشاوى، ونفاق، وإسراف فهذا يحتاج إلى كلام كثير وكثير.

وأعتقد أن ـ ولائم لأعشاب البحر ـ لن تتوقف أبدًا، ما دام الوضع في وطننا المسكين المطحون بهذه الصورة المؤسفة التي لم ير المواطن مثلها على مر العصور.